ليث الجادر
الحوار المتمدن-العدد: 8491 - 2025 / 10 / 10 - 02:47
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
المقدمه
في سياق دراسة الدولة والسلطة، أصبح واضحًا لي أن التركيز على الأشخاص أو القرارات الفردية لا يكفي لفهم استمرار الهيمنة أو ثبات السياسات الكبرى. هناك ذكاء بلا عقل، ليس شعورًا شخصيًا أو إرادة فردية، بل قدرة البنية على الاستجابة والتكيف وحماية مصالحها باستمرار.
هذا الذكاء يظهر في الطريقة التي تفكر بها الطبقة المهيمنة عمليًا، في آلياتها الداخلية، وفي ذاكراتها المؤسساتية. إنه نمط من التفكير يمتد عبر الزمن ويعيد إنتاج الهيمنة، مستقل عن أي قائد أو إدارة محددة.
في هذا البحث أتعامل مع التفكير الطبقي على أنه آلية مؤسساتية وذهنية، ليس مجرد مجموعة مصالح أو سياسات معلنة، بل شبكة من الإجراءات، التوازنات، والاستجابات التي تحافظ على استمرار النظام. ومن هنا ينبثق مفهوم البلوب السياسي، كنموذج عملي للذكاء البنيوي في دول مراكز الرأسمال، بما في ذلك الولايات المتحدة، حيث تتجلى هذه الآليات بصورة واضحة.
المسعى هنا ليس تقييمًا أو مدحًا للبلوب أو لأي طبقة، بل فهم كيف تعمل هذه الآليات عمليًا، وكيف يعاد إنتاج الهيمنة السياسية والاجتماعية عبر التفكير المؤسسي للبنية نفسها. هذا الفهم يتيح النظر إلى الدولة والطبقات من منظور عملي، يتجاوز التركيز التقليدي على الأفراد أو البرامج السياسية فقط.
1. الذكاء بلا عقل: مفهوم ومقاربة فلسفية
الذكاء البنيوي: قدرة البنية على الاستجابة للتحديات وحماية نفسها، دون الاعتماد على أي إرادة فردية.
آليات العمل: التعلم من التجارب السابقة، التكيف مع الأزمات، استشعار المخاطر قبل وقوعها، وإعادة تنظيم الذات بما يحافظ على مصالحها.
البعد الفلسفي: هذا الذكاء يكشف أن الفعل السياسي والاجتماعي ليس محصورًا في الأفراد، بل في الشبكات الطبقية المؤسسية التي تعمل وفق منطق خاص بها.
2. التفكير الطبقي للطبقة المهيمنة
الطبقة المهيمنة ليست مجرد أشخاص يملكون السلطة، بل شبكة مصالح ووعي بنيوي يضمن استمرارية الهيمنة.
آليات التفكير الطبقي:
1. صياغة السياسات وفق مصالح البنية وليس الفرد.
2. التحكم في الموارد الأساسية وإعادة إنتاج التبعية الاقتصادية والسياسية.
3. امتصاص الاحتجاجات والفوضى دون المساس بالهيكل الأساسي للسلطة.
بهذا المعنى، التفكير الطبقي طريقة عمل ذهنية جماعية، وليست إرادة شخصية.
3. البلوب في دول مراكز الرأسمال: النموذج الأمريكي
في الولايات المتحدة، يتجسد التفكير الطبقي في البلوب: شبكة مؤسساتية مؤثرة تحمي مصالح الدولة والطبقة المهيمنة.
خصائص البلوب الأمريكي:
1. قوة مؤسسية مستقلة عن الشخصيات السياسية.
2. قدرة على امتصاص الصدمات السياسية والاجتماعية.
3. إعادة إنتاج سياسات الدولة الكبرى بشكل مستمر، بغض النظر عن الرؤساء أو الإدارات.
البلوب هو تطبيق عملي للذكاء الطبقي: عقل جماعي لا يظهر كفرد، لكنه يملك "وعي النظام" ويعيد إنتاج الهيمنة باستمرار.
4. النماذج الطبيعية: البلوب، النباتات، والأوركيديا
لفهم الذكاء بلا عقل في الطبيعة، يمكن النظر إلى البلوب الطبيعي الذي لا يمتلك عقلًا أو جهازًا عصبيًا، ومع ذلك يظهر قدرة على التفكير بطريقة ما، حيث يستجيب للتحديات البيئية ويعيد تنظيم نفسه بشكل تلقائي. هذه الخاصية تعكس الذكاء البنيوي نفسه الذي لاحظناه في الطبقات المهيمنة والدول الرأسمالية الكبرى.
ذكاء النباتات: لاحظ دارون كيف أن النباتات تظهر علامات ذكاء حقيقي على الرغم من غياب الجهاز العصبي. النباتات تستجيب للمحفزات الضوئية، الكيميائية، وحتى للحشرات بطريقة تضمن بقائها وتكاثرها، وقد تطور هذا الطرح لاحقًا ليشمل فكرة شبكات التعلم الطبيعية، حيث تتفاعل الأنظمة البيولوجية بشكل غير مركزي لكنها تحقق أهدافها بفعالية عالية.
زهرة الأوركيديا: ملاحظة خاصة من كاتب هذه السطور تكشف عن نوع من الأوركيديا التي تحاكي تكاثر النحل في بيئتها. الزهرة تقلد هيئة الأنثى في تشكيل مظهرها بحيث يظن الذكر أنها أنثى حقيقية. هذا يجعله ينجذب نحوها ويلامسها، ثم ينتقل إلى زهرة أخرى، وهكذا يتم انتقال اللقاح. هذه الآلية، على الرغم من دقتها ونجاعتها، لم تُخطط بعقل ولم تُدار بتعمد، بل هي مثال حي على التفكير بلا عقل في الطبيعة.
5. البلوب والذكاء البنيوي
الذكاء البنيوي للبلوب يسمح له:
استشعار المخاطر مبكرًا والتكيف معها.
إدارة الأزمات والحفاظ على استمرارية النظام.
إعادة إنتاج السياسات والهيمنة بشكل مستمر.
أي تحليل للطبقات المهيمنة يجب أن يتجاوز الأفراد ويعتمد على فهم البنية ككائن حي يمتلك أدواته وذاكرته الخاصة.
6. استشهاد/تدليل واقعي: الرأسمالية العسكرية–التقنية في الولايات المتحدة
في السنوات الأخيرة، أخذت العلاقة بين الدولة والسوق والتكنولوجيا في الولايات المتحدة شكلاً جديدًا يكشف عن طور متقدم من الرأسمالية العسكرية–التكنولوجية، حيث لم يعد الابتكار التكنولوجي مجرد حقل مدني موجه للمستهلكين، بل تحول إلى مصدر مباشر لتراكم رأس المال عبر بوابة المجمع العسكري. هذا التحول لا يتجلى فقط في السياسات الرسمية أو ميزانيات الدفاع، بل أيضًا في مسارات الأفراد والشركات الذين كانوا حتى الأمس القريب رواد أعمال تقنيين يعملون في فضاء التطبيقات والخدمات الرقمية، ليجدوا أنفسهم اليوم في قلب صناعة السلاح المتقدمة. حالة ستيفن سيموني مثال دال على ذلك؛ رجل بدأ مسيرته في تأسيس شركة مدفوعات إلكترونية، ثم انتقل إلى إنتاج أسلحة تعتمد على الذكاء الاصطناعي، محققًا عقودًا مع الجيش الأميركي. هذه النقلة ليست مجرد خيار فردي، بل تعبير عن منطق اقتصادي أشمل يعيد دمج السوق المدني في ماكينة الحرب الإمبريالية.
الدولة الأميركية، بوصفها التعبير السياسي عن مصالح الطبقة الرأسمالية المهيمنة، تعيد تموضعها لتتكيف مع التحولات التكنولوجية، وتعيد تشكيل بنيتها التمويلية والعسكرية بما يتناسب مع مصالح رأس مال جديد يتشكل عند نقطة التقاء الابتكار المدني والآلة العسكرية. لم تعد العلاقة بين الدولة والسوق علاقة فصل وظيفي، بل اندماج عضوي، حيث تستند مشروعات الدفاع إلى ابتكارات القطاع الخاص، فيما يُفتح أمام هذا القطاع مجال واسع للتراكم من خلال العقود العسكرية والدعم السياسي. هذه العلاقة لا تعكس شراكة مؤقتة، بل تكشف عن آلية جديدة لإعادة إنتاج الهيمنة، إذ تتولى الدولة ضمان بيئة تراكم مستدامة لهذه الطبقة التكنولوجية الجديدة، في حين توفر الأخيرة للدولة أدوات تفوق عسكري وسيطرة جيوسياسية.
التكنولوجيا هنا ليست مجرد أداة محايدة، بل صارت أحد محركات التراكم نفسها. فالأسلحة المعززة بالذكاء الاصطناعي، والطائرات المسيّرة، والأنظمة الدفاعية الذاتية، ليست فقط منتجات تباع وتشترى، بل هي أيضًا بنى تحتية تعيد تنظيم منطق الحرب والاقتصاد معًا. ومن خلال هذه المنتجات، تتولد دورة رأسمالية مكتملة: الدولة تموّل وتبرر عبر السياسات الأمنية، السوق يبتكر ويحتكر المعرفة التقنية، والحروب القائمة والمحتملة تولّد طلبًا دائمًا، فيتحول الصراع إلى آلية اقتصادية لإعادة إنتاج النظام. ما كان في السابق تراكماً رأسمالياً تقليدياً في قطاع الصناعات الثقيلة، أصبح اليوم تراكماً في البنية التكنولوجية المتقدمة، مع احتكار مفرط للمعرفة والقدرات التقنية من قبل قلة متركزة في وادي السيليكون والمجمع العسكري.
في هذا السياق، يبرز جيل جديد من الرأسماليين: ليسوا صناعيين تقليديين ولا ممولين ماليين صرف، بل طبقة هجينة تجمع بين مهارة الابتكار، النفوذ السياسي، والقدرة على تحويل المعرفة التقنية إلى قوة مادية مدمرة. هذه الطبقة لا تتحرك في هامش النظام، بل في مركزه، لأنها تمثل تزاوجًا فعليًا بين مصالح الدولة ومصالح رأس المال المتقدم. ولأن الحروب في أوكرانيا والشرق الأوسط والتوتر مع الصين وفرت أرضية مثالية لتوسيع هذه الدورة، فإن هذا النمط من التراكم لم يعد استثناءً، بل أصبح سمة بنيوية في الرأسمالية الأميركية الراهنة. فالحرب لم تعد نتيجة سياسية فحسب، بل صارت شرطًا اقتصاديًا لإدامة التراكم.
ما نشهده ليس مجرد تحالف ظرفي بين الدولة والشركات التكنولوجية، بل إعادة صياغة عميقة لبنية الرأسمالية في طورها المتقدم. الدولة لم تعد فقط ضامنة للنظام القائم، بل شريكًا مباشرًا في إنتاج القيمة من خلال تمويل وتسليح وتسهيل هذا الشكل من التراكم؛ السوق لم يعد ميدانًا للمنافسة الحرة، بل أصبح فضاءً لاحتكار المعرفة التقنية وتوجيهها نحو أهداف عسكرية؛ والتكنولوجيا لم تعد وسيطًا، بل أصبحت هي نفسها موضوع الصراع وأداته. والأهم أن هذه العملية لم يخطط لها عقل محدد ولم تُدَر بتعمد من أي شخص واحد، بل هي مثال حي على التفكير بلا عقل، حيث تعمل البنية الشبكية الاقتصادية–الدولية بطريقة مستقلة نسبياً، لكنها تحقق مصالح الطبقة المهيمنة باستمرار.
7. استنتاجات
1. التفكير الطبقي هو آلية ذهنية ومؤسساتية أكثر من كونه سلوكًا فرديًا.
2. الذكاء بلا عقل يمثل القدرة البنيوية للطبقات على حماية مصالحها وإعادة إنتاج نفسها.
3. البلوب في الدول الرأسمالية الكبرى مثل الولايات المتحدة هو تجسيد حي للتفكير الطبقي والذكاء البنيوي.
4. فهم هذه الآليات هو شرط أساسي لأي مشروع إصلاحي أو تحليلي يهدف إلى التغيير أو نقد الهياكل الطبقية.
5. النماذج الطبيعية (البلوب، النباتات، الأوركيديا) تبرهن أن الذكاء البنيوي والتفكير بلا عقل موجودان على مستويات متعددة، ويُظهران كيف يمكن للبنية أو النظام تحقيق أهدافه بكفاءة دون إرادة فردية محددة.
#ليث_الجادر (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟