جاسم المعموري
الحوار المتمدن-العدد: 8464 - 2025 / 9 / 13 - 11:08
المحور:
الارهاب, الحرب والسلام
يقف العالم اليوم بأسره ممثلا في الامم المتحدة ليعلن بالاجماع تأييده الكامل لقيام دولة فلسطينية مستقلة, ثم يخرج علينا من يتبجح بلسان وقح ليقول إن هذا الاعتراف مكافأة للإرهاب, فأي إرهاب أعظم من سرقة الارض وسلب الإنسان وتجويع الاطفال وتحويل البيوت الى ركام وتحويل الاشجار إلى هباء؟ أي ارهاب اعظم من ان يقف المحتل الغاصب متكئا على آلة قتل مصنوعة في مصانع الغرب, ثم يزعم ان الضحية هي الارهابي وان المعتدى عليه هو الجلاد؟ ان هذا منطق مقلوب تافه يشبه تماما من يقلب المرآة لتنعكس صورة القاتل كأنه بريء, وصورة الشهيد كأنه مجرم, والذين يرددون هذه الترهات يعرفون في اعماق قلوبهم أنهم لا يصرحون بها إلا لأنهم أسرى مصالحهم واهوائهم, لأنهم ارتضوا ان يعيشوا في قوقعة الاكاذيب, حتى صاروا عبيدا للزيف, ومن يتشدق بالحديث عن مكافأة الارهاب عليه ان يشرح للعالم كيف سلم العرب باسره وعلى راسه امريكا افغانستان على طبق من ذهب لحركات التطرف والارهاب, بعد أن امطرها بسنوات طويلة من القصف والدمار, وبعد أن حولها الى مختبر دموي للحروب بالوكالة ثم انسحب كما ينسحب اللص من دار بعد أن نهبها وأشعل فيها النار تاركااهلها يتخبطون بين رماد وركام, فأي ارهاب اكبر من هذا؟ ومن يتحدث عن سوريا عليه ان يتذكر أن سوريا لم تُقدّم للإرهاب على طبق من ذهب فحسب, بل على اطباق كاملة من النار والدم والخذلان والصفقات الدولية المظلمةو حيث اجتمع الكبار على تمزيقها كما تمزق الوحوش الفريسة في غابة متعطشة للدماء, ثم خرجوا يتظاهرون بالحزن على شعبها كذئاب ترتدي جلود الحملان وهم يعلمون أنهم هم من ذبح الحمل بأيديهم, ثم عادوا وقدموها للارهابيين على طبق من ذهب مرصع بالجواهر..
وهنا يظهر جوهر الازدواجية الفاضحة والمستمرة منذ عقود طويلة التي صارت علامة مسجلة لسياسات القوى الكبرى, إذ كيف يقال إن الاعتراف بفلسطين مكافأة للإرهاب بينما كان الاعتراف بكيان الاحتلال الذي ولدمن رحم المجازر والاقتلاع والقتل والارهاب والتجويع والابادة الجماعية أمرا طبيعيا في نظرهم؟ كيف يكون منح الضحية بعضا من حقها التاريخي إرهابا بينما كان منح السارق حقا مطلقا في القتل والدوس على القوانين شريعة مقدسة؟ هذه ازدواجية معايير لا تليق حتى بعالم بدائي, لأن ابسط حس انساني يدرك ان العدل لا يقاس بمعايير مزدوجة, بل بمعيار واحد ثابت وإلا صار العالم غابة والإنسان وحشا والحديث عن الاخلاق مجرد نكتة سخيفة يضحك بها الأقوياء على الضعفاء.
إننا نعيش في زمن لم تعد فيه الكلمات تحمل معانيها الحقيقية لأن كلمة إرهاب صارت مطاطية يشدها القوي حيث يشاء, فإن قاوم شعب محتل صار إرهابيا, وإن قصف جيش متفوق بمدنيين عزل قيل إنها دفاع عن النفس, وإن طالب طفل بحفه في الحرية قيل إنه متطرف وإن دهس المحتل بدبابته حقول الزيتون قيل إنه يحمي أمنه القومي, حتى صار العالم مسرحية عبثية تراجيدية ولا يمكن ان نصدق انها غير ذلك, ومهما حاول الساسة تبريرها فإن الشعوب ترى الحقيقة بعينها وإن صمتت احيانا فإن صمتها ليس قبولا بل مرارة عجز, وحين يقال إن الاعتراف بفلسطين هو مكافأة للإرهاب فإن ذلك يكشف أن العقل السياسي الذي ينطق بهذا القول عقل مأزوم متعفن لم يتعلم شيئاً من التاريخ ولم يفهم أن العدالة حين تُمنع طويلا تتحول إلى بركان لا يرحم, وان إنكار حق الشعوب في تقرير مصيرها هو وقود دائم للحروب وأنه لا يمكن إطفاء نار الحق بالبيانات, ولا بإعادة تعريف المفاهيم على مقياس المصالح, ومصطلح المصالح هذا هو العن ما جائت به السياسة على الانسانية, لأن مصالحك يجب ان تكون هي مصالحي ومصالحي مصالحك, ولكن القران يؤكد ان الانسان تابع للشيطان الا من اتقى, (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ ( وضعوا علامات على اذان البقر والابل والغنم تاكيدا على الملكية الخاصة, يعني المصالح) وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ( وهام اليوم يحاولون تغيير خلق الله بإسم التقدم العلمي )وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا) النساء 119
يا هؤلاء الذين يوزعون صكوك البراءة والإدانة بحسب أهوائهم أنتم من صنعتم الإرهاب بأيديكم.. أنتم من غذّيتم ناره حين استبحتم أفغانستان, ثم فررتم تاركين الأرض خرابا.. أنتم من اشعلتم سوريا وادرتم ظهوركم لشعبها.. أنتم من تركتم العراق يتفتت بين الطوائف والجراح.. أنتم من غضضتم الطرف عن جراح اليمن.. أنتم من صنعتم كل هذا الخراب, ثم جئتم تتهمون الفلسطيني إذا طالب بحقه.. أنتم الذين صنعتم الإرهاب ثم أردتم أن تجعلوا من الضحية عنوانا له...
أن الحق لا يتجزأ وأن العدالة لا تقاس بميزانين, فمن يتحدث عن القيم عليه أن يلتزم بها جميعالا أن يضعها في جيبه ساعة المصلحة ويلقيها ارضا ساعة التضحية, ومن يرفع شعارات الحرية عليه أن يمنحها للآخر لا أن يحتكرها لنفسه, ومن يتحدث عن الشرعية الدولية عليه أن يحترمها حين تكون ضد حليفه كما يحترمها حين تكون ضد خصمه, اما ان تجعلوا الشرعية سيفا مسلطا على رقاب الضعفاء وغلافا واقيا لافعال الاقوياء فذلك هو عين النفاق وهو عين الجريمة وهو ما يجعل العالم اليوم على حافة هاوية اخلاقية سحيقة..
لقد تعب البشر من هذه الازدواجية حتى صارت رائحتها تزكم الأنوف, إنكم تكافئون الإرهاب كل يوم, حين تغضون الطرف عن احتلال طويل الامد.. حين تبررون قتل المدنيين.. حين تعقدون الصفقات مع الجلادين.. حين تعزلون المظلوم عن منابر العدالة.. حين تقدمون الدمار بديلا عن الحلول السياسية.. فماذا بقي من قواميس القيم إذا كان الظلم عدلا والحق إرهابا, والحقيقة أكذوبة؟ ومن يتشدق بالحديث عن مكافأة الإرهاب عليه أن يجيب ضميره اولا, إن كان يملك ضميرا, لأن الضمير الإنساني لا يمكن أن يساوي بين الضحية والجلاد, ولا يمكن أن يرى الطفل المذبوح مجرما والجندي الذي أطلق النار بطلاً.. ان عالمنا اليوم يصرخ من الظلم والجور والعدوان, وكل هذا سيؤدي في النهاية الى الندم الشديد وعض الاصابع حتى تدمى, وسترون ونرى ساعة لا ينفع الندم...
ان قادة هذا العالم إذا أرادوا حقا أن يحاربوا الإرهاب فليبدأوا أولا باقتلاع جذوره الحقيقية من ظلم واستعمار واحتلال وتجويع وإقصاء, وإذا أرادوا حقا أن يحاربوا الارهاب فليعطوا كل شعب حقه في تقرير مصيره وليفتحوا باب العدالة للجميع لا أن يغلقوه بوجه أمة ويفتحوه بوجه أخرى, واذا ارادوا حقا أن يحاربوا الارهاب فليعترفوا أن الشعب الفلسطيني ليس هو المجرم, بل هو الضحية الأولى في هذا العصر, وأن الاعتراف بدولته ليس منة ولا مكافأة, بل هو أقل القليل من دين متراكم في رقاب العالم أجمع, وإن رفض البعض ذلك فلن يغير من الحقيقة شيئا لأن الشمس لا تُغطى بغربال, والحق لا يُطمس بتراكم الأكاذيب والدم لا يصير ماء مهما حاولوا أن يخفوه تحت ركام الإعلام..
إنني أكتب هذا الكلام وأنا مدرك أن الكلمات وحدها لا تكفي, لكن الكلمات شهادة للتاريخ.. شهادة بأننا لم نقبل أن يتحول العالم إلى غابة نفاق كبرى.. شهادة بأننا نرفض ان يقال للحرية إنها ارهاب, وللارهاب إنه حرية.. شهادة بأننا نرى في هذه الازدواجية اكبر خيانة للانسانية.. واننا لن نصمت على هذا التلاعب الذي يجعل الحقائق معكوسة والاخلاق ممسوخة, وما اعتراف العالم بدولة فلسطين اليوم إلا تصحيح متأخر جدا لمسار طويل من التواطؤ, ولكن أن يأتي متأخرا خير من ان لا يأتي أبدا, اما الذين يصرخون اليوم بأنها مكافأة للإرهاب فهم في الحقيقة مكشوفون, لأنهم يفصحون أنفسهم امام العالم بأنهم لم يكونوا يوما ضد الارهاب بل كانوا ضد العدالة وضد الحرية وضد الحق.
جاسم محمد علي المعموري
#جاسم_محمد_علي_المعموري (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟