أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - عضيد جواد الخميسي - الطائفة الزورڤانية الفارسية















المزيد.....


الطائفة الزورڤانية الفارسية


عضيد جواد الخميسي

الحوار المتمدن-العدد: 8476 - 2025 / 9 / 25 - 18:17
المحور: المجتمع المدني
    


كانت الزورڤانية (وتُعرف أيضاً بالزوڤانية أو الزرڤانية) طائفة من الديانة الفارسية الزرادشتية ؛ ظهرت في أواخر الإمبراطورية الأخمينية (حوالي عام 550 ـ 330 قبل الميلاد) وانتشرت خلال فترة الإمبراطورية الساسانية (عام 224 ـ 651 ميلادي). وكثيراً ما كانت تُعتبر هرطقة زرادشتية لانحرافها الكبير عن ذلك المبدأين الزرادشتيين الأساسيين :
ـ الإله الأعظم أهورا مزدا هو الإله الأوحد غير المخلوق .
ـ البشر أحرار في اختيارهم بين الخير والشر .
اعتبرت الزورڤانية أن أهورا مزدا (المعرّف بـ أورمزد، أي أصل الخير) كائنٌ مخلوق، وهو الشقيق التوأم لأنگرا ماينيو (المعروف بـ أهريمان ، أي أصل الشر)، وأن الإله الأسمى هو زورڤان أكارانا (الزمن الغير متناهي، ويُعرف أيضاً باسم زرڤان و زرڤان أكارانا). على اعتبار أن الزمن هو الذي أوجد كل الأشياء والمتسبب في زوالها . وطالما الزمن لا يعرف الصفح؛ فإن البشر يبدون عاجزين عن مقاومته، والوجود البشري بحد ذاته محكوم بالقدر لا بحرّية الاختيار .

بعد الغزو العربي الإسلامي لبلاد فارس في القرن السابع الميلادي؛ قُمعت الزرادشتية وكادت أن تختفي . إلا أن تأثيرها قد استمر، حيث كانت العقيدة الزورڤانية المنبثقة من الزرادشتية أول من وصل إلى الغرب، مما أملى فهم هذا الدين على أنها ديانة ثنائية، بدلاً من كونها توحيدية ؛ وهو تفسير لا يزال يؤثر في فهم الزرادشتية إلى يومنا هذا. كما أثّر مفهوم القدر ( باعتباره أقوى من حرية الاختيار) على الشعراء الفرس اللاحقين ، وعلى الدوافع الأدبية التي ألهمت بعضاً من أعظم أعمال الأدب الفارسي وصولاً إلى الثقافة العالمية .

الديانة الفارسية المُبكرة
كانت الديانة الفارسية المُبكرة متعددة الآلهة، وهذه الآلهة خاضعة للملك الأسمى أهورا مزدا (ربّ الحكمة)، الذي أوجد كل شيء، بما في ذلك الآلهة الأصغر. وكان أنگرا ماينيو عدو أهورا مزدا ، وهو سيد قوى الشر والفوضى المظلمة، الذي كان هدفه الوحيد تعطيل سلوك أهورا مزدا وإفشال كل خططه لتحقيق الخير العظيم .
لقد خلق أهورا مزدا السماء والأرض والماء والنار، كما خلق النباتات والحيوانات والبشر، وكانت كل محاولة من أنگرا ماينيو لتعطيل الخير الكوني؛ يحوّلها أهورا مزدا إلى مساعٍ إيجابية. فعندما خلق أهورا مزدا الثور البدائي الأول الجميل گاو ایوداد؛ قتله أنگرا ماينيو، فحمل أهورا مزدا جثة گاو ایوداد إلى القمروتمّ تطهيرها، ومن البذور الطاهرة خلق جميع الحيوانات. وبذلك فقد حوّل أهورا مزدا سلوك الشرير أنگرا ماينيو السلبي إلى مظهر إيجابي . كما وسوس أنگرا ماينيو للزوجين البشريين الأولين ماشيا وماشياناگ ( آدم وحوّاء) ودفعهما إلى الابتعاد عن أهورا مزدا الذي منح أحفادهما هدفاً في الحياة من خلال ممارسة حرية الاختيار ؛ وبالتالي فقد كانت لديهم القدرة على إدارة حياتهم وتفضيل الخير على الشّر في اختيارهم، والقيم العليا على المصلحة الذاتية.

العقيدة الزرادشتية
في مرحلة ما بين عامي 1000 و 1500 قبل الميلاد، صادف كاهن يدعى زرادشت (مزدیسنا) رؤية غيّرت المعتقد الديني الفارسي بشكل كبير . فقد ظهر له كائن من نور على ضفة أحد الأنهار، وعرّف نفسه باسم " ڤوهو ـ مانا أو بهمن" ( العقل الصالح ، أو حُسن الأخلاق ) ، وأخبر زرادشت أن معتقدات الفرس الدينية مغلوطة. وقيل له إن أهورا مزدا هو الإله الأوحد ؛ وأن كل ما يسمّى من "الآلهة" الأخرى هي مجرّد انبثاقات من الكائن الأسمى، ولا يحتاج إلى "آلهة أخرى" لمساعدته.
بدأ زرادشت بالتبشير بعقيدته الجديدة، ولم يكن متفاجئاً عندما واجه مقاومة شرسة من كهنة الديانة القديمة الذين كانوا يعيشون في رخاء بفضل تضحيات الناس وتبرعاتهم؛ مما اضطر إلى الفرار من منزله، والتبشير بدينه أينما ذهب، حتى وصل إلى قصر الملك ڤيشتاسپا " ( ويُعرف بالفارسية القديمة گوشتاسپ ). وهناك دخل في مناظرة مع الكهنة حول طبيعة الحقيقة المطلقة، ورغم ما قيل إنه فاز في تلك المناظرة، إلا أن الملك ڤيشتاسپا أمر بسجنه، بعد أن وصمه الكهنة الذين خسروا المناظرة بالسحر.
وأثناء وجوده في السجن، شفى زرادشت حصان الملك المفضل، فأطلق سراحه، وسرعان ما اعتنق الزرادشتية. وبالتالي؛ فقد فتح اعتناق الملك ڤيشتاسپا الطريق أمام انتشار دين زرادشت في مملكته، وهكذا تأسست الديانة الجديدة - المعروفة باسم مزداياسنا (التفاني في سبيل الحكمة) . وتعتمد الزرادشتية في عقيدتها على خمسة مبادئ :
أولاً ـ أهورا مزدا هو الإله الأعظم والأوحد .
ثانياً ـ الإله أهورا مزدا يمثل عناصر الخير جميعها .
ثالثاً ـ الإله أهورا مزدا هو النور ونقيض أهريمان الظلام .
رابعاً ـ يتجلّى مفهوم الخير من خلال الأفكار السليمة ، والكلمة الطيبة ، والعمل الصالح .
خامساً ـ كل إنسان لديه حرية الاختيار بين الخير والشرّ .

وقد عبّر أتباع تلك المبادئ عن أنفسهم من خلال :
أولاً ـ قول الحقيقة دائماً .
ثانياً ـ ممارسة عمل الخير.
ثالثاً ـ إظهار المودّة للآخرين .
رابعاً ـ ممارسة الاعتدال في كل شيء .

كان هدف الحياة البشرية هو الوقوف إلى جانب الخير ضد قوى الشر، والحفاظ على الثبات والاستقرار ضد الفوضى . وكان على كل إنسان مولود أن يختار طريقه، لأن تلك هي طبيعة الوجود البشري . فمن يختار أهورا مزدا يعيش حياة رغيدة هانئة، ويُكافأ بالحسنى ما بعد الموت ؛ أما من يتبع أنگرا ماينيو، يعيش حياة ملأى بالاضطراب والخصام والمصالح الشخصية التافهة، وبالتالي يعاقب بقسوة في الآخرة.

لقد صُممت الحياة بعد الموت على أنها جسر بين الأحياء والأموات ـ جسرچنڤات (پل چینود) ـ حيث يؤدي إلى طريق الملاك راشنو الذي يرسل الروح إما إلى الفردوس (بيت الغناء) أو إلى الجحيم (بيت الأكاذيب). إلا أن أياً من الوجهتين لم يكن أبدياً، إذ سيأتي المخلّص سوشيانت (الذي يجلب الخير والسلام) ويُعلن نهاية الزمان ( فراشوكيريتي ). بعد ذلك سيزول العالم القديم، ويُخلّص من في الجحيم، ويُقضى على أنگرا ماينيو، وينتهي الجميع مع أهورا مزدا ليعيشوا في نعيم أبدي . وكان هذا هو الدين الذي تبنته الإمبراطورية الأخمينية على الأرجح منذ عهد الملك دارا الأول (عام 522 - 486 قبل الميلاد) ومن بعده .

في الواقع كانت مشكلة الشرّ أكثر الحلول صعوبة في عقيدة زرادشت؛ لأن أهورا مزدا كان أول كائن غير مخلوق في الكون ، والذي جاء منه كل شيء آخر . فإذا كان الأمر كذلك ، فلا يجب أن يكون للشرّ مكاناً في الوجود ! ؛ ولكن من أين جاء أنگرا ماينيو وجيشه من الكائنات الشريرة ؟ مع أن تجارب البشر في الخير والشرّ تتناقض مع هذا المبدأ أيضاً ! إذن؛ كيف يمكن لكائن يُعدّ الأسمى والكامل في قدرته ومصدر الخير الأول وغير مخلوق أن يخلق الشر ؟
بالطبع هذه مشكلة كبيرة يواجهها أيّ دين يؤمن بالوحدانية، وقد أشار علماء مقارنة الأديان ودارسيها إلى أنه من المحتمل أن رجال اللاهوت الزرادشتيون كانوا قد قدموا إجابة ما، إلا أنها فُقدت بعد تدمير المكتبات والمحفوظات الزرادشتية خلال الغزو العربي الإسلامي في القرن السابع الميلادي . وهذا محتمل جداً، ولكن يبدو أنه بغض النظر عن الإجابة التي قُدمت أو لم تُقدم؛ كان الناس بحاجة إلى حل لهذه المشكلة، وقد وفرت الزورڤانية ذلك الحل .

أصل الزورڤانية
لا يوجد مؤسس معروف للزورڤانية، وحتى تاريخ نشوئها غير واضح . بيد أنه يوجد إله ثانوي يُعرف بـ زورڤان (الزمن) الذي ورد اسمه في مدوّنة دينكرد ( أو دينكرت) الزرادشتية ؛ وهي مجموعة من النصوص الدينية الزرادشتية مضافاً إليها بعض المعتقدات والطقوس والتقاليد المتبعة. ويُعتقد أن زورڤان كان يُبتهل إليه خلال الجزء الأخير من الإمبراطورية الأخمينية في الطقوس الدينية. وبنفس الوقت لا يبدو أن زورڤان كان إلهاً ذا أهمية خاصة، ولكن ربما كان يُستذكر ويُقدم الشكر إليه خلال تأدية طقس تلاوة نصوص الـ ياسنا ( 72 نصّ) في معبد النار، والذي ينتهي بتلاوة نصّ" آپي زاوثرا"ـ بمعنى نذر أو قربان الماء ـ . أمّا كيف تحول هذا الإله الثانوي إلى الإله الأسمى للطائفة الزورڤانية ؛ لا توجد إجابة على هذا السؤال حتى الآن .
يأتي أقدم ذكر للطائفة في الأدب الغربي من الفيلسوف الأفلاطوني المحدّث داماسكيوس ( عام 458-538 ميلادي) في كتابه " صعوبات وحلول المبادئ الأولى" ، الذي يشير إلى الكاتب إيوديموس الرودسي (القرن الرابع قبل الميلاد) كمصدر له. وكان داماسكيوس رئيس أكاديمية أفلاطون في أثينا عندما أغلق الإمبراطور البيزنطي جستنيان الأول (عام 527 - 565 ميلادي) الأكاديمية ومؤسسات التعليم العالي والثقافة مع جميع المعابد الوثنية الأخرى . وقد هرب داماسكيوس من أثينا واحتمى لدى الإمبراطور الساساني كسرى الأول (عام 531 - 579 ميلادي) .
من هناك ، لا بد وأن اطلع داماسكيوس على العقيدة الزورڤانية بشكل مباشر التي كانت في أوجّها خلال تلك الفترة؛ لكن لم يرد منه على أن لديه معلومات مباشرة عنها؛ بل استدّل بـ "إيوديموس الرودسي". ولم تُذكر الزورڤانية إلا بشكل مقتضب كـ"ديانة للميديين " التي بمفهومها أن الزمن قد أنجب إلهي الخير والشر التوأمين . والزورڤانية جاء ذكرها أيضاً في الكتاب المانويّ الأقدم " شاپورگان أو سابوهراگان" بتفصيل أكثر، والذي أهداه مؤلف الكتاب ومؤسس الديانة المانوية "ماني" (عام 216-274 ميلادي) إلى الملك شابور الأول (عام 240-270 ميلادي )، عندما كان ضيفاً على الملك والقائم في قصره .
في كتاب ماني؛ يُعتبر زورڤان الإله الأعظم في عالم النور والقوة الخلاّقة في الكون . وقد تأثرت المانوية بالديانات البوذية والمسيحية والزرادشتية والمندائية ، بالإضافة إلى التعاليم الغنوصية التي استعارها ماني من مختلف المدارس ومن فلسفته الخاصة . وكما يبدو جلياّ أن فهمه للزرادشتية كان في الواقع أقرب إلى الزورڤانية، وهذا يشير إلى أن الملك شابور الأول كان نفسه زورڤانياً، والذي ساعد ماني في تطوير دينه الجديد وعمل على انتشاره .
قد يبدو هذا محتمل جداً، إذ أن عدداً من الحكام الساسانيين كانوا من الزورڤانيين؛ مع العلم أن الإمبراطوريات الفارسية المتتالية كانت معروفة بتسامحها الديني و تشجيعها على تبني ديانات جديدة . ولعل جهود الملك شابور الأول التي كانت لصالح ماني خير مثال على ذلك. وأيّاً كان الأمر، فإن الزورڤانية كانت قد تطورت بالفعل مع وصول ماني إلى قصر شابور الأول، ومن الواضح ايضاً أنه استلهم عقيدته من الفكرة الأساسية للزورڤانية (الزمن الخالق) في تطوير مفهومه الديني الخاص .

الإيمان الزورڤاني
إن ذكرالزورڤانية في كتاب داماسكيوس " صعوبات وحلول المبادئ الأولى" يُشير إلى أهمية إيجاد إجابة لمشكلة أصل الشر. ويحاول كتاب داماسكيوس تعريف طبيعة الإله ومصدر كل شيء، ويخلص في النهاية إلى أن البشر ببساطة لا يستطيعون استيعاب هذا المفهوم . والإشارة إلى الزورڤانية كانت محاولة تفسير قديم عنها ، ويبدو أن داماسكيوس يرى أنه غير كافٍ . ومع ذلك، فإن ذكر الإيمان في هذا الكتاب يُشير إلى أن المشكلة قد عولجت أيضاً في مؤلفات أخرى، ربما في نصوص زرادشتية مفقودة الآن . وتختلف الزورڤانية عن الزرادشتية من البداية بجعلها زورڤان هو الإله الأسمى .
لقد تمنّى زورڤان (ثنائي الجنس) باعتباره هو أصل الخلق الغير مخلوق في الكون ؛ أن يكون لديه ذرّية ، لذا أخذ يتأمل مع نفسه من أجل أن تتحقق غايته . وأثناء قيامه بذلك ؛ واجه زورڤان لحظة من الشّك في داخله حول ما إذا كان قراره صائباً أم لا ؛ ولكن في تلك اللحظة وُلد أهريمان ، و أورمزد من بعده .
وجد أهريمان طريقه للخروج من الرحم الأول قبل أن يحين موعد ولادته . علماً أن المولود الأول ستكون له السيادة على الكون ؛ إلاّ أن زورڤان قد وضع سقفاً زمنياً لعهده يُقدّر بـ 9000 عام ، ومن ثمّ سوف يهزمه أورمزد ويحلّ محلّه . لكن أورمزد كان هو المقصود لتحمّل المسؤولية في خلق العالم وتوابعه ؛ غير أن الشرّ قد جاء من تلك اللحظة السريعة التي شكك فيها زورڤان برغبته في الخلق . وبقي أورمزد هو خالق العالم والبشرية، و أهريمان هو المتحكم في ذلك العالم والمؤثر المباشر على السلوك البشري ، ولكن تلك الثنائية قد أثرت على العقيدة المانوية في شطر التجربة الإنسانية بين المادية (الشر والوجود) والروحية (الخير والأسرار). ويبدو أن تفسير هذا المفهوم كان شفهياً؛ إلا أن بعض الأجزاء من الدينكرد ومقاطع من (الزند)؛ استُخدمت بعد كتابة الأڤستا خلال الفترة الساسانية . والأڤستا هي المجموعة الأساسية للنصوص الدينية في الزرادشتية، في حين يشير الزند إلى التفسيرات والترجمات اللاحقة لتلك النصوص .

مذاهب الزورڤانية
يبدو أن الزورڤانيين المحدثين لم يختلفوا كثيراً عن الزرادشتيين القدماء ، باستثناء أن الزمن قد أصبح الآن هو الإله الأسمى أو الأعظم . وشجع هذا الفهم الاعتقاد في أن حرية الاختيارعند البشر لا قيمة لها؛ حيث لا أحد أو أي شيء آخر يستطيع تحدي الزمن . وقد أدى هذا المفهوم بدوره إلى ظهور ثلاثة مذاهب زورڤانية داخل الطائفة :
ـ مذهب المادة .
ـ مذهب القدر.
ـ مذهب الأساس .

اعتقد الماديون ( الزانديكيون ) أنه لا وجود لعالم روحي على الإطلاق ؛ حيث لا آلهة ولا شياطين ولا بيت غناء ( الفردوس) ولا بيت أكاذيب ( الجحيم) ؛ لأن كل شيء قد بدأ مع الزمن . وطالما أن الزمن لا بداية له ولا نهاية؛ فإن العالم بأسره هو أيضاً كذلك. وكل ما كان موجود هو موجود دائماً وسيظل موجود. حيث يولد البشر ليعيشوا ثم يموتوا، ولا مبرر للتصرف بطريقة دون أخرى، لأنه في النهاية سيموت الإنسان عاجلاً أم آجلاً دون أمل أو تحسّب في نيل أي ثواب أو مواجهة أيّ عقاب .

أمّا القدريون يعتقدون أنه بما أن الزمن خلق كل شيء، فهو المتحكم في كل شيء. حيث يولد الإنسان ويعيش ويموت وفقاً للزمن لا بإرادة إله ؛ وأن قصة حياته مكتوبة منذ لحظة ولادته. ويعتقد القدريون أيضاً في أن أورمزد و أهريمان موجودين بالفعل، لكنهما في صراع دائم ، وأن الإنسان بات الضحية بسبب حرية الاختيار بينهما. وأن الأبراج ( التي توجه مسار الحياة ) تعمل في صف أورمزد؛ بينما الكواكب (التي تؤثر في تفكير الإنسان وسلوكه ومن ثم مصيره ) تعمل لصالح أهريمان، لذا حتى لو كان أورمزد يحدد فقط الشخص الأفضل بجعله سعيداً منذ لحظة ولادته ؛ فإن تأثير أهريمان الكوكبي سيتدخل ويجلب له الآلام وخيبات الأمل وسوء الطالع . وبهذا المنظور، سوف لم يكن هناك للأنسان مجال حرية الاختيار للقيام بأي شيء.

أمّا الزورڤانيون الأساسيون (ويُسمون بالزورڤانيين الحقيقيين) يؤمنون بثنائية التوأم السماوي، وأن الزمن (زورڤان) هو والدهما (وبالتالي فإن القدر متفوق على حرية الاختيار) ، لكنهم صاغوا معتقداتهم بشكل أقرب إلى الزرادشتية المألوفة. ويبدو أن هذه الفكرة كانت هي العقيدة الزورڤانية الأصلية التي سعت إلى إيجاد تفسير أو حل إشكالية وجود أصل الشر. ويشرح البروفيسور روبرت زاهنر كيف تمكن الكُتّاب الزورڤانيون من إنكار المبدأ الأصلي للزرادشتية، ألا وهو حرية الاختيار، دون معارضة المبدأ العام للزرادشتية أو التصادم مع كبار الدولة الساسانيين الذين جعلوا الزرادشتية دين الدولة الرسمي ، وكما في المقطع أدناه :
" كان حلهم للمعضلة بارعاً، وإن كان مخادعاً . حيث صادف أن كلمة إريش eresh الآڤستية وردت في [مقطع من الدينكارد]، ومع أنهم كانوا يعلمون أن هذه الكلمة تعني (بحق) وعادةً ما يترجمونها على هذا النحو؛ إلا أنهم فضلوا في هذا الحدث التظاهر بالجهل وترجموا الكلمة إلى آرش arish في اللغة البهلوية، وهي أحد الأسماء لشيطان الحسد. وهكذا أمكن لمؤلف الدينكارد أن يصور هذه العقيدة المسيئة على أنها من اختراع الشيطان! . ويُروى الأمر برمته على أنه إعلان من شيطان الحسد للبشرية في أن أوهرمزد و أهريمان شقيقان من رحم واحد. وهكذا رُفضت بدعة الزوڤا باعتبارها من اختراع الشيطان ." (ص6)

مع ذلك، يمكن قبول هذه الفكرة لأن مقطع الدينكارد الذي أشار إليه البروفيسور زاهنر؛ هو شرح لجزء من الآڤستا (ياسنا 30.3) ، والذي يُلمّح فيه زرادشت نفسه إلى إلهين توأمين أحدهما للخير والآخر للشر، دون توضيح المفهوم . وإذا سُئل أحد الزورڤانيين عن ذلك ، فقد تكون إجابته؛ إن زرادشت ربما قصد بهذه الإشارة إلى أن الإلهين التوأم هي الرؤية الحقيقية ، أو ربما كان يشير إلى الوهم الذي ألقته قوى الظلام، دون رفض مبدأ حرية الاختيار بشكل صريح .
لا يزال بإمكان المرء ممارسة قدرته على الاختيار حتى لو كانت النتائج النهائية معروفة سلفاً. ومثال بسيط لاستيعاب هذا المفهوم دون تعقيد؛ قرار الشخص بتدخين السگائر. حيث يستطيع المرء أن يختار في أن يدخّن أو يمتنع عنه ؛ وهذا القرار يعتمد على إرادته هو ؛ لكنه سيموت في النهاية مهما كان اختياره ؛ وهذا سوف يحصل دون إرادته . ومع ذلك، باختياره عدم التدخين، لربما يعيش حياةً أطول مع صحة أفضل . وسعياً لحل أصل الشر، فسّر أتباع مذهب الزورڤانية الأساسية مفهوم الثنائية، على الرغم من أن سلطة الزمن رفضت مبدأ حرية الاختيار.

ساهمت هذه الطائفة من الزرادشتية في تعريف العالم بها، لذلك لا يزال العلماء حتى يومنا هذا يتجادلون حول ما إذا كانت الزرادشتية أول ديانة توحيدية مقبولة إلى حد بعيد أم ديانة ثنائية . وكما أسلفنا ، فقد أثّرت ثنائية الزرڤانية على الديانة المانوية، والتي أثرت بدورها على التطور اللاحق لأنظمة عقائدية أخرى مثل الكاثار. والكاثاريون (المعروفون أيضاً باسم كاثاري، مشتقة من الكلمة اليونانية كاثاروي، وتعني الأطهار أو الأنقياء) ؛ وهي طائفة دينية ثنائية ظهرت في العصور الوسطى بجنوب فرنسا وشمال إيطاليا، وانتشرت في القرن الثاني عشر الميلادي متحدية سلطة الكنيسة الكاثوليكية. كما عُرفوا أيضاً باسم الآلبيجنسيين نسبةً إلى مدينة ألبي، التي كانت مركزاً قوياً لمعتقدات الكاثار.

لقد أثرت قدرية الزورڤانية أيضاً على الكُتّاب الفرس اللاحقين . ومن الأمثلة على ذلك عالم الفلك والرياضيات والأديب الفارسي العظيم عمر الخيّام (عام 1048-1131 ميلادي)، المعروف بـ رباعياته الشهيرة . ويتضمن كتاب الخيام على عدد من المقاطع الشعرية عن القدر والمصير؛ لكن أشهرها المقطع 51 :
يكتب الإصبع المتحرّك، وبعد أن يكتب ..
يمضي قدماً؛ ولا كلّ تقواك ولا ذكائك ..
سأدعوه مرة أخرى لإلغاء نصف السطر..
ولا كل دموعك تمحو كلمة واحدة منه.
الزمن المُتصوَّر هنا كإصبع متحرك ؛ يُملي على التجربة الإنسانية بأكملها، ولا يملك المرء أيَّة حيلة قصد ذلك. كما يجب على المرء أن يُسلِّم بأن مصيره النهائي بيد الزمن لا بيده، وأن حرية الاختيار هي مجرَّد وهم .
الشاعرة جيهان ملك خاتون (عام 1324 ـ 1382 ميلادي)، وهي أميرة من سلالة إنجو في شيراز،حيث تُبدي إشارة مماثلة في شعرها. ففي أحد أعمالها الأدبية والذي لا يحمل عنوان، كتبت :
لقد ذهبت كل الورود؛ "وداعاً" نقول؛ ويجب علينا ذلك ..
سوف أترك هذا العالم المزدحم يوماً ما؛ ويجب علي أن أفعل ذلك ..
غرفتي الصغيرة، كُتبي، حبيبي، رشفات النبيذ التي أملأ بها فمي ..
كل هذه الأشياء العزيزة عليّ سوف تموت؛ ويجب عليها أن تموت ..
(ديڤيس، ص41)

تعكس مشاعر الخيام وخاتون هنا رؤية زورڤانية بحتة، مع أنهما لم يكونا زورڤانيين، وحتى مع جهلهما بأصل هذه الفلسفة؛ إلا أن آثارها كانت بعيدة المدى . كما إن فكرة الزمن كلصّ التي استخدمها الكُتّاب لقرون عديدة؛ لم يخترعها الفرس؛ بل ظهرت في الأدب المصري خلال فترة الدولة الوسيطة (عام 2040-1782 قبل الميلاد) وفي أماكن أخرى قبل ذلك ؛ بيد أن الفنانين الفرس قد طوّرها متأثرون باللاهوت الزورڤاني، الذين كانت أعمالهم متاحة لجمهور واسع قبل حلّ رموز لغَتي بلادَي الرافدين والنيل في القرن التاسع عشر الميلادي بزمن طويل .
لقد أصبحت المانوية التي تأثرت بالزورڤانية من أكثر الديانات شيوعاً في العالم القديم، منافسة بذلك المسيحية، ومؤثرة في جوانب منها، بالإضافة إلى البدع العديدة التي حاربتها. وفي عصرنا الحديث لم يسمع أحد بالزورڤانية سوى قلة من الناس ،ولكن فكرة الزمن الذي يُوجِّه القدر هو مفهوم مألوف حتى الآن ، ويستمر الجدل حول تفوق حرية الاختيار على القدر المحتوم في الأوساط الأكاديمية والأدب والميديا وحتى في الحياة اليومية . وقد تكون الزورڤانية نفسها قد اختفت بعد القرن السابع الميلادي، إلا أن تأثيرها لا يزال حاضراً.



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ساره أهبل ـ راپي ـ صعوبات وحلول داماسكيوس للمبادئ الأولى ـ طباعة جامعة أوكسفورد ـ 2010 .
ڤيستا ساركوش كورتيس ـ الأساطير الفارسية ـ طباعة جامعة تكساس ـ 1993 .
جيمس دارمستيتر ـ الزند ـ آڤيستا ـ فرانكلين كلاسيكس ـ 2018 .
كاڤيه فاروخ ـ جيوش فارس القديمة: الساسانیون ـ پين آند سوورد مليتيري للنشر ـ 2017 .
ديك ديڤس ـ مرآة قلبي : ألف عام من الشعر النسوي الفارسي ـ دار ماگ للنشر ـ 2019 .
أي . تي . أولمستيد ـ تاريخ الإمبراطورية الفارسية ـ طباعة جامعة شيكاغو ـ 1959 .
عمر الخيّام ( المؤلِف) & إدوارد فيتزجيرالد ( المترجِم) ـ رباعيات عمر الخيام ـ كالا أيدشينز للنشر ـ 2017 .
ألبرت دي يونگ ـ الزورڤانية ـ مقال منشور في موقع موسوعة إيرانيكا بتاريخ 28 / 3/ 2014 .
روبرت زاهنر ـ دين زورڤان؛ "إله الزمان والمكان الغير متناهي" ـ بحث منشور في موقع دائرة الدراسات الإيرانية القديمة ( CIAS ) بتاريخ 19/ 3/ 2020 .
هوما كاتوزيان ـ الفرس: إيران القديمة والوسيطة والحديثة ـ طباعة جامعة بيل ـ 2010 .



#عضيد_جواد_الخميسي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الملك البابلي نبوخذنصّر الثاني
- أرض الأمريكيين الأصليين وحكاية التلّ الغامض
- روايات قدماء السود الهاربين إلى كندا
- الأديرة البوذية في اليابان
- أرض كنعان التاريخية
- الإله نينورتا في الأساطير السومرية
- اتحاد كييڤ روس
- الأدب في ممالك مصر القديمة
- حضارة وادي السند الغامضة
- الجيش الأحمر في الحرب العالمية الثانية
- عبادة الإله مثرا
- التحنيط عند المصريين القدماء
- مذكرات جندي أمريكي عن درب الدموع
- من هم الأمورّيون ؟
- هذا ما كتبه هيرودوت عن بابل القديمة
- شخصية هرقل في الأساطير اليونانية والرومانية
- بطل ملحمة گلگامش بين الحقيقة والأسطورة
- نرگال (مسلامتيا) إله الموت والحرب والدمار
- الكريسماس عبر التاريخ
- قصة اكتشاف الأشعة السينية (X)


المزيد.....




- الرئيس الفلسطيني يدعو إلى الإفراج عن جميع الرهائن والأسرى من ...
- محمود عباس مخاطبًا الأمم المتحدة: إسرائيل قتلت وأصابت أكثر م ...
- تل أبيب تعلن اعتقال إسرائيلي هدد باغتيال نتنياهو
- رئيس دولة فلسطين يلقي كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحد ...
- اجتماع خاص في الأمم المتحدة يطالب بحماية الصحفيين في غزة
- مباشر - محمود عباس للأمم المتحدة: يجب على حماس تسليم سلاحها ...
- تل أبيب تعلن اعتقال إسرائيلي أمريكي بتهمة التخابر لصالح إيرا ...
- إدخال 158 شاحنة مساعدات من معبر رفح لإغاثة أهالي قطاع غزة
- تل أبيب تعلن اعتقال إسرائيلي - أمريكي بتهمة التخابر لصالح إي ...
- المكتب الإعلامي الحكومي في غزة: الاحتلال يفاقم معاناة آلاف ا ...


المزيد.....

- أسئلة خيارات متعددة في الاستراتيجية / محمد عبد الكريم يوسف
- أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال ... / موافق محمد
- بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ / علي أسعد وطفة
- مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية / علي أسعد وطفة
- العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد / علي أسعد وطفة
- الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي ... / محمد عبد الكريم يوسف
- التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن ... / حمه الهمامي
- تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار / زهير الخويلدي
- منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس ... / رامي نصرالله
- من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط / زهير الخويلدي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - عضيد جواد الخميسي - الطائفة الزورڤانية الفارسية