|
أرض كنعان التاريخية
عضيد جواد الخميسي
الحوار المتمدن-العدد: 8412 - 2025 / 7 / 23 - 17:08
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
كنعان اسم دولة قديمة واسعة ومزدهرة ( تارة مستقلة وأخرى تابعة لمصر ) تقع في بلاد الشام (لبنان، سوريا ،الأردن، وفلسطين) حالياً . وكانت تُعرف أيضاً باسم فينيقيا . ويعود أصل اسم "كنعان" إلى نصوص قديمة مختلفة ، ولا يوجد إجماع علمي على أصله الدقيق أو معناه . إذ أن السومريين قد أشاروا إلى المنطقة الغربية بشكل عام باسم "مارتو" (بما في ذلك ما عُرف لاحقاً باسم كنعان). أمّا مصطلح "كيناهو" (وهو ترجمة أكدية مباشرة لكلمة "كنعان") لم يظهر إلا لاحقاً، والذي جاء في المصادر المدوّنة باللغة الأكدية مثل رسائل تل العمارنة، إلا أنه لم يرد في النصوص السومرية. وحسب ما جاء في الكتاب العبري ، سُميت الأرض تيمناً برجل يُدعى "كنعان" حفيد نوح : "وَبَنُو حَامٍ: كُوشُ وَمِصْرَايِمُ وَفُوطُ وَكَنْعَانُ" (سفر التكوين،الأصحاح العاشر ؛ 6). وتشير نظريات أخرى إلى أن كلمة "كنعان" مشتقة من اللغة الحورّينية وتعني "الأرجوان". والإغريق كانوا يعرّفون شعب تلك الأرض باسم " الفينيقيون " (وهي كلمة يونانية تعني ـ الأرجوان)، ولأنهم كانوا يعملون في الصبغة الأرجوانية؛ لذا أطلق عليهم الإغريق اسم "الشعب الأرجواني"، وهذا التفسير ربما هو الأرجح. كما طُرحت نظرية مفادها أن الاسم مشتق من الجذر العبري " كانا"، الذي يدل على النظام المنبثق من الفوضى أو التشابك، أو الوجود المتزامن . ويرى العالمان ماكسويل ميلر وجون أچ. هايز؛ عدم وجود معنى محدد للاسم، مستشهدين بمصادر قديمة استخدمتها كاسم لموضع أو مكان معيّن ، وكما في المقطع أدناه: " يظهر اسم كنعان في نصوص قديمة متنوعة من مصر إلى بلاد الرافدين . حيث في النصوص المصرية يبدو أن مصطلح كنعان استُخدم كدلالة على أرض مصر الآسيوية. وفي الكتاب العبري، قد يشير إلى جغرافية كامل فلسطين غرب الأردن، والتي هي الموروث الأسمى للعبرانيين في روايتهم التوراتية؛ لكنه قد يشير أيضاً إلى مناطق أكثر حصراً، وخاصة ساحل فلسطين ، ويشير أحياناً إلى جميع سكان فلسطين الأصليين باسم ـ الكنعانيين ـ (وبالتبادل مع الأموريين) . وفي أحداث أخرى، يبدو أنهم يميزون الكنعانيين والأموريين عن غيرهم من سكان فلسطين ." (ص38) أقدم مسكن كنعاني كان حول مدينة أريحا في العصر الحجري القديم ، وتطور هذا المجتمع الريفي المبكر إلى المدينة التي تعد أقدم مركز حضري في المنطقة (ويمكن القول في العالم أجمع). كما تطورت مدن أخرى خلال العصر البرونزي المبكر؛ لكن تم التخلي عنها، ربما بسبب الاكتظاظ السكاني، حيث عاد الناس إلى نمط الحياة الزراعية لعدد من السنوات. ثم نشأت المدن مرة أخرى خلال العصر البرونزي الوسيط الذي شهد تطور التجارة مع الحضارات الأخرى، وأبرزها مصر. واستمرت كنعان (التي يشار إليها أيضاً باسم فينيقيا في تلك الفترة) في الازدهار حتى مابين عامي 1250 و 1150 قبل الميلاد خلال ما يسمى بـ انهيار العصر البرونزي . وينسب كتابي يشوع والأعداد التوراتييَن غزو وتدمير كنعان إلى القائد العبري يشوع ، لكن الادعاء التوراتي هذا قد تم الطعن فيه من قبل علماء العصر الحديث . بعد حوالي (عام 1250 ـ 1150 قبل الميلاد)، استوطن العبرانيون الذين يُزعم أن يشوع قد وهبهم الأرض وأسسوا مملكتي إسرائيل ويهوذا. غير أن ديموغرافية الأرض قد تغيرت بعد أن غزاها كل من ؛ الآشوريون والبابليون والفرس والإسكندر المقدوني والسلوقيون والرومانيون .
الثقافة والدين لم يكن سكان أرض كنعان الأصليون مجتمع عرقي واحد ، ولم يعبدوا نفس الآلهة بالطريقة نفسها. كما أن مصطلح "الكنعانيون" يُستخدم في الإشارة إلى سكان أرض كنعان، لكن من غير المعروف ما إذا كان هؤلاء السكان يتشاركون في اللغة أو العادات والتقاليد . فعلى سبيل المثال؛ كان الفينيقيون كنعانيين، ولكن ليس كل الكنعانيين فينيقيون . في الدين، عبدوا العديد من الآلهة وكان أهمّهم الإله إيل والإلهة آشيره (المرتبطة بـ عشتروت ) وزوجها بيل ، ومن الآلهة السومرية مثل أوتوـ شمش . وعند البداية اعتبر إيل إلهاً نباتياً وآشيره إلهة خصوبة ، ثم اكتسبا صفات مميزة تعود في الأساس إلى الآلهة السومرية مثل إنليل ونينليل أو إنكي وننهورساگ . ومن الآلهة الأخرى كان يهوه الذي كان إلهاً ثانوياً ، وربما كان وفقاً لدراسات حديثة إله المعادن الكنعاني . كما تضمنت الطقوس الدينية التضحية البشرية (وخاصة التضحية بالأطفال) على أساس أن الآلهة قدّمت الشيء الكثير للبشر وبالتالي يجب عليهم رّد الجميل بتقديم أعزّ ما لديهم لها.
لا يوجد سجلٌّ تاريخي يُشير إلى أي ملك حكم أمة موحدة، بل يُشار فقط إلى رجال حكموا دولتهم ـ المدينة الخاصة، مع مساحات الأراضي المحيطة بها عندما استطاعوا السيطرة عليها. وكان المجتمع يتقدم أو يفشل حسب قوة حاكم المدينة ومواردها. فعلى سبيل المثال؛ بحلول الألفية الثانية قبل الميلاد، كانت مدينة جبيل المصدّر الرئيسي للأرز من جبل لبنان ، والبردي إلى مصر ودول أخرى؛ لذا فإنها استطاعت أن تزدهر بفضل حكومة رشيدة وموارد وفيرة. في الواقع، تُعدّ جبيل على الأرجح أشهر المدن الكنعانية حتى وإن لم يسمع بها أحد من قبل .كما كانت مدينة صور مركزاً صناعياً عظيماً آخر، حيث تنتج الملابس المطلوبة بشدة و المصبوغة بصبغة أصداف الموركس ( المرَّيق) الأرجوانية. وكانت مدينة صيدا أيضاً قد مارست تجارة مماثلة عندما كانت مركزاً تعليمياً بارزاً. وتمخض التنافس الحاد بين صور وصيدا إلى ظهور منتجات عالية الجودة من كليهما حتى احتكرت صور في النهاية تجارة المنسوجات. ازدهرت كنعان تجارياً بفضل موقعها. فقد كانت غزة المحطة الأخيرة لطرق تجارة البخور والتوابل التي امتدت من مملكة سبأ في شبه الجزيرة العربية لتتفرع إلى مسارات متنوعة عبر بلاد الرافدين صعوداً وعند مصرنزولاً. كما كانت أيضاً مركزاً للتجارة بين بلاد الرافدين ومصر وليبيا. وقد كان الكنعانيون الفينيقيون خبراء في بناء السفن والتنقل مابين البحار، وبسبب نشاطهم التجاري الواسع ؛ فقد كانوا ينقلون المعتقدات الدينية والعادات الاجتماعية من وإلى الأمم التي كانوا يتاجرون معها.
أوجد الكنعانيون الفينيقيون أول نظام كتابة بالحروف الأبجدية ، وطوّروا علم الرياضيات القادم إليهم من بلاد الرافدين، واشتهروا في العالم القديم ببراعتهم في بناء السفن والإبحار في مختلف الظروف المناخية المضطربة ، كما استُشهد بهم كمصدر أو إلهام مُبكر لأساطير الآلهة اليونانية. ومع ذلك، تُعتبر الأبجدية أعظم إنجازاتهم، كما أشار البروفيسور مارك ڤان دي ميروپ في المقطع أدناه : " يُعدّ دور الفينيقيين في نشر الأبجدية إنجازهم الأبرز. فقد حافظوا على استخدام الكتابة في العصر الذهبي بعد عام 1200 قبل الميلاد، وألهموا جميع أنظمة الكتابة الأبجدية لجيرانهم . حيث في الشرق الأدنى ، اشتُقت النصوص العبرية والآرامية من الفينيقيين. وكان اعتماد اليونانيين للأبجدية الفينيقية أهمية بالغة لأوروبا ، إما مباشرةً من الفينيقيين أو عبر وسطاء من سوريا والأناضول . وكانت المصادر القديمة واضحة بشأن هذا الفضل المعرفي ؛ فقد أطلق اليونانيون على حروفهم اسم الفينيقية." (ص222)
لقد أبحر الكنعانيون الفينيقيون حتى وصلوا إسبانيا، وشمالاً حتى كورنوال (إنگلترا الحالية) ، ونمت مدنهم بفضل تجارتهم المزدهرة، لتصبح مناطق زاخرة بالفخامة والثراء. إلا أن كل هذا قد جاء لاحقاً، وذلك بعد توغلهم في التجارة مع الأمم الأخرى . حيث في البداية، كان سكان تلك الأرض من البدو الرحّل الذين على الأرجح قد هاجروا إليها من بلاد الرافدين .
التاريخ المبكر استقر البشر في منطقة كنعان قبل 10,000 عام قبل الميلاد، إلا أن السكان عاشوا حياة بدوية مع مستوطنات موسمية فقط (مثل موقع مدينة أريحا التي شُيّدت لاحقاً). وخلال العصر البرونزي المبكر (حوالي عام 3500 - 2000 قبل الميلاد)، تأسست مستوطنات دائمة وتطورت تربية الحيوانات التي كانت موجودة في زمن سابق. وكان السكان في المقام الأول من الصيادين وجامعي الثمار، حيث كانت الأرض غير صالحة للزراعة إلى حد كبير . ويشير كتاب موسوعة لاروس الفرنسية Larousse Encyclopedia إلى أن كنعان لم تكن مفضلة من الطبيعة لزراعة المحاصيل ، كما جاء في المقطع أدناه : "كانت منطقة التلال المرتفعة الواقعة بين نهر الأردن والسهل الساحلي جافة وقاحلة. ومع ذلك، فقد تعاقبت موجاتٌ عديدة من البشر على هذه المنطقة. وتُفَسر مخاطرُ زراعة المحاصيل وعدمُ نجاحها سبباً في تسيّد حياةِ البداوة في كنعان [في زمن مبكر]." (ص81)
صنّف علماء العصر الحديث هؤلاء السكان القدماء بالكنعانيين الأوائل لأنهم لم يكونوا قد أسسوا حضارة واضحة بعد. وعملوا في الحجارة، لكنهم لم يبنوا الهياكل العمرانية.وكان لديهم نظام ديني، إلا أن أدبياته غير معروفة. ومع ذلك، فقد طوروا التجارة مع دول أخرى قبل عام 2000 قبل الميلاد، واعتُبرت المنطقة ذات أهمية استراتيجية بالغة؛ مما دعا الملك سرگون الأول (عام 2334 ـ 2279 قبل الميلاد) إلى ضمّها للإمبراطورية الأكدية حوالي عام 2300 قبل الميلاد. خلال هذه الفترة؛ نشأت مراكز حضرية وازدادت التجارة أو بدأت مع دول أخرى. ويبدو أن السلع الأساسية كانت من الخزف وأنواع الفخار المتنوعة . وبعد سقوط أكد في أيدي الگوتيين والعيلاميين والأموريين حوالي عام 2083 قبل الميلاد؛ توقفت هذه التجارة وهُجرت المدن دون معرفة الأسباب .
كنعان في العصر البرونزي الوسيط خلال العصر البرونزي الوسيط (حوالي عام 2000 ـ 1550 قبل الميلاد)، عاد الناس إلى بناء المدن . وزاد التحضر وانتعشت التجارة، وطُوّرت نسخة مبكرة من الأبجدية الفينيقية التي كان لها تأثير كبير على الأمم الأخرى في تلك الفترة وعند تاريخها اللاحق . وفي تلك الفترة ، كانت الكتابة المسمارية لا تزال لغة التجارة المكتوبة في الشرق الأدنى، وقد ثبت أن كنعان أقامت علاقات قوية بشكل خاص مع مدن بلاد الرافدين من خلال اتفاقيات تجارية. ويشير العالمان ميلر وهايز إلى ذلك كما في المقطع التالي : " من حيث الأنماط الثقافية الأساسية (اللغة والأدب والرؤى الأسطورية واللاهوتية وما شابه) يبدو أن هناك قرابة أوثق مع بلاد الرافدين منها مع مصر. إلا أنه من ناحية أخرى، كان القرب الجغرافي لمصر يعني أن التأثير المصري سياسياً وثقافياً يُعدّ سمة ثابتة إلى حد ما." (ص33) لقد نشأت التجارة لأول مرة بين مدينة جبيل الكنعانية الساحلية ومصر حوالي عام 4000 قبل الميلاد، وبحلول عام 2000 قبل الميلاد، أصبحت مصر أهم شريك تجاري في المنطقة. وكما تشير الأدلة الأثرية والأدبية إلى أن مدينة جبيل ازدادت ثراءً بفضل التجارة مع مصر، كما أن جميع دول ـ المدن قد استفادت من هذا النشاط التجاري . وعكست مفاهيم الموت وأساليب الدفن في كنعان خلال العصر البرونزي الوسيط طبيعة تقاليد الدفن المصرية وطقوس بلاد الرافدين . حيث كان يُدفن كبار القوم في دول ـ المدن مع ممتلكات جنائزية فاخرة في الكهوف أو المقابر، بينما كان يُدفن الرضّع والأطفال الصغار في المنازل تحت الأرض أو في الجدران ( وهي ممارسة شائعة في بلاد الرافدين).
انقطعت التجارة بين مصر ودول ـ المدن الكنعانية بوصول الهكسوس حوالي عام 1725 قبل الميلاد. ولا تزال هوية الهكسوس محل نقاش وجدل، إلا أنهم قد أسسوا محطات تجارية انطلاقاً من كنعان في مصر السفلى، ومن ثم سيطروا في النهاية على تلك المنطقة حتى طردهم الملك المصري أحمس الأول، ملك طيبة عام 1570 قبل الميلاد . دفع أحمس الأول الهكسوس خارج مصر وطاردهم عبر كنعان وصولاً إلى سوريا، مخلفاً وراءه دماراً واسعاً. وحسب الأدلة الأثرية والمصادر الأدبية في ذلك الوقت؛ أن الهكسوس ربما هاجموا دويلات ـ المدن الكنعانية المختلفة أثناء فرارهم ، مما دعا أحمس الأول إلى تقليص قوتهم . وقبل قضاء الملك أحمس الأول على الهكسوس؛ كانت دويلات ـ المدن الكنعانية مسوّرة ومحصنة جيداً، لكن الأدلة تشير إلى دمار واسع النطاق قد طالها في ذلك الوقت، ثم التوجه لإعادة بنائها لاحقاً .
كنعان في العصر البرونزي المتأخر في محاولةٍ منه لضمان عدم تمركز أي قوى أجنبية أخرى في مصر كما فعل الهكسوس، أنشأ الملك أحمس الأول منطقة عازلة حول بلاده، مما أدى إلى بزوغ عصر الإمبراطورية المصرية (حوالي عام 1570 ـ 1069 قبل الميلاد). وضمّت الإمبراطورية مناطق كنعان إلى أراضيها بعد عودته من القضاء على الهكسوس في سوريا. ورغم أن العلماء يُقرّون عادةً بأن العصر البرونزي الوسيط كان "العصر الذهبي" لكنعان نظراً لنهوضها ، غير أن المنطقة ازدهرت أيضاً في ظل الإمبراطورية المصرية خلال المراحل الأولى من العصر البرونزي المتأخر (حوالي عام 1550 ـ 1200 قبل الميلاد). أثرى ملوك مصر الكبار مثل حتشبسوت (عام 1479-1458 قبل الميلاد)، وتحتمس الثالث (عام 1458-1425 قبل الميلاد)، و أمنحتب الثالث (عام 1386-1353 قبل الميلاد)، ورمسيس الكبير (عام 1279-1213 قبل الميلاد) من دول ـ المدن في كنعان من خلال التجارة أو المشاركة في مشاريع البناء للمنطقة. ومع ذلك، في عهد الملك تحتمس الثالث؛ تعرض سلام المنطقة للتهديد من قبل مجاميع متنوعة من الأقوام الرّحل الذين لا يملكون أرضاً ولا وطناً؛ يشار إليهم باسم "الهبيرو"(وأيضاً الأبيرو ) الذين يبدو أنهم كانوا تحالفاً واسعاً من قطّاعي الطرق . وأن بعض العلماء في الماضي كانوا قد ربطوا هوية الهبيرو مع اليهود، إلا أنه لم يتم تأكيد ذلك حتى الآن . ابتداءً من حوالي عام 1300 قبل الميلاد، كانت منطقة الشرق الأدنى بأكملها في حالة اضطراب ؛ حيث سعى الحكام الآشوريون والحثّيون والمصريون إلى السيطرة على طرق التجارة وغزو الأراضي أو الاحتفاظ بها. وفي حوالي عام 1250 قبل الميلاد ضرب حدث كارثي أرض كنعان، مما أدى إلى هدم المدن ونزوح السكان، والذي ينسبه كتّاب التوراة إلى غزو القائد العبري يشوع (سفري يشوع والأعداد). وعلى الرغم من وجود دلائل على حدوث اضطرابات في تلك الأرض، إلا أن الأدلة الأثرية لا تتطابق أبداً مع ما جاء في الرواية التوراتية ، والمؤرخون المحايدون حذرون بشكل عام في قبول الغزو كحقيقة تاريخية.
كنعان في الروايات التوراتية وفقاً للرواية التوراتية في سفر الخروج؛ قاد موسى شعبه بني إسرائيل من عبودية مصر إلى كنعان "أرض الميعاد" ، حيث وعدهم إلههم في العيش بسلام في "أرض تفيض لبناً وعسلاً". وكما جاء في سفر يشوع الذي يتبع رواية الخروج، إن غزو القائد العبري يشوع لأرض كنعان؛ قد أخضع شعبها له بمساعدة إلهه وأوامره ، وأشهرها تدمير مدينة أريحا. وبعد نجاح الغزو، قُسمّت الأرض على شعب إسرائيل بعد سلبها من أصحابها ، وبمرور الزمن ، تأسست مملكتا إسرائيل ويهوذا. وبالعودة إلى بداية تلك الرواية في الكتاب العبري ؛ أُمر موسى من قبل إلهه بقيادة شعبه إلى كنعان ، باعتبارها موطنهم قبل انتقالهم إلى مصر. حيث أن إبراهيم الأب لبني إسرائيل، قد جاء بعائلته إلى هناك من أور في بلاد الرافدين، ومن خلال ابنه إسحاق وحفيده يعقوب (المعروف أيضاً باسم إسرائيل)، أسس شعبه وطوّر ثقافة مميزة عن ثقافة الكنعانيين . أمّا يوسف ابن يعقوب الأصغر، ورغم سلسلة من الأحداث الدرامية، سُجن في مصر، لكنه أُطلق سراحه بفضل قدرته على تفسير أحلام الفرعون بدقة ، وتولى منصباً كبيراً أثر ذلك. كما أنقذ مصر والمناطق المحيطة بها من المجاعة بفضل حرصه على زراعة الحبوب وتخزينها خلال سنوات وفرة المحاصيل، حيث جاء يعقوب وقبيلته إلى مصر طلباً للطعام والكسوة . بعد ذلك مكثوا هناك حتى"كثروا" فاستعبدهم المصريون خوفاً من تناميهم ، وذلك حسب ما ورد في سفر الخروج . وعندما حرّرهم إله بني إسرائيل بالضربات العشر وقادهم موسى، كان عليهم العودة إلى ديارهم في كنعان . ثم يروي الكتاب العبري غزو المنطقة وإخلائها من سكانها بعد قتلهم وتشريدهم ، حيث خرج يشوع منتصراً، التزاماً بوصايا إلهه يهوه ، ومُوطّناً بني إسرائيل في الأرض مجدداً .
إسرائيل ويهوذا يُرجع العلماء الغزو العبراني إلى حوالي عام 1250 قبل الميلاد، وقد أكدت التنقيبات الأثرية في المنطقة حدوث نوع من الاضطرابات فيها ما بين عامي 1250 و 1150 قبل الميلاد تقريباً، مما أدى إلى تدمير بلدات ومدن كنعانية. مع ذلك، فإن هذه الأدلّة الأثرية لا تتطابق أبداً مع الأوصاف الواردة في سفر يشوع، بل يُصوَّر الكنعانيون دائماً على أنهم شعب موّحد في الروايات العبرية ، بينما لم يكونوا كذلك في الواقع ! . مع ذلك، فإن تدمير المدن وغياب المزيد من التطور الحضاري، يشيران إلى أن حدثاً كارثياً قد حصل، أو سلسلة من الأحداث قد أثّرت بشكل كبير على أهل كنعان. ومهما كان السبب، فإن مملكة إسرائيل قد تأسست بحلول عام 1080 قبل الميلاد تقريباً، وتولّى الملك شاول (حوالي 1080-1010 قبل الميلاد) عرشها ليحكمها . جاء بعد شاول الملك داود (حوالي عام 1035-970 قبل الميلاد) وابنه سليمان (حوالي عام 965-931 قبل الميلاد)، وبعد وفاة سليمان ، انقسمت المملكة إلى قسمين ؛إسرائيل الشمالية وعاصمتها السامرة (الضفة الغربية) ويهوذا الجنوبية وعاصمتها أورشليم (القدس). وفي محاولة لتعزيز السلطة في المنطقة وتوحيد شعبهم، أكد هؤلاء الملوك (وفقاً للكتاب العبري) على الإيمان بإله واحد وهو يهوه؛ خالق السماء والأرض، وبالتالي بدأ الإيمان لديهم بالتوحيد من كنعان . ويواصل العلماء دراسة فيما إذا كان التوحيد من صنع يهود المملكة الموحدة لإسرائيل ، أو بدايته كانت على يد ما يسمى "الملك الزنديق" أخناتون مصر (عام 1353-1336 قبل الميلاد). وقد طرح سيگموند فرويد نظرية شهيرة مفادها أن موسى كان كاهناً عند أخناتون الذي جلب التوحيد المصري إلى كنعان بعد قصة الخروج .
لقد دُمِّرت إسرائيل في الغزو الآشوري عام 722 قبل الميلاد. وتماشياً مع السياسة الآشورية، نُقِل الأسرى إلى مدن في بلاد الرافدين. وعندما سقطت الإمبراطورية الآشورية بيد تحالف بين البابليين والميديين عام 612 قبل الميلاد ؛ هاجم البابليون يهوذا، ونهبوا عاصمتهم ودمرّوا هيكلهم ( قصر داود) . كما سحقت الغزوات البابلية اللاحقة بين عامي 589 و582 قبل الميلاد بقية مناطق المملكة الجنوبية.
تعرّض البابليون للغزو الفارسي بقيادة الملك كورش (توفي عام 530 قبل الميلاد)، الذي سمح لليهود بالعودة إلى ديارهم عام 538 قبل الميلاد. وهناك خلال العصر المعروف بفترة الهيكل الثاني (حوالي عام 515 قبل الميلاد - 70 ميلادي)، قام الكهنة اليهود بتنقيح ومراجعة معتقداتهم الدينية واعتبروا كتبهم الدينية "وصايا إلهية مقدّسة" لا يجوز التشكيك أو الطعن فيها ؛ مما أدى إلى ترسيخ العقيدة اليهودية لدى أتباعها منذ ذلك الحين . أُطيح بالإمبراطورية التي أسسها كورش على يد جيوش الإسكندر المقدوني (عام 356-323 قبل الميلاد)، الذي أدخل الثقافة والمعتقدات الهلنستية إلى كنعان . وبعد الإسكندر، سيطر السلوقيون على المنطقة حتى تمرّد أو ثورة المكابيين حوالي عام 168 قبل الميلاد بقيادة الحاخام يهوذا المكابي، الذي استولى على المنطقة وأنشأ قبيلة الحشمونائيم اليهودية. ورغم أن تمرّد المكابيين يُوصف تاريخياً على أنه صراع من أجل الحرية الدينية والاستقلال، إلا أنه في الواقع كان اقتتالاً طائفياً بين الفصائل اليهودية التي اعتنقت هيلينية الإمبراطورية السلوقية وتلك التي عارضتها من اليهود المكابيين ، حيث شارك الملك السلوقي أنطيوخس الرابع في الاقتتال كحليف فقط لليهود الهلنستيين . انخرطت سلالة الحشمونائيم في التجارة والتحرّش بـ مملكة الأنباط الغنية (في الأردن الحديث) طمعاً بثرواتها والتي جذبت انتباه روما . ففي عام 63 قبل الميلاد، طالب القائد العسكري پومپي بالمنطقة خلال أواخر الجمهورية الرومانية ، وبعد تولي القيصر أوغسطس السلطة في عام 31 قبل الميلاد، باتت أرض كنعان جزءاً من الإمبراطورية الرومانية.
لقد أدت الحروب اليهودية الرومانية في الفترة من عام 66 إلى عام 136 ميلادي إلى إخلاء المنطقة من جميع اليهود، ونفيهم إلى مناطق أوروبا وآسيا بعد عام 136 ميلادي بأوامر من الإمبراطور الروماني هادريان ومنعهم من العودة تحت عقوبة الإعدام ، وذلك بعدما سئم من التعامل معهم ، وأعاد تسميتها بـ "سوريا ـ فلسطين" . وقد أدت الحروب وسياسة هادريان بعد قرون من الاقتتال المماثل في المنطقة، إلى التسبب في طمس هوية السكان الأصليين للأرض .
ومهما كانت هوية الكنعانيين القدماء، فهي بالتالي قد ضاعت في ظل الغزوات المتتالية من قِبل الأجانب الطامحين للسيطرة على ذلك الموقع التجاري المهم . وإذا كانت كنعان موطناً للكثيرين وأرضاً موعودة للبعض ، فهي أيضاً قد اتسمت بموقع استراتيجي لتسهيل خطوط التجارة والإبحار. لذا، فقد سعت قوى أجنبية عديدة للسيطرة على المنطقة لما يمكن أن تُدرّه من ثروات. وبحلول الفترة التي أصبحت فيها المنطقة جزءاً من الإمبراطورية الرومانية الشرقية أو البيزنطية في القرن الرابع الميلادي؛ لم تكن الأرض المعروفة باسم كنعان سوى منطقة ضيقة على حافة البحر الأبيض المتوسط ، والتي هي دولة لبنان الحالية ..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سيگموند فرويد ـ موسى والتوحيد ـ ڤينتج للنشر ـ 1955 . رونالد ميلور ـ مؤرخو روما القديمة ـ روتليدج للنشر ـ 2013 . ماكسويل ميلر & جون هارالسون هايز ـ تاريخ إسرائيل ويهوذا القديمتين ـ مطبعة وستمنستر جون نوكس ـ 1986 . توماس نيلسون ـ الكتاب المقدّس ؛ نسخة الملك الجديدة ـ توماس نيلسون للنشر ـ 2005 . دي . پي . سلڤرمان ـ مصر القديمة ـ طباعة جامعة أوكسفور ـ 1997 . مارك ڤان دي ميروپ ـ تاريخ الشرق الأدنى القديم ـ وايلي ـ بلاكويل للنشر ـ 2015 . دونان مارسيل ـ موسوعة لاروس للتاريخ الحديث ـ پول هاملين للنشر ـ 1972 . سوزان وايز باور ـ تاريخ العالم القديم: من أقدم الروايات إلى سقوط روما ـ دبليو دبليو نوتون ـ 2007 .
#عضيد_جواد_الخميسي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الإله نينورتا في الأساطير السومرية
-
اتحاد كييڤ روس
-
الأدب في ممالك مصر القديمة
-
حضارة وادي السند الغامضة
-
الجيش الأحمر في الحرب العالمية الثانية
-
عبادة الإله مثرا
-
التحنيط عند المصريين القدماء
-
مذكرات جندي أمريكي عن درب الدموع
-
من هم الأمورّيون ؟
-
هذا ما كتبه هيرودوت عن بابل القديمة
-
شخصية هرقل في الأساطير اليونانية والرومانية
-
بطل ملحمة گلگامش بين الحقيقة والأسطورة
-
نرگال (مسلامتيا) إله الموت والحرب والدمار
-
الكريسماس عبر التاريخ
-
قصة اكتشاف الأشعة السينية (X)
-
طقوس الشاي في الصين واليابان القديمتين
-
هنود السهول الأصليين في أمريكا
-
ليلة السكاكين الطويلة
-
ديانة المايا: النور الذي أتى من البحر
-
الموت وحياة الآخرة في بلاد فارس القديمة
المزيد.....
-
حماس تردّ على مقترح وقف إطلاق النار في غزة.. هل توافق إسرائي
...
-
بأغليبة 71 نائبًا..الكنيست يوافق على مقترح يدعو إلى ضم الضفة
...
-
هل تبيع المملكة المتحدة أسلحة لإسرائيل؟
-
لمواجهة رسوم ترامب.. بروكسل تجهّز خطة تجارية بقيمة 100 مليار
...
-
أوقف ترامب تمويلها.. وسائل الإعلام العامة الأميركية تجمع الت
...
-
كاتب إسرائيلي: غزة انتصرت وإسرائيل تخسر نفسها
-
الحكومة الغانية ترفع ميزانية اللقاحات بنسبة 46%
-
غيرت العقيدة القتالية.. ناشطون يعلقون على دور المسيّرات في ا
...
-
حصان آلي ياباني يعدو ويقفز فوق الصخور.. خيال أم حقيقة؟
-
تحقيق للجزيرة يكشف تورط الشيخة حسينة في التحريض على قتل متظا
...
المزيد.....
-
السيرة النبوية لابن كثير (دراسة نقدية)
/ رحيم فرحان صدام
-
كتاب تاريخ النوبة الاقتصادي - الاجتماعي
/ تاج السر عثمان
-
كتاب الواجبات عند الرواقي شيشرون
/ زهير الخويلدي
-
كتاب لمحات من تاريخ مملكة الفونج الاجتماعي
/ تاج السر عثمان
-
كتاب تاريخ سلطنة دارفور الاجتماعي
/ تاج السر عثمان
-
برنارد شو بين الدعاية الإسلامية والحقائق التاريخية
/ رحيم فرحان صدام
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
المزيد.....
|