أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - جاسم المعموري - النجف الاشرف نافذة المبدعين على الغيب والروح والمعنى















المزيد.....

النجف الاشرف نافذة المبدعين على الغيب والروح والمعنى


جاسم المعموري

الحوار المتمدن-العدد: 8453 - 2025 / 9 / 2 - 07:55
المحور: قضايا ثقافية
    


في عام 2019، زرت النجف الأشرف واقمت فيها، وكان المقام طويلًا امتدّ لما يقارب السنة، لكنها كانت سنة ليست ككل السنين، كأنها نافذة مفتوحة على زمن آخر، زمن لا يُقاس بالأيام، بل بما يُكشف فيه من نور، وما يتجلى فيه من صفاء. هناك، شعرت أنني أعيش في حضرة ما فوق الأرض، ما فوق الزمان، ما فوق شواغل الحياة. لم تكن زيارتي الى النجف مجرد إقامة في مدينة مقدسة، بل كان انغماسًا روحيا، دخولًا إلى صمت كثيف، صمت لم يكن خاليًا من الصوت، بل مليئًا بالحضور. كل لحظة هناك كانت تعني شيئًا، كل نَفَسٍ كان محاطا بمعنى، وكل يوم كنت أخرج فيه إلى زيارة أمير المؤمنين عليه السلام أو من سواه من أولياء الله، كنت أعود وكأنني خرجت من ذاتي إلى ذاتي، متخففًا من ثقل الداخل، حاملا فكرة، أو مطلع قصيدة، أو نواة بحث، أو روح معنى جديد.
لا أُبالغ حين أقول إنني هناك كتبت أجمل ما كتبت، لا من حيث الكثرة وحدها، بل من حيث النقاء، العمق، الصفاء.. وكأن يدي كانت تُمسك بالقلم، لكن الفكرة لم تكن مني، بل من مكانٍ آخر، من مقامٍ أعلى. لا أعلم كيف كنت أكتب، لكنني أعلم أنني حين أعود من زيارة علي عليه السلام، أو أقف على أعتاب قبة الحسين، أو أمرّ بخشوعٍ أمام ضريح العباس، أو ابكي في ضريح مسلم بن عقيل عليهم السلام جميعا, كنت أشعر أن الكلمات تسبقني إلى الورقة، كأنني مجرد قناة تمرّ عبرها المعاني دون أن أدّعي ملكيتها. هناك في تلك البقاع، كنت لا أكتب نصًا، بل أفتح بابًا، وكان الباب لا يُفتح إلا في حضرة الطهر. كانت الكتابة أشبه بالوضوء، أشبه بالصلاة، أشبه بانسكاب النور على الورق. ولم ابالغ حين كتبت في (صفحة الكاتب) في الحوار المتمدن : "الكتابة عطاء فذ كريم حسن دون مقابل, وهي من اسمى وسائل الفكر, بل هي نتاجه الأعظم, واذا كان العمل عبادة, فالكتابة ارقى اشكاله". ومازلت أحتفظ بالعشرات من مسودات النصوص التي كتبتها هناك, ولم تُنشر بعد لحاجتها الى المراجعة, وهذا المقال منها, سأرسله للنشر بعد أن أهذبهُ وأصقله فإن أعجبني إجتبيتُهُ وأرسلته.
كنت أتساءل دومًا: ما سرّ هذا الصفاء؟ لماذا لا أشعر بمثله في أماكن أخرى؟ لماذا حين أخرج من هذه الزيارات، أخرج وكأنني التقيت بنفسي من جديد؟ ما الذي يجعل من النجف، وكربلاء، والكاظمية، وسامراء، بقاعًا تتكثف فيها الروح وتصفو الفكرة ويتطهر الحرف؟ ما الذي يجعل من زيارةٍ قصيرة سببًا لانبثاق نصٍّ طويل عميق، وكأن حضور هؤلاء الطاهرين من آل محمد صلوات الله عليهم لا يزال نافذًا، لا يزال حيًّا، لا يزال يمنح ويكشف ويُلهم؟ لم أجد جوابًا قاطعًا، لكنني كلما فكرت في الأمر، أدركت أن حضورهم ليس رمزيًا، بل وجودي، حيّ، فعّال. مراقدهم ليست مقامات حجرية، بل محطات كشف، محطات صفاء، يلتقي فيها الإنسان بحقيقته عبر وساطة النور.
حين كنت أكتب هناك، كنت أشعر أنني لا أمارس فعل الكتابة كما يُمارسه الكتّاب في حياتهم اليومية، ولا أدعي إنّني كاتب, بل كنت أتعبد، كنت أتنفس بالحرف، وأتهجد بالعبارة، وأخضع لفكرة لا أسيطر عليها، لكنها تقودني الى دهشة الإبداع ولذة الاكتشاف. لم يكن الأمر مرتبطًا فقط بإلهام أدبي، بل كان تجربةً روحية كاملة، حيث تختلط المعرفة بالخشوع، والفكر بالدموع، والعقل بالذوق، وكأن كل حواسي قد أعادت ترتيب أولوياتها، وصار النص هو الطريقة الوحيدة لأن أقول ما لم استطع قوله من قبل, وكان أجمل ما في هذه الكتابات أنها لا تشبهني تمامًا، بل تشبه مقامي هناك، تشبه القبة، والبوح، والصلاة، والانكسار الجميل أمام العظمة.
إنني حين أقارن ما كتبته في النجف وما كتبته في سواها، لا أحتاج إلى نقد أدبي كي أميز الفرق، فالنص هناك كان نابعًا من صفاء عميق، من حضور متكامل، من انسجامٍ بيني وبين المعنى، بينما النصوص الأخرى، في أمكنة أخرى، كثيرًا ما كانت تُكتب بعقلٍ مرهق، أو قلبٍ مزدحم، أو إحساسٍ مكسور. أما هناك، فكنت أشبه بورقةٍ بيضاء تتساقط عليها نُدف الضوء، فتتشكل فيها الجمل بلا جهد، وكأن الحبر نفسه كان يتطهّر قبل أن يمس الورق. هل كانت تلك الكتابات وحيًا؟ لا. لكنها كانت قريبة من الوحي، لأنها لم تكن مُفتعلة، ولم تكن استعراضًا لغويًا، بل كانت لحظة صدقٍ لا تتكرر.
هناك، كنت أعيش الكتابة لا أمارسها. كنت أتنفس نصوصي كما يتنفس الغيم نداء المطر. وفي كل زيارة، كنت أعود بشيءٍ جديد، حتى إنني بدأت أستعدّ للزيارة كما يستعدّ الفلاح لموسم الحصاد، أعلم أنني سأعود منها ممتلئا، محمّلا، منتشيا بفكرة أو معنى. ولذا، صارت الزيارة عندي طقسًا عقليا، لا روحيا فقط، ووجدت نفسي أُقدّس القرب منهم لا فقط طمعا في الثواب، بل شكرًا على هذا الفيض الفكري الذي كنت لا أملكه في نفسي. فهم، كما كنت أقول لنفسي، ملاذ العقل كما هم ملاذ الروح، ملاذ الحرف كما هم ملاذ القلب. وكان يكفيني أن أضع جبيني على عتبة ضريح، حتى تفتح لي أبواب لا تُفتح إلا بالقلب، لا تُفتح إلا لمن جاء خاليًا من الأنا.
اليوم، حين أنظر إلى ما كتبته هناك، أشعر أنني كنت في مدرسةٍ لا يُدرِّس فيها أحد، لكنك تتعلم من كل شيء, من السكون، من العيون الدامعة، من الزائرين، من الجدران، من نداء "يا علي" الذي يعلو من قلب امرأة عجوز أو شاب تائه. كلهم كانوا معلميّ. والمكان كان الدرس. والضريح كان الكتاب المفتوح الذي تقرؤه بلا ترجمة. هناك تعلمت أن المعنى أوسع من العبارة، وأن النصّ الحقيقي هو ذاك الذي يولد من دهشة الانكشاف، لا من براعة الصنعة, لهذا، أؤمن أن أجمل ما كتبته لم يكن منّي، بل كان فيّ، فأيقظه القرب من الأحبة, وأن المقام كان هو الكاتب الحقيقي، وأنا كنت مجرد وعاء ووسيلة.
لذلك، كلما ابتعدتُ عنهم، أشعر أن اللغة تبهت، وأن المعنى يذبل، وأن الصفاء يتراجع. لا لأنهم يبعدون، بل لأنني أبتعد. وما أكتبه اليوم في أمكنة أخرى قد يحمل ذات الأسلوب، لكنه لا يحمل ذات الروح. الروح بقيت هناك، معلّقة في فسيفساء القبة، في هواء الصحن، في ظلّ الزائرين. وكلما عدت، تعود الروح إليّ، تعود الكتابة كما أحبّها, لا جهدًا، بل تدفقًا. لا صناعة، بل كشفًا. لا مجرد كلمات، بل آثار أقدام الروح في طريق الرجوع إلى الله.
جاسم محمد علي المعموري
29-11-2019



#جاسم_محمد_علي_المعموري (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حرق القران من بوابات السياسة ودهاليز المخابرات
- استراليا تطرد سفير ايران .. من المستفيد؟!
- مجنون يتنبأُ بالغضب العارم!
- غزة المجوعة بين صرخات الجياع ومسرحيات مجلس الامن!
- جرائم الحرب في غزة ومسؤولية المحتلين
- رسالة هامة الى حكومة لبنان والمقاومة .. السلاح كوسيلة للمقاو ...
- وجهان لواقع واحد .. بوتن وترامب في عالم مضطرب.. رؤية شاملة
- بين الأمل في السلام ومخاطر التصعيد النووي .. ترامب وبوتين يل ...
- نداء عاجل للتحرك الدولي الفوري.. قتل الصحفيين جريمة كبرى
- ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) تسبيح الملائكة
- مفاهيم قوى التحرر في العالم ونظرتها الى الحرية
- ضرورة صناعة طبقة وسطى من حيث الدخل في العراق
- بطاقة سكن في جهنم
- اللقب ومعضلة وزير الداخلية
- قبلَ أن ينشقّ القمر
- سوء الادارة في المؤسسات الحوزوية
- ال سعود والانقلاب العسكري التركي الفاشل
- ياداعشي أين المفرْ
- من مذكراتي عن اهل الفلوجة الكرام .. *
- ستورقُ في الرمال لنا نمورُ


المزيد.....




- أماندا سيفريد تطلب استعارة إطلالة جوليا روبرتس في البندقية.. ...
- 12 قتيلا في الأقل بغارة جوية على عيادة في إقليم دارفور
- إندونيسيا تشدد الإجراءات الأمنية بعد احتجاجات دامية
- تظاهرات جديدة في بريطانيا أمام فنادق تؤوي طالبي لجوء
- رئيسة المفوضية الأوروبية تنجو من كارثة جوية واتهامات لروسيا ...
- -الدعم السريع- تخوض معركة فاصلة في مدينة الفاشر السودانية
- الاحتجاجات تتواصل في إندونيسيا والرئيس يدعو إلى مزيد من الحز ...
- فنزويلا تتهم غويانا بالسعي إلى فتح -جبهة حرب-
- إدانة مغربي في ألمانيا بتهمة التجسس على مؤيدي -حراك الريف-
- بلجيكا ستعترف بدولة فلسطين في إطار المبادرة المشتركة للسعودي ...


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - جاسم المعموري - النجف الاشرف نافذة المبدعين على الغيب والروح والمعنى