صباح حزمي الزهيري
الحوار المتمدن-العدد: 8493 - 2025 / 10 / 12 - 11:22
المحور:
الادب والفن
المقامة الإقصائية :
قال أبو زيدٍ السُّهْرَوَرْدِيُّ: خرجتُ يوماً , والشمسُ تُشِعُّ في بَغدادَنا إشعاعاً , والهمُّ في قلبي يزدادُ اتساعاً , أسعى بين أزقةِ العاصمةِ العريقةِ , أبحثُ عن حقيقةٍ صديقةٍ , أو سُلوانٍ لِهَمٍّ جَثُومٍ , أَتَعَبَ مِنَ الحياةِ كُلَّ صَحِيحٍ وَسَلِيمٍ , فإذ بي أَلْمحُ شيخاً قد نَحَلَ جِسمُهُ , وتَقَوَّسَ مِنْ عَبءِ الزَّمانِ رَسْمُهُ , يجلسُ على عَتَبَةٍ صَمَّاءَ , ينظرُ إلى السماءِ بِنَظرةٍ عَمْيَاءَ , فَدَنَوْتُ مِنهُ مُسَلِّماً , وعَن حالِهِ مُسْتَفْهِماً , فأجابني الشيخُ بلغةٍ يُزَيِّنُها البَيَانُ , ويَخدِمُها رَقِيقُ الألفاظِ وَجَزِيلُ الكَلَامِ , وكأنَّ لسانَهُ لؤلؤٌ وَمَرْجَانُ , وَاسْمُهُ أبو العلاءِ الواسِطِيُّ ذو القلبِ الحيرانُ: (( يا فتى , لا سَلَّمَ اللهُ مَن بَاعَ الوَطَنَا , ولا رَدَّ مَن أَقصَى المُؤْتَمَنَا, تسألني عن حالي؟ حالي مُغْتَرِبٌ , وفي وطني مُعْتَصَبٌ, أتيتُ هذهِ العاصمةَ بخُطُواتٍ واثقةٍ إِذْ ذَاكْ , أحملُ شهادةً عَلَّامةً , وفكراً سَلامَةً , وكنتُ أحسبُ أنَّ بابَ الرزقِ لي مَفْتُوحٌ , وفي صَفِّ القَومِ لي مَقامٌ مَمْنُوحٌ.
قالَ أبو زيدٍ السُّهْرَوَرْدِيُّ: حَدَّثَنَا الزَّمانُ بِعَجائِبِهِ وَغَرائِبِهِ , وشَكَتْ إلينَا الأوطانُ مِنْ نَوائِبِهِ , فَبَيْنَمَا أَجُولُ في رُبُوعِ دِجْلَةَ العَظيمَةِ , وأَرقُبُ أَهْلَهَا بِنَظرةٍ أَلِيمَةٍ , لَقِيتُ شَيْخاً قَدْ أَوْهَنَهُ السَّفَرُ, وَأَضنَاهُ البُعْدُ وَالضَّجَرُ , يَزُمُّ شَفَتَيْهِ بِأَسَىً خَفِيٍّ , وَيَنظُرُ إلَى الأَرضِ بِطَرْفٍ شَجِيٍّ , فدَنَوْتُ مِنْهُ مُسْتَفْسِراً عنِ الحالِ , ومُتَسائِلاً عَن سِرِّ هَذا الإِهمالِ , فقالَ , وكأنَّ قَوْلَهُ سَجْعُ بَردِيٍّ وَنَغَمُ قِيثارٍ عَلَى وَتَرِ المِحْنَةِ : (( يا أَيُّها السَّائِلُ عن سِرِّ هذا الحَالِ , أنا أبو العلاءِ الواسِطِيُّ المُفْرَدُ كَالبَعِيرِ المُعَبَّدِ , كُنْتُ وَالْوِلْدانُ في رَحِمِ هَذا الوَطَنِ , نَخدمُهُ بِالكِفَاءَةِ دُونَ مِحَنٍ , حَتَّى دَاهَمَتْنَا يَدُ الإِقصاءِ , بَعْدَ الغَزوِ وَسَيْفِ الاحتِواءِ , وجاءَتْ قَرَاراتٌ ما لَها مِنْ سَنَدٍ , وَطُرِدْنَا مِنْ أَعْمَالٍ لم نَعْرِفْ لَها جَزَرَاً بَعْدَ مَدٍّ , لا لجُرْمٍ اقترَفْنَاهُ يُوجِبُ التَّنْكِيلَ , بَلْ لِكَوْنِنا خَدَمْنَا نِظَاماً كانَ لِلأُمَمِ تَمْثِيلٌ وَتَبْجِيلٌ .
فإذا بالوَاقِعِ سَيْفٌ مَسْلُولٌ , يَقْطَعُ أَواصرَ الأهلِ ويَفْصِلُ , ويُمَيِّزُ بينَ هذا وذاكْ , بِفَأْسِ الحِزْبِ وَالنَّسَبِ وَمَن وَالَاكْ , فعندما لَبِستُ ثوبَ الاحتِرَافِ قَالوا: هذا من غيرِ مِلَّتِنا ,وعندما تَكَلَّمتُ بِلُغَةِ القَانُونِ قَالوا : ليسَ من عَشِيرَتِنا , ولما ناديتُ بِصَوتِ الإصْلَاحِ قَالوا: هو غَرِيبٌ لا يَليقُ بِمَنْصِبِ الإقْدَاحِ , فرُحْتُ أَسْعَى بينَ الدَّوَائِرِ, وأَبْعَثُ الرَّسَائِلَ بالمَحَابِرِ, فَرُدَّتْ وُجُوهُ رِسالاتي بِصَدٍّ عَنِيفٍ , وبُوحِثَ عن كُلِّ قَرِيبٍ وَحَلِيفٍ , فَكَأنَّ الوَطَنَ لَيْسَ جُغرافِيَةً , بَلْ مَنَاصِبُ تَتَوَارَثُها طَوائِفُ وَفِئَاتُ , وَلَيْسَ العِرَاقُ لِأَهلِهِ جَمِيعاً , بَلْ لِمَنْ يَرْضَى بِحُكمِ التَّقْسِيمِ والتَّشْقِيقِ وَالتَّرْكِيعِ , فأَبَتْ عليَّ نَفسي أنْ أكونَ مُزْمِراً لِفَاسِدٍ , أو عابِداً لِمَنصِبٍ مُتَجَاحِدٍ , فَأَوْقَفْتُ سَعيي لِأَجلِ المَقَامِ , وَقَنِعتُ بالرِّزْقِ الحَلَالِ مَعَ قِلَّةِ الدَّوَامِ, نَظَرُوا إلَيَّ كَأنِّي نَكِرَةٌ , وَهُمُ الغُرَبَاءُ بِمَا فَعَلُوهُ مِن جَائِرَةٍ.
يا صَاحِبِي , إِنَّ الإِقصاءَ لَيْسَ مُجَرَّدَ فِعْلِ إبْعَادٍ , بَلْ هُوَ شَرُّ دَاءٍ يَنخُرُ في جَسَدِ الأَجْسَادِ , أَقصَى الشَّيءَ أيْ أَبْعَدَهُ , وَهَذا الإِبْعَادُ في مُجْتَمَعِنَا قَدْ أَفْسَدَهُ , هوَ سِياسَةُ نَفْيِ الآخَرِ, وَتَهْمِيشُ الكُفْءِ العَابِرِ , أَتَعْلَمُ ؟ إِنَّهُ ليسَ إِلَّا مَيْلاً لِلتَّخَلُّصِ مِمَّنْ نَرَاهُ بِلا نَفْعِ , فَيُحْرَمُ مِنْ أَنظِمَةِ الحِمَايَةِ وَالدَّفْعِ , فَتَقِلُّ فُرَصُهُ وَمَوَارِدُهُ الَّتِي لَهُ , وَيُصْبِحُ هَذَا هَدْرَاً لِلْكَفَاءاتِ الوَطَنِيَّةِ كُلَّهَا لَهُ , تَرَكْنَا البِلادَ كَارِهِينَ تِلْكَ الأَوْجَاعَ , نَطْلُبُ الرِّزقَ وَالأَمَانَ في البُلدانِ شِبْرَاً شِبْرَاً وَبَاعاً بَاعاً , وهذا البَلاءُ لَيْسَ لَهُ وَجْهٌ وَاحِدٌ , بَلْ أَوجُهٌ شَتَّى لَهَا أَلْفُ قَائِدٍ : (( الإقصاءُ الاقْتِصَادِيُّ : تَرَى التَّمْيِيزَ حَاضِرَاً في فُرَصِ الأَعْمَالِ , فَالْمُتَقَدِّمُ يُبْحَثُ عن هُوِيَّتِهِ لا عنِ الكَمَالِ , يَسأَلُونَهُ عن انْتِمَائِهِ الإِثْنِيِّ , وَعنْ حِزْبِهِ الوَهَنِيِّ , حَتَّى يُحْرَمَ المَرْءُ مِنْ رِزقِهِ فَتَشْقَى حَيَاتُهُ وَنَفْسُهُ , والاستِبْعَادُ السَّياسِيُّ : حِرْمَانٌ مِنَ المُشَارَكَةِ في الشَّأنِ العَامِ , وَلَيْسَ لِلْكَفْءِ مَقامٌ بينَ اللِّئَامِ , والإقصاءُ الثَّقَافِيُّ : إِذَا بَلَاكَ بِمَنْعِ الحُرِّيّاتِ القَوْمِيَّةِ , أَو ضَرَبَ عَلَى الدِّينِ بِرَايَاتِهِ العَصَبِيَّةِ )) , لا تَحيَا ثَقَافَةُ الدِّيمُقرَاطِيَّةِ في مُجْتَمَعٍ يَرعَى الإِقصاءَ , فَهُوَ أَخُو التَّعَصُّبِ , وَهُوَ مَصْدَرُ الشَّقَاءِ وَالِاسْتِعْلَاءِ , حَتَّى تُراثُنَا يَحْمِلُ جَذْرَ هذا الدَّاءِ , مِنْ صِراعِ مِلَلٍ تُكَفِّرُ بَعْضَهَا بِالادِّعَاءِ.
وَيْلٌ لِمُجْتَمَعٍ يَتَرافَقُ فِيهِ الإِقصاءُ وَالتَّشْوِيهُ , فَالضَّحِيَّةُ تُوضَعُ في صُورَةٍ نَمَطِيَّةٍ مَكْرُوهَةٍ , فَيُصْبِحُ التَّهْمِيشُ سِجْناً لِمَنْ تَعَرَّضَ لَهُ , وَهَوَّةً تَزدادُ عُمْقاً عَلَى مَنْ نَجَمَ لَهُ , إِنَّ إِغلاقَ أَبْوَابِ الفَرَجِ في وَجْهِ المُهْمَشِينَ , يُحِيلُهُمْ إلى بَحْثٍ عَن حُلُولٍ في جَوَانِبِ القَانُونِ وَالزَّمَانِ , فَمَاذَا يَبقَى لَهُمُ ؟ وَبِمَنْ يَلُوذُون ؟ لا شَيءَ سِوَى الاحتِجاجِ عَلَى هذا الوَبَالِ , لَعَلَّهُمْ يَجِدُونَ مَنْ يُجِيبُ سُؤَالَهُمْ مِنْ مَعَالِي رِجَالِ , وَلَكِنْ , إِنْ أُهْمِلَ صَوتُ الاحْتِجاجِ , تَوَلَّدَتْ مَخَاطِرُ لا تُحْمَدُ بِالخَرَاجِ , فَقَدْ تَزِيدُ لَحَظَاتُ العُنْفِ , وتَنفَتِحُ الأَبوابُ عَلَى مَجَاهِيلَ يَعِزُّ فِيهَا الوَصْفُ , إِنَّ هذا الاخْتِلالَ في مَبْدَأِ المُوَاطَنَةِ , هُوَ شَرخٌ عَظيمٌ يَتَحَدَّى النِّظَامَ بِعِظَمِ فِتْنَتِهِ , فَإِنَّ مَشَاعِرَ الإِقصاءِ تُؤَدِّي إلَى دَوْراتٍ مِنْ الصِّراعِ , وَعَدَمِ الثِّقَةِ بِالنِّظَامِ وَصُنَّاعِ الوِقَاعِ ,فَكَيْفَ نُحارِبُ العُنْفَ وَنَحْنُ نَسْتَزِيدُ مِنْهُ بِتَرْكِنَا ؟ أَوَّلُ الخُطُوَاتِ أَنْ نَعْتَرِفَ بِالآخَرِ, وَنَقْبَلَ التَّعَايُشَ مَعَهُ بِمَنْظَرٍ لِلآخِرِ , إِنَّ إِدَارَةَ التَّنَوُّعِ لَيسَتْ بِالأَمْرِ الهَيِّنِ , وَلَكِنَّها مَكْسَبٌ كَبِيرٌ لِلْوَطَنِ بِكُلِّ مِفْصَلٍ وَمِعْوَلٍ , وَالأَمرُ الأَساسِيُّ يَبقَى في إِعلاءِ كَلِمَةِ سِيَادَةِ القَانُونِ , فَهُوَ العَمُودُ الَّذِي عَلَيْهِ نَقُومُ .
فأَقسَمْتُ أَنْ لَا أَحُطَّ لِقَدرِي وَشَانِي , وَلَا أَكُونَ مِنْ مَنْ بَاعُوا الوَجْدَانَ لِزَيْفِ الأَلْوَانِ , فالإقصاءُ عِنْدي شَرَفٌ , مَا دَامَ فِي سَبِيلِ الحَقِّ وَلَيْسَ زَلَفٌ ,قال أبو زيدٍ السُّهْرَوَرْدِيُّ: فلمَّا سَمِعتُ كلامَهُ هذا , الذي كأنَّما هو شُهْدٌ مُصَفًّى , عَلِمتُ أنَّهُ أبو العلاءِ الواسِطِيُّ , بطلُ هذهِ المَقامَةِ , وأنَّ الإقصاءَ ليسَ إلا أَدَاةً , يَتَقاذَفُ بِها بَعضُهُم بَعضاً , لِكَيْ يَصِلَ مَنْ لا يَسْتَحِقُّ , وَيُهْمَلَ مَنْ فيهِ حَقٌّ يَفُوقُ, ودَرَيْتُ أنَّ في بَغْدَادَ مِثلَهُ كَثيرٌ , فَاسْتَوْجَبَ الدُّعاءَ بِقَوْلٍ مَأْثُورٍ: (( اللَّهُمَّ أَصْلِحْ أَحْوَالَنا , وَارْفَعْ أَبْطَالَنَا , وَلا تُسَلِّطْ عَلَيْنَا بِذُنُوبِنَا مَنْ لا يَرْحَمُ , وَاجْعَلِ العِرَاقَ لِأَهلِهِ مِنْ كُلِّ فَئَامٍ , حَتَّى يَسُودَ العَدلُ بِدُونِ انْقِسَامٍ )) , وقالَ أبو زيدٍ: فَلَمَّا سَمِعتُ كلامَهُ بَلَغَ الحَلَقِيمَ , عَلِمْتُ أنَّهُ صَوتُ المُتَألِّمِينَ الَّذينَ رَفَضُوا بَيعَ كَفَاءاتِهِمْ بِمَزَادِ العِصَابَةِ وَالنَّفْسِ اللَّئِيمِ , ثُمَّ سَأَلْتُهُ بِلُغَةِ المُشْفِقِ : أَبِاللَّهِ عَلَيكَ يا أَبَا العَلاءِ , هَلْ نَرْتَدِعُ عَنِ الإِقصاءِ الَّذِي مَزَّقَنا , أَمْ نَبقَى فِي غَياهِبِ الإِفْرَادِ حَتَّى يَتَّسِعَ وِفَاقُنا ؟ فما زادَ على أنْ أَجَابَ وَدَمْعُهُ يَسِيلُ وَكَأنَّهُ لُؤْلُؤٌ وَجَوَاهِرُ, وَصَوْتُهُ يَخْنُقُهُ البُكَاءُ وَالآهِ وَالزَّوَاجِرُ: (( هُوَ السؤالُ , وَفِيهِ الخَاتِمَةُ وَالمَآلُ )) .
توضيح :
الراوي (أبو زيدٍ السُّهْرَوَرْدِيُّ ) : هو الشاهد والمُستمع الذي يروي الحادثة , ووظيفته هنا هي نقل معاناة البطل وتسجيلها.
البطل أبو العلاءِ الواسِطِيُّ (المُقْصَى والمُهَاجِرُ) : هو الشخصية المحورية التي تدور حولها المقامة , ويمثل هنا المواطن الكفؤ والمُتعلم الذي تعرض للإقصاء بسبب المحاصصة الطائفية والحزبية في التوظيف والمناصب , وليس لنقص في مؤهلاته.
الموضوع والنكتة: الإقصاء الاجتماعي والسياسي في العراق , حيث يتم توظيف الأفراد بناءً على الانتماء (الحزب , الطائفة , العشيرة) بدلاً من الكفاءة , مما يؤدي إلى تهميش الكفاءات الوطنية.
الأسلوب: السجع الواضح في الفقرات والزخرفة اللفظية واستخدام الألفاظ الجزلة التي تميز فن المقامة.
العبرة: التعبير عن الألم من واقع المحاصصة الذي يقسم الوطن ويظلم أهله , والدعاء بالصلاح والعدل.
صباح الزهيري .
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟