نعمة المهدي
الحوار المتمدن-العدد: 8490 - 2025 / 10 / 9 - 12:08
المحور:
الادب والفن
قصة من واقعٍ يختلط فيه الحلمُ بالاتهام
ما أقسى الإنسان حين يضع العدل في كفة الظلم، ويقيس النوايا بمقاييس الجريمة.
إن في بعض العصور يعلو صوت الحديد على صوت الرحمة، ويُدان القلب قبل أن يخفق، والفكر قبل أن يُنطق به.
يصبح الحلم تهمة، والبراءة شبهة، والضحك سلاحًا ضد النظام.
وحين تختلط الحقيقة بالجنون، لا يبقى للإنسان سوى أن يبتسم في وجه قدره، كمن يودع نور العقل في زمن العمى.
جلست الحاجة أم محمود على كرسي خشبي بارد، في غرفة يلفها صمت ثقيل، وأصابعها المتهدلة ترتجف كأوراق الخريف حين تعبث بها ريح المساء.
كانت عيناها الغائرتان تومضان بخوفٍ غامض، وفي صوتها نبرة من البراءة والذهول وهي تقول:
– ولك يمّه، والله ما سرقنا شي، هو حلم... حلم شافه حفيدي حسن بالمنام!
رفع الضابط رأسه ببطء، وكأن الكلمة أوقفت شيئًا من سخريته، ثم التفت إلى كاتب المحضر وقال بصوت خالٍ من الرحمة:
– سجّل يا رجل... الاعتراف قائم، والنية ثابتة.
ومن تلك اللحظة انفتحت أبواب المأساة، وبدأت الحكاية التي تُحاكم الحلم وتُنزّه التهمة.
كان ذلك قبل أيام معدودات.
ليلة من ليالي كانون اشتد فيها البرد حتى كاد ينخر العظام، فالتفّت الأسرة حول مدفأة متهالكة، تتقاسم دفءَ الجمر وذكريات الشتاءات القديمة.
جلست أم محمود في صدر المجلس، التحفت عباءتها السوداء، تتأمل وجوه أحفادها كأنها تتفقد بساتينها في صباها.
قطع سكون الليلة صوت حفيدها حسن وهو يقول ضاحكًا:
– بيبي، شتتخيلين؟ حلمت البارحة آني وعمي محسن وأخويه لؤي، سرقنا البنك المركزي وأخذنا فلوس ما تنعد!
ضحكوا جميعًا، بعضهم وقع من شدة الضحك، وآخرون صاحوا:
– يا ريت والله!
لكن الحاجة رفعت سبحتها وقالت بخوفٍ فطري:
– ولك بيبي، لا تورّطنا، الله يستر... الحلم ما يُؤمن!
وانتهت الليلة مثل كل الليالي الطيبة: دعاء وضحكة وكلمة "تصبحون على خير".
لكن القدر لم يكن نائمًا تلك الليلة.
في صباح رمادي بعد يومين، انخلع الباب على طرقات عنيفة تزلزل الجدران، ودخل رجال بوجوه كالصخر وأسلحة تلمع كعيون الذئاب.
صرخوا بأوامر لا تُفهم، وقيّدوا الأيدي كما تُقيّد الخيول الشاردة، واقتادوا الجميع: الرجال والنساء وحتى أم محمود التي لم تقترف من الذنوب إلا ما يفعله العمر بالضعف.
في الطريق إلى مديرية الأمن، همست لنفسها وهي ترتجف:
– يا رب، شنو صار؟ أبحِلم نتحاسب؟!
وحين أُجلست على الكرسي أمام المحقّق، سُئلت عن خطة السرقة والمتآمرين فقالت بصوتٍ واهن:
– ولك يمّه، شنو سرقة!؟ هذا حلم، حلم ، حفيدي حسن يحلم، مو أكثر.
لكن التحقيق مضى كقطار لا يسمع بكاء الركاب، والضحك صار دليل تآمر، والصمت صار اعترافًا، والنية صارت جريمة.
وفي محكمة الجنايات جلس القاضي على منصّته كتمثالٍ من صخرٍ لا يسمع إلا نفسه، وتلا الأحكام بصوتٍ خالٍ من الرحمة:
– الحفيد حسن : السجن المؤبد لنيته سرقة البنك المركزي.
– الباقون: خمس سنوات للتستر.
– الحاجة أم محمود: سنة ونصف رأفة بعمرها.
ساد الصمت في القاعة كأن الزمن توقف عن التنفس، والعيون معلّقة بالحكم كأنه قدر لا يُرد.
رفعت أم محمود رأسها المنحني ببطء، كأنها ترفع عمرًا بأكمله من فوق كتفيها، ونظرت إلى القاضي بعينين ذابلتين فيهما سؤال واحد لم يُجب عليه أحد:
"شنو ذنب العجوز إذا حفيدها حلم؟"
مدّت يدها إلى صدرها كمن يتحسس طعنة خفية، وقالت بصوتٍ متهدّجٍ مبحوح:
– ولك ابني، بهالزمن صارت النوايا تُحاكَم قبل الأفعال، وصار الحِلم جريمة، والضحكة خيانة، والبراءة تنسجن ويا المجرمين!
سكتت لحظة وأطرقت رأسها كأنها تسلّم عقلها الأخير للسكينة.
ثم اقترب الحرس منها، فأمسكوا بذراعيها الواهنتين وساقوها نحو الباب الحديدي.
كانت تمشي بخطى بطيئة، كل خطوةٍ منها كأنها صلاة وداع للحياة، وصوت مفاتيح السجان يرنّ في أذنها كأجراس القيامة.
لم تبكِ، لكن في عينيها دمعة واحدة ظلّت معلقة، لا تسقط ولا تجف، كأنها بقيت هناك تشهد على زمن صار فيه الحلم تهمة جاهزة.
مرّت الشهور ثقيلة كليلٍ بلا فجر.
في زنزانتها الضيقة كانت أم محمود تقتسم أنفاسها مع الرطوبة، وتنام على فراشٍ خشنٍ يذكّرها بتراب المقابر أكثر مما يذكّرها بالحياة.
في الأيام الأولى كانت تبتسم للسجينات وتحكي لهن عن بيتها وأحفادها وشاي المساء على المدفأة القديمة، لكنها شيئًا فشيئًا بدأت تذبل مثل زهرة حُبست في الظل.
أصيب جسدها بالوهن، وصار سعالها يؤرق ليل الزنزانة.
زارها طبيب السجن أكثر من مرة، رجل شاب أشفق عليها، كان يقول للحارس:
– هاي العجوز لازم تروح للمستشفى، صدرها تعب، عدها التهاب قوي.
لكن أحدًا لم يُعر الأمر اهتمامًا، حتى جاء يوم انقطع فيه صوتها وصارت لا تستطيع الوقوف على قدميها.
حينها فقط قرروا نقلها إلى المستشفى.
حملوها على نقالةٍ قديمة، وهي تهمس بصوتٍ بالكاد يُسمع:
– يا ربي، خلصني برحمتك، ما ظل بي حيل...
صعدت سيارة الإسعاف تئنّ بصوتها المعدني، وفي المقعد الخلفي جلس الطبيب يُمسك بيدها الشاحبة وقال لها محاولًا أن يبتسم:
– إن شاء الله توصلين بخير يمّه، بعد شوي نطب للمستشفى.
فتحت عينيها ببطء، ابتسمت ابتسامة خافتة وقالت:
– بعد شوي؟... لا، آني وصلت... وصلت يا أبني.
ثم أغمضت عينيها كمن استراح بعد مسيرة طويلة.
وحين توقفت السيارة أمام باب المستشفى، كانت أم محمود قد رحلت بصمت، رحيلًا يشبه السجادة التي تُسحب بهدوءٍ من تحت ضوءٍ خافت.
دُفنت قرب سور السجن، وعلى شاهدة قبرها كتبت إحدى السجينات بخطٍ مرتجف:
"هنا ترقد امرأة أُدينت لأنها حلمت."
ومنذ ذلك اليوم، صار الحراس يتهامسون كلما مرّوا بقبرها، ويقول أحدهم للآخر:
– رحم الله أم محمود... حتى بالحِلم، كانت طيبة القلب.
#نعمة_المهدي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟