أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - داود السلمان - حين يصير التفكير ألمًا: قراءة في (محنة الإنسان في عالم الإمكان)














المزيد.....

حين يصير التفكير ألمًا: قراءة في (محنة الإنسان في عالم الإمكان)


داود السلمان

الحوار المتمدن-العدد: 8497 - 2025 / 10 / 16 - 10:02
المحور: الادب والفن
    


"محنة الإنسان في عالم الإمكان" ليست رواية بالمعنى التقليدي، ولا تستجيب لقوالب السّرد المعروفة أو البناء الروائي القائم على الشخصيات والحبكات، بل تنفتح على نوع مختلف من الكتابة، هي أقرب إلى التأمل الفلسفي العميق، الممتد في شكل سردي، والتصوف الروحي الذي ينعش الوجدان. فالكاتب محمود طارش الغرابي لا يقدّم عملاً أدبيًا بقدر ما يطرح ما يشبه "بيانًا وجوديًا" يتقصّى فيه معاني الحياة والموت، الخير والشر، المعرفة والجهل، محاولًا أن يتلمّس ما يجعل الإنسان إنسانًا وسط عالم تتزاحم فيه الأسئلة، وتتوارى فيه الإجابات خلف جدار كثيف من الغموض والقلق.
الكتاب، الممتد على 257 صفحة من القطع المتوسط، لعام 2025، لا يُقرأ كما تُقرأ الروايات؛ بل يُستقبل كما تُستقبل التأملات الفلسفية، بما فيها من ثقل المعنى وعمق الطرح وتشظي الأسلوب أحيانًا. إنه ليس سردًا لأحداث، بل بحث في الكينونة، صوغٌ لمحنة الإنسان من زاوية الوعي، أو بالأحرى، من زاوية امتلاكه لهذا الوعي الذي يجعله يُدرك هشاشته، ويقف وجهاً لوجه أمام مواضيع الوجود الكبرى. ومن هنا، لا يمكن فصل محتوى الكتاب عن شكل كتابته، لأن اللغة نفسها تتحوّل إلى وسيلة وجودية، تُحاول أن تواكب اتساع الأسئلة المطروحة، وتُعبّر عن المعاناة الداخلية لكائن يعي ذاته، ولا يملك أن يُغادر هذا الوعي دون أن يدفع ثمنًا من القلق والتساؤل والحيرة. وكل هذه الاشياء تدخل عوالم كينونة الانسان.
ومن هنا يتجلى في هذه "الرواية/ التأملات" مسعى واضح لطرح تساؤلات أكثر من تقديم أجوبة. فالكاتب لا يدّعي امتلاك الحقيقة، بل يسلك مسلك المتأمل القلق، الذي يُسائل كل شيء، من الخير والشر إلى الموت والحياة، دون أن يستقر على يقين ثابت. هذه الحركة المستمرة في طرح الأسئلة تُشكّل جوهر المحنة التي يتحدث عنها العنوان، (محنة الإنسان في عالم الإمكان). فالعالم، بوصفه إمكانًا، ليس حتمية، ولا ضمانة، بل فضاء مفتوح على كافة الاحتمالات، وهذا ما يجعل من وجود الإنسان تجربة ملتبسة، معلّقة، وعرضة للتناقضات والانكسارات.
وبالتالي نلاحظ كيف الغرابي يُركّز على وعي الإنسان بنفسه كأداة أساسية لهذه المحنة. فالإنسان ليس كائنًا بيولوجيًا فقط، بل هو روح نابضة، وكائن واعٍ، يُدرك موته كما يُدرك حياته، يُدرك الخير كما يُدرك الشر، وهذا الإدراك يفتح له أبواب التوق والبحث والتساؤل، لكنه في الوقت ذاته يُعمّق شعوره بالعجز والضياع أمام كونٍ لا يقدّم إجابات جاهزة. إن الوعي هنا يتحوّل من نعمة إلى عبء، ومن وسيلة معرفة إلى مصدر ألم، لأن الإنسان كلما عرف أكثر، كلما ازداد إدراكًا لهشاشته، ولمحدودية قدرته على فهم المعنى الكامل لوجوده.
ويُلامس الكاتب أيضًا فكرة الخير والشر بوصفها ثنائيةً قد لا تكون مطلقة، بل متداخلة، تابعة لزاوية الرؤية والتجربة الإنسانية. فهو لا يُقدّم الشر كقوة غريبة عن الإنسان، ولا يُبسّط الخير كقيمة مجردة، بل يُقارب كليهما كجزء من طبيعة الإنسان نفسه، ومن صراعه الداخلي الذي لا ينتهي. الخير، كما يفهمه الغرابي، ليس مجرد فعل إيجابي، بل سلوك يرتكز على وعي عميق بالمسؤولية الأخلاقية، والشر ليس دائمًا عدوانًا مباشرًا، بل قد يكون غفلة، أو تجاهلًا، أو حتى يأسًا من المعنى. وبهذا الطرح، يبدو أن الكاتب لا يسعى إلى الأخذ بيد القارئ نحو الحقيقة، بل إلى إقناعه بأن البحث عن الحقيقة، مهما كان شاقًا، هو المهمة الوجودية الأسمى للإنسان. كما يقول في صفحة 42: "تلي مرتبة البشر درجة الآدمية ثم مرتبة الشرف وهي الانسانية، أما المرتبة العليا هي أن يكون الإنسان عين الانسان".
وفي مسألة الموت والحياة، يتخذ الغرابي منحى تأمليًا وجوديًا واضحًا، مستلهمًا أصداء فلسفية ممتدة من سقراط إلى هايدجر، وإن بصياغة ذات نكهة سردية خاصة. فالحياة عنده ليست مجرّد زمن يُعاش، بل تجربة مليئة بالأسئلة، والقلق، والتوق إلى الخلود. والموت، في المقابل، ليس فقط نهاية بيولوجية، بل لحظة اصطدام الوعي بحدوده، لحظة انهيار إمكانات التفسير، وربما، أيضًا، لحظة اكتمال الفهم. إن الإنسان، في رؤيته، لا يخشى الموت لأنه مجهول، بل لأنه يُنهي إمكانية السؤال، يُنهي فعل البحث، ويضع نقطة النهاية في سطرٍ لم يُكتَب بعد بالكامل؛ وقد مثلة الكاتب بشخصية الدكتور محمود. كما يبدو واضحًا أن الكاتب يتعامل مع الإنسان بوصفه كائنًا يرفض الاكتفاء بالإجابات الجاهزة، ويصطدم دومًا بجدار العبث أو اللايقين. هذا الصدام ليس عرضيًا، بل جزء أصيل من الوعي الإنساني، وهو ما يجعل “المحنة” ليست مأساة خارجة عنه، بل جزءًا منه، جزءًا من كونه كائنًا حرًّا، مسؤولًا، يطرح الأسئلة حتى وهو يعلم أنه لن يجد لها إجابات نهائية. ومن هنا، فإن القارئ لا يخرج من هذا العمل محمّلًا بيقين أو نظرة مُريحة للحياة، أو قد يتيقن البعض، بل يخرج مثقلًا بأسئلة، وقد يشعر بأن اللغة كانت هي الوسيلة الوحيدة الممكنة للتخفيف من ثقل هذا الإدراك.
وفي نهاية المطاف، لا يمكن تصنيف هذا الكتاب تصنيفًا قاطعًا؛ فهو ليس رواية محضة، ولا مقالة فلسفية تقليدية، ولا نصًا أدبيًا خالصًا، بل هو كل ذلك في آنٍ معًا. هو شهادة إنسانية، كتبها عقل يرفض التسليم، وقلب يصرّ على أن يستمر في الخفقان، رغم وطأة الغموض. إن (محنة الإنسان في عالم الإمكان) هي تذكير قاسٍ، ولكن ضروري، بأن الإنسان ليس فقط من يُفكر، بل من يتألم لأنه يُفكر، ومن يحاول أن يجعل من هذا الألم معنى، حتى لو كان المعنى هشًّا، عابرًا، أو بلا يقين.
وفي السطور الأخيرة من الكتاب، يصل (محمود.. الشخصية البارزة في الكتاب) إلى فحوة: "يا أيها الانسان إذا كنت راع لكل الخليقة، فإنك تستحق لقب الخليفة. لو لم يعلم أنك قادر لما جعلك، ولم يأمرك بإقران فعله بفعلك".



#داود_السلمان (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إلى أين يمضي الفساد في العراق
- ليس دفاعًا عن ترامب
- احتمالات الذات بين الخيبة والقداسة
- هبّ الله: وجوه الأمومة المفقودة
- أياد الطائي… ضحية وطن
- من بغداد إلى هلسنكي: خيبة الهجرة وصراع الذات
- حين صار الشيطان شيخًا… والفقر طريقًا إلى الجنة!
- نيتشه والمرأة: سردية الحب والعزلة
- حين يكتب الشعر وجعه: قراءة في مجموعة هاجس الزوال
- في العاشرة: كانت تحلم بلعبة فوجدت نفسها زوجة!
- (المدعو) لخضير فليح الزيدي: الهوية كعبء وجودي
- دور رجال اللاهوت في تسطيع العقل وصناعة الجهل*
- دلالة الزمن في السرد
- المثقف المقولب: السلطة بصوت ناعم(36)
- المثقف في مواجهة القوالب الأيديولوجية(35)
- النماذج الفكرية كيف تؤثر على المثقف(34)
- المثقف المقولب: فقدان الاصالة أم اكتساب القوة؟(33)
- نبيّ الخمرة ونقّاد الوهم: تفكيك قصة (دمية راقصة) للكاتب عبد ...
- تأثير التكنولوجيا على قولبة أفكار المثقف(32)
- المثقف والقيود الذاتية: هل المثقف يصنع قيوده؟(31)


المزيد.....




- فيلم جديد يكشف ماذا فعل معمر القذافي بجثة وزير خارجيته المعا ...
- روبيو: المفاوضات مع الممثلين الأوكرانيين في فلوريدا مثمرة
- احتفاء مغربي بالسينما المصرية في مهرجان مراكش
- مسرحية -الجدار- تحصد جائزة -التانيت الفضي- وأفضل سينوغرافيا ...
- الموت يغيب الفنان قاسم إسماعيل بعد صراع مع المرض
- أمين معلوف إثر فوزه بجائزة أدبية في المكسيك: نعيش في أكثر عص ...
- الدرعية تحتضن الرواية: مهرجان أدبي يعيد كتابة المكان والهوية ...
- أمين معلوف إثر فوزه بجائزة أدبية في المكسيك: نعيش في أكثر عص ...
- يهود ألمانيا يطالبون باسترداد ممتلكاتهم الفنية المنهوبة إبان ...
- هل تقضي خطة ترامب لتطوير جزيرة ألكاتراز على تقاليد سكانها ال ...


المزيد.....

- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش
- مشروع مسرحيات مونودراما للسيد حافظ. اكسبريو.الخادمة والعجوز. ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - داود السلمان - حين يصير التفكير ألمًا: قراءة في (محنة الإنسان في عالم الإمكان)