جاسم المعموري
الحوار المتمدن-العدد: 8488 - 2025 / 10 / 7 - 23:19
المحور:
الارهاب, الحرب والسلام
لم يكن السابع من ايلول 2023 حدثا عابرا او عاديا في تاريخ المنطقة والعالم, بل هو حدث غير الكثير من الحسابات وقلب الكثير من التوازنات, وهيأ الارضية لواقع جديد بكل قوة واقتدار, لذا فإن الكتابة عن غزة والسابع من ايلول سوف لن تتوقف لسنوات, وربما لعقود من الزمن, حيث تبدلت ملامح الشرق الاوسط وارتجت الارض تحت اقدام الجميع , وخرجت من غزة نار لم يكن لها قرار ,أشعلت الهجوم الصاعق الذي نفذته حماس, وكتائب القسام شرارة لا أحد كان يتخيل مداها, اجتياح مفاجئ هز اسرائيل من الداخل , وسقطت اسطورة الجيش الذي لا يُقهر, وفي لحظة واحدة تحولت غزة من مدينة محاصرة الى مركز زلزال سياسي وعسكري لا يمكن تجاهله او الهروب منه.. لكن الدعاية التي كانت تهلل انه نصر ,تحول إلى نكبة جديدة على اهل فلسطين والمنطقة بأسرها, فذلك اليوم لم يكن سوى مفتاح لأبواب من الجحيم فتحت على الشعب الفلسطيني المحاصر والمقهور , وعلى المنطقة كلها , ولربما كانت نوايا المقاتلين العاديين, وليس القادة في غزة تتجه نحو استعادة الكرامة والرد على سنوات الحصار والخنق واستمرار الجرائم ,لكن الحسابات العسكرية لا تصنع وحدها السياسة, ولا تكفي البنادق حين تعجز العقول عن رؤية المآلات والنتائج..
غير ان ما جرى لم يكن عملية مقاومة ولا عملا مشروعا في سياق النضال الفلسطيني, بل كان جريمة مكتملة الأركان دفع ثمنها شعب غزة ودول المقاومة ,وما بعدها لم يكن إلا كشفا فاضحاً لمخطط شاركت فيه حماس ونتنياهو جنباً إلى جنب , ربما دون لقاء في الغرف المغلقة ولا اتصالات مباشرة, بل تواطؤ من نوع آخر.. تناغم مصالح ..وتبادل خدمات بأدوات الموت..
قبل السابع من ايلول كانت إسرائيل تعيش في واحدة من أسوأ لحظاتها السياسية مظاهرات مليونية لا تنتهي ,تحدث لأول مرة بهذا الحجم في اسرائيل وبهذا الزخم والاستمرارية .. انقسامات داخلية تهدد كيان الدولة ..نتنياهو في مأزق قضائي وشعبي بلا مخرج ..وكانت حماس في المقابل تعاني من عزلة إقليمية, وفقدان للشرعية وخنق مالي وانهيار لمشروعها السياسي, وكل ما كان مطلوباً هو شرارة لتعيد ترتيب الأوراق فجاءت العملية..
من المستفيد الأول مما جرى غير نتنياهو الذي أعاد ترتيب البيت الإسرائيلي تحت راية الحرب؟ لا أحد في تل أبيب يتحدث بعد السابع من ايلول عن فساده, ولا عن محاكمته , ولا عن انقلابه على القضاء, كلهم اليوم خلف الجيش وخلف الحكومة وخلف الشعار الأكبر وهو البقاء كما يزعمون ,وعلى الجبهة الأخرى قدمت له حماس الهدية التي لا تُرفض ,فاستغلها حتى آخر قطرة دم في غزة, ودماء ابناء محور المقاومة في المنطقة كلها..
مجزرة تلو أخرى.. قتل بالجملة.. تهجير.. إبادة.. إعلام عالمي يتضامن مع الضحية المزعومة, بينما الطفل الفلسطيني يُنتشل من تحت الركام بصمت, هذا كله لم يكن ليحدث لولا أن هناك من اختار إشعال الحرب, وهو يعرف تماماً ان الثمن سيكون راس الشعب لا رأس الاحتلال..
ما جرى ليس سوء تقدير, بل خيانة مكشوفة, عنوانها توظيف الدم الفلسطيني لإنقاذ سلطة فاسدة في إسرائيل, وسلطة فاشلة في غزة , وما سُمي نصرا تحول إلى غطاء للنكبة الجديدة , وإذا كان هناك من لا يزال يبرر لحماس فعلتها, فعليه ان يبرر ايضا كيف تحول قادة حماس إلى متفرجين على مشهد الإبادة ,كيف بقوا في الخارج يطلقون التصريحات بينما أُحرقت المخيمات على رؤوس الأبرياء..
لا يمكن بعد اليوم ان نقبل الرواية الرسمية.. لا يمكن تبرير المذبحة باسم المقاومة.. ولا يمكن إقناع أحد ان من اشعل الحرب لا يعلم حجم الرد الإسرائيلي, لا أحد يملك هذا القدر من السذاجة إلا إذا كان شريكا في الجريمة.. شريكا في تدمير آخر لما تبقى من صورة القضية الفلسطينية.. شريكا في اعادة نتنياهو من حفرة السقوط إلى منصة البطل القومي..تقول واشنطن بوست بمناسبة دخول الحرب عامها الثالث "أراد زعيم حماس، يحيى السنوار، إشعال حرب إقليمية أوسع وإعادة تشكيل الشرق الأوسط. بحلول الوقت الذي قُتل فيه على يد القوات الإسرائيلية بعد عام (من الهجمات)، كان من الواضح أنه حقق هدفه، ولكن ليس بالطريقة التي كان يأملها. لقد برزت إسرائيل منتصرة وقوة عسكرية مهيمنة في المنطقة".
ما حدث كان فخاً نُصب بإتقان سقط فيه الابرياء وحدهم, وتم تسويقه في الإعلام كملحمة, بينما هو في الحقيقة اتفاق غير مكتوب على تصفية الوعي الفلسطيني, وتحويل المقاومة إلى عبء, وتحويل القضية إلى قضية إنسانية, وليس سياسيية , وإغراق غزة بالدم حتى لا يبقى فيها شيء يستحق الدفاع عنه او البكاء عليه..واذا كان قادة حماس او الفصائل الاخرى يرمي بعضهم الكرة في ملعب الاخر تملصا من المسؤولية, ويقول ان الجناح العسكري للفصيل الفلاني هو الذي فجر الحرب دون علمنا , فهذا يعني انهم عبارة عن عصابة جريمة وليس مقاومة تتحمل مسؤولية ما تفعل ..
ومنذ تلك اللحظة امتلأت غزة بالموت, انهمرت عليها القنابل وأُبيدت احياء بأكملها , واجتُثّ البشر والحجر من جذورهما ,لم تبق مدرسة ولا مستشفى ولا شارع الا وشهد نارا وانفجاراً ودما والكل يتفرج, الجميع اصابه الذهول والخوف واكتشفوا فجأة ان كل شعارات التضامن لا تحمي طفلا من صاروخ ولا تبني جدارا يحمي الأم من الموت حين ينهار البيت فوق رأسها..
وبينما كانت غزة تحترق, خرج نتنياهو من أزماته الداخلية كالعنقاء من الرماد, قبل السابع من ايلول كان يواجه أشد أزمة سياسية في تاريخه.. مظاهرات مليونية في الشوارع ..انقسامات داخل الجيش ..محاكم تنتظره وخصوم يتحينون اللحظة المناسبة لإسقاطه, لكنه وجد في هجوم حماس طوق نجاة.. معجزة.. التفّت حوله الاحزاب العسكرية والدينية.. العلمانيون واليمينيون.. كلهم صاروا صوتا واحدا خلف الحرب.. لم تعد الخلافات مهمة حين اخذ الاعلام يروج لمسأة الوجود نفسه.. واستعادة الردع وكرامة الدولة..
وبينما كانت الأنظار تتجه إلى غزة كانت الضربات تتوالى على الضاحية في بيروت, وعلى مطارات دمشق, وعلى الجنوب اللبناني , اشتعلت الجبهات واحدة تلو الأخرى ,وانفتح الباب واسعا أمام حرب اقليمية جرت معها إيران وحزب الله وسوريا وحتى اليمن, وباتت المنطقة كلها على صفيح مشتعل , وليس أحد قادرا على التراجع , ولا على التقدم الكل أسير لهذا اليوم المشؤوم الذي ظنه البعض نصرا, فإذا به لحظة الانهيار الكبرى..
الناس في الشوارع العربية التي كانت تخرج دعماً لفلسطين باتت حائرة لا تفهم كيف تحولت القضية من نضال إلى مذبحة, ومن مقاومة إلى اجتياح شامل لكل معنى للإنسانية, تآكلت الصورة في الوجدان الشعبي وانهارت الثقة بالمشروع السياسي الذي تقوده حماس, وربما كانت النوايا مخلصة ولكن الطرق المضللة قد تؤدي إلى الهاوية حتى وإن كانت البداية من حلم صحيح..
لكن المفارقة الكبرى ظهرت حين بدأ الرأي العام العالمي يتغير لصالح الفلسطينيين ليس بسبب الرغبة في دعم حماس, وانما بسبب وحشية الجرائم الاسرائيلية ضد المدنيين في غزة,خرج الناس في العواصم الغربية محتجين ضد إسرائيل, الجامعات الغربية اشتعلت بالاحتجاجات, والشركات بدأت تواجه ضغوطا والهيئات الدولية شعرت بحجم الجريمة, فإذا بحماس تفعل ما لم يكن متوقعا, وافقت فوراً ومن دون شروط على وقف الحرب, وكأنها تستبق موجة التأييد العالمية, وكأنها تخشى أن يتحول هذا الزخم الشعبي العالمي إلى ضغط حقيقي على إسرائيل, فاختارت أن توقف النار لتمنح نتنياهو هدية أخرى هذه المرة, هدية الخلاص من غضب العالم.. وهكذا بدلاً من تحويل هذا الزخم العالمي إلى ورقة ضغط استراتيجية, استخدمته حماس كورقة انسحاب عاجل من الميدان, وكأن المهمة قد أنجزت , وكأن الدم المسفوك كان مجرد مرحلة مؤقتة في خطة أكبر لم يعد من الممكن تجاهل ملامحها!
وهكذا تبقى ذكرى السابع من ايلول درسا قاسياً في التاريخ الحديث للشرق الاوسط.. درسا في الحسابات الخاطئة, أو المؤامرات التي خُطط لها بدم بارد ودمار شامل, درسا في كيف يمكن لحركة كانت تدعي المقاومة أن تُسقط نفسها وتُسقط محيطها في اللحظة التي ظنت فيها أنها يمكن ان تثق بوعود نتنياهو التي قطعها لها كي تنخرط بعملية السابع من ايلول, بينما كانت تسير بأقدام ثابتة نحو الفخ وتجر خلفها القضية بأكملها إلى الجحيم..
جاسم محمد علي المعموري
7 -10- 2025
#جاسم_محمد_علي_المعموري (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟