أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - إسلام حافظ - السودان المنسيّ: وطن يُحترق بصمت، ويُذبح بالإهمال














المزيد.....

السودان المنسيّ: وطن يُحترق بصمت، ويُذبح بالإهمال


إسلام حافظ
كاتب وباحث مصري

(Eslam Hafez)


الحوار المتمدن-العدد: 8490 - 2025 / 10 / 9 - 09:33
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


في قلب القارة السمراء، حيث يختلط الغبار برائحة الدم، ويتهدّل الليل على المدن المحطّمة ككفنٍ ثقيل، يشتعل السودان بلهيب حربٍ لم تُبقِ ولم تذر. بلادٌ عتيقةٌ تنوء بأحمال التاريخ، وتمشي عرجاء بين خناجر السياسة ومطارق العسكر. السودان لا يعيش الحرب، بل تتغذى عليه… تأكله من أطرافه، ثم تنهش قلبه، حتى لم يبقَ فيه شيءٌ إلا الحطام والخذلان.

منذ اندلاع الصراع الأخير بين قوات الجيش وقوات الدعم السريع، تحوّلت البلاد إلى مسرح موتٍ مفتوح على مدار الساعة. لا هدنة تصمد، ولا اتفاق يُحترم، ولا صوت يعلو فوق دويّ الرصاص. الخرطوم، تلك التي كانت تحتضن النيلين وتتنفّس دفءَ أفريقيا، تحوّلت إلى مدينة أشباح. أسواقها نُهبت، وبيوتها رُدمت، ومستشفياتها صارت مقابر مؤقتة لجرحى لم تسعفهم يد، ولم تهتمّ بهم سلطة.

الناس هناك لا يعيشون، بل ينجون من يومٍ إلى آخر. النزوح لم يعد حالة طارئة، بل صار قاعدة يومية. من لم يُقتل في غارة جوية، فرّ من القصف إلى النزوح الداخلي، يحمل أطفاله على كتفه، وأمتعته في كيس بلاستيكي، وماضيه في صدرٍ يختنق. في قلب البلاد، داخل المدارس المهجورة، وتحت الأشجار اليابسة، وفي زوايا المساجد الخالية من الطمأنينة، يعيش مئات الآلاف من السودانيين… لا يملكون إلا الله وبعضهم.

أما اللاجئون، فقد عبروا الحدود الملتهبة، لا بحثًا عن حياة كريمة، بل هربًا من الموت السريع. في مصر، وجد السوداني نفسه غريبًا في أرض يُفترض أنها شقيقة، متهمًا بنظرة، محاصرًا بلون بشرته، مكبّلاً بقوانين لا تفهم المأساة ولا تعترف بها. في طابورٍ طويل أمام مفوضية اللاجئين، ينتظر رجلٌ خمسينيّ لساعات، وهو يضمّ أوراقًا رسمية لا تعني شيئًا، بينما ابنه يبيع المناديل في زحام القاهرة، وأمه تبكي حنينًا إلى دارٍ صارت ساحة معركة.

ثم تأتي الخيانة الكبرى: انسحاب العالم من المأساة. المنظمات الدولية تُقلّص مساعداتها، تحت ذريعة "ندرة الموارد"، وكأن السوداني لا يستحق الحياة إن لم يتصدّر شريط الأخبار. الحصص الغذائية تتناقص، الدواء مفقود، والدعم النفسي لا يُذكر. مرضى السرطان يذوون على أسرّة خشبية في مخيمات بلا سقف، والنساء تلدن في ظروف مهينة، والرضّع يُفطمون بالقهر لا بالحليب.

الإنسانية هنا خُذلت… لا بالرصاص، بل بالصمت. لا شيء أفدح من أن تموت بلا شهود. الإعلام العالمي مشغولٌ بما يليق بأهوائه، يلهث خلف صراعات أكثر "جاذبية"، ويترك السودان يغرق في دمائه دون حتى إشارة عابرة. الصحافة، التي كان يفترض أن تكون عيون البشرية، أغلقت جفونها عن هذا الجرح الأفريقي العميق، وتركت الشعب السوداني يصرخ داخل بئر من الإهمال.

وهنا، يتجلّى واجب الصحافة النزيهة: لا تلك التي تُنسّق مع وزارات الخارجية، بل التي تنبض في الميدان، وتكتب بمداد الوجع، وتنقل الحقيقة لا لمجرد السبق، بل لنصرة المظلوم. الصحفي الحقيقي لا يكتب من برجٍ عاجي، بل من بين خيام النازحين، ومن تحت أنقاض البيوت، ومن أعين الأمهات الثكالى. لا يروي الوقائع فحسب، بل يحوّلها إلى ضمير يقِظ.

إن ما يجري في السودان ليس مجرد صراع سياسي، بل هو اختبار قاسٍ للضمير الإنساني. كل نازح لم يجد خيمة، كل لاجئ أُهين بلون بشرته، كل طفل مات جوعًا، هو شاهد على تقاعسنا جميعًا. نحن، كصحفيين، لسنا مراقبين محايدين؛ نحن شهودٌ مُلزمون، وكل صمتٍ نختاره هو تواطؤ.

الكتابة عن السودان ليست رفاهية، ولا ترفًا فكريًا، بل فرضٌ أخلاقي. هي جسرٌ من الكلمات يربط العالم بألمٍ لا يراه، ونبشٌ في الركام للبحث عن بقايا كرامة بشرية. كل حرفٍ يُكتب، هو مقاومة للخذلان، وكل تقريرٍ يُنشر، هو إنقاذٌ لجزءٍ من الحقيقة من براثن النسيان.

فيا كل صاحب قلم، لا تخف من الحبر إذا كان دمًا، ولا تتراجع عن الحكاية إذا كانت موجعة. دع صوتك يعلو فوق صمت القتلة، ودع مقالك يكون ضوءًا في آخر النفق. ولتكن هذه السطور بداية عهدٍ جديد… عهدٍ لا يُترك فيه السودان وحيدًا في الجحيم. عهدٌ تُعاد فيه للصحافة رسالتها، لا كوسيلة إعلام، بل كصوتٍ للعدل، وعدسةٍ على الجرح، وضميرٍ لا ينام.



#إسلام_حافظ_عبد_السلام (هاشتاغ)       Eslam_Hafez#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- -ماسبيرو.. حين دهس الوطن أبناءه وسار فوق الحلم-
- -نصف المجتمع....كل المأساة-
- في مملكة الرمل… حيث يُدار الخراب بأيدٍ ناعمة
- -مصر... الجرح الذي أحببناه-
- -حين يصبح الإنسان خبراً عابراً-
- -ميزان الإنسان في عالم بلا ميزان-
- نزيف خلف القضبان
- الفاجومي: شاعر لم يركع وكلمة لا تموت
- من البشير إلى البرهان وحميدتي: حكاية وطن مختطف -4/10-
- من البشير إلى البرهان وحميدتي: حكاية وطن مختطف -3/10-
- من البشير إلى البرهان وحميدتي: حكاية وطن مختطف -2/10-
- -من البشير إلى البرهان وحميدتي: حكاية وطن مختطف -1/10-
- الإمارات والسودان: كيف ساهم المال والسلاح في تمزيق وطن؟
- البلشي صوت المقاومة في وجه دولة القمع
- ٦ ابريل من شرارة الغضب الي قلب الثورة
- العيد جانا والمعتقلين مش معانا
- مصر بين القمع السياسي والانهيار الاقتصادي: شعبٌ يدفع الثمن و ...
- معاوية مؤسس الاستبداد الأول في تاريخ الإسلام
- -رمضان في السجون المصرية: آلاف المعتقلين بين القهر والحرمان-
- مجزرة الدفاع الجوي: عشر سنوات على الجريمة والعدالة الغائبة


المزيد.....




- ردّ عليها بشيء من الطرافة.. والدة جاستن بيبر تصلّي من أجله
- إيران تُعلق على اتفاق وقف إطلاق النار في غزة وتوجه رسالة للم ...
- كأنها ليلة العيد في غزة.. فلسطينيون يحتفلون باتفاق وقف إطلاق ...
- عمر ياغي.. فلسطيني أردني سعودي أمريكي يحصل على جائزة نوبل في ...
- عمر ياغي.. ثاني عربي يفوز بجائزة نوبل للكيمياء
- تكريم شهيد ومصابي -لخويا- في قطر تقديرا لتضحياتهم عقب العدوا ...
- مواقع التواصل بين مشكك ومرحب بإعلان وقف إطلاق النار في غزة
- انتقاد وتحرك حكومي بعد تعنيف طلاب على يد مديرة مدرسة بسوريا ...
- ماذا يجري في اجتماع الكابينت بشأن اتفاق غزة؟
- ترامب: أنهينا حرب غزة وستنظم مراسم بمصر لتوقيع الاتفاق


المزيد.....

- شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان ... / غيفارا معو
- حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- جسد الطوائف / رانية مرجية
- الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025 / كمال الموسوي
- الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة / د. خالد زغريت
- المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد / علي عبد الواحد محمد
- شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية / علي الخطيب
- من الأرشيف الألماني -القتال في السودان – ينبغي أن يولي الأل ... / حامد فضل الله


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - إسلام حافظ - السودان المنسيّ: وطن يُحترق بصمت، ويُذبح بالإهمال