جاسم المعموري
الحوار المتمدن-العدد: 8461 - 2025 / 9 / 10 - 02:33
المحور:
الارهاب, الحرب والسلام
حين يقع الحدث الجلل وحين تضيق الارض بما رحبت من الخطر الداهم والعدوان الصارخ, وحين تنكسر قواعد السياسة وتتهاوى اعمدة الاخلاق, فلا نسمع الا الصمت الرهيب المريب, ولا نرى إلا وجوها تختبئ خلف التصريحات الجوفاء, فإن صمت القادة العرب في مثل هذه اللحظات لم يعد مجرد تحفظ, بل صار جريمة في ذاته, ألم يكف هذا الصمت القاتل الذي يساوي بين الضحية والجلاد؟ ألم يحن الوقت لقول كلمة لا؟ لم يعد في التاريخ السياسي ما يشبه هذا الهوان امام الغدروالعدوان ولا في الوقوف المتفرج أمام المأساة الكبرى التي تمزقنا قطعة قطعة, وبلدا بلدا, وعاصمة عاصمة ..
بالأمس فقط حين وافقت حركة حماس على خطة ترامب كاملة, واستجابت لكل شروط إسرائيل, وحين مدت يدها لما قد يراه البعض خضوعا, بينما هو في حقيقته أعلى درجات التنازل من أجل تجنيب شعبها المزيد من الدماء, كان الرد الإسرئيلي واضحا صارخا دمويا عدوانيا بقصف قادة الحركة في قلب العاصمة القطرية الدوحةبينما كانوا يناقشون المبادرة ذاتها.. فأي استخفاف هذا بالشرعية الدولية, وأي وفاحة سياسية هذه وأي رسالة ترسلها إسرائيل إلى العالم بأنها لا تحترم تعهدا ولا تبقي على عهد ولا تقيم وزنا لأي يد ممدودة للسلام .. ولست – هنا - بصدد الدفاع عن حماس او الفصائل الاخرى فلقد ارتكبوا حماقة كبرى, ولست بصدد التفصيل فيها الان , بل سيجيء وقتها حين تضع الحرب اوزارها, فمن العيب العتاب على اخ يقاتل لأنه اخطا التقدير, وانما العتاب - ربما - يكون بعد انتهاء القتال, والعتاب على المسؤول مسؤولية, ومعنى المسؤول انه يُسأل.. ( وقفوهم انهم مسؤولون) الصافات 24 .
هذا الانتهاك الاسرائلي لا يمكن السكوت عنه, ومع ذلك صمت الجميع.. لا تصريح من قادة الصف الأول.. لا ظهور ولا مواجهة.. لا شجب حقيقي ولا خطوات فعلية, ولا حتى كلمة غضب صادقة, وكأن الدم الفلسطيني لا يستحق إلا بيان وزارة خارجية مقتضب لا يتجاوز السطرين دون تفاصيل ودون روح.. دون رجولة ودون شجاعةوكأن الموت هناك أصبح اعتياديا لا يحرك في الضمير العربي ساكنا, ألم يعد هناك من يملك الجرأة ليقول كفى؟ ألم يبق من يمكنه أن ينظر في عين الحقيقة ويصرخ في وجهالطغيان؟ ألم يعد في القاموس السياسي العربي كلمة رد فعل؟! لماذا كل هذا الخوف؟ لماذا الارتباك المريب في المواقف؟ لماذا كل هذه المجاملات السياسية الرخيصة التي تباع بها الكرامة بثمن بخس؟ لماذا ننتظر العالم ليتكلم باسمنا بينما نحن أولى بأن نكون الصوت والصدى والأثر؟ هل ماتت فكرة السيادة؟ هل تآكل معنى القرار المستقل؟ هل صارت العواصم العربية مجرد صدى لتوجيهات القوى الكبرى التي تصوغ لنا كلماتنا, وتحدد لنا سقف غضبنا ووقت صمتنا, وكأننا قطيع بلا راع, وكأن ما يحدث في غزة أو في الدوحة أو في القدس لا يعنينا ولا يصل حر نيرانه إلى عتبات بيوتنا؟.. لماذا لا تقاطع دول التطبيع ما طبّعت, لماذا لا يطرد سفراء العدو؟ لماذا.. لماذا.. لماذا؟ أين مجلس التعاون الخليجي الذي طالما افتخر بوحدته وتماسكه؟ أما كان من المفترض أن يكون القصف على عاصمة خليجية سببا كافيا لاجتماع طارئ فوري حاسم؟ أما كان العدوان على أرض قطرية يجب أن يفسر كعدوان على كل الخليج كما تتص مبادئ المجلس؟ أما كان الدم الذي سفك هناك جديرا بأن يوقظ روح العروبة النائمة في بطون البيانات الرسمية الجافة؟ لماذا خرس الجميع؟ لماذا اكتفوا بالتصريحات المتلفزة من وراء المكاتب الفارهة دون أن ينزلوا إلى الشارع, دون أن يواجهوا الشعوب, دون أن يتحدثوا للناس بلغة يفهمها الجرح العربي المتقيح منذ عقود؟ اسألة لا تنتهي وعلامات استفهام كبرى ستحرك الشارع العربي يوما, وتقلب الامور راسا على عقب .. وما زالت الاسالة كمطر الغضب تنزل على رؤوس الحكام الخائفين.. أي مبرر يبقى لهذا الانبطاح المريب أمام إسرائيل؟ أي تفسير مقبول لهذا القبول الضمني بكل هذا التجاوز الصارخ لكل الأعراف والقوانين؟ حتى الغدر في عرف الحروب له قواعد وله خطوط حمراء, أما إسرائيل فقد مزقت الورق كله وأضرمت النار في كل خط أحمر, وسارت متبجحة في خرقها للمقدسات السياسية والأخلاقية والإنسانية, ومع ذلك العالم يصفق, وبعضنا يبرر, وبعضنا الآخر لا يملك إلا صمتا يقطر منه العجز كالماء المالح الذي لا يروي الظمأ ولا يغسل العار.
لسنا بحاجة إلى بيانات مكتوبة بعناية, نحن بحاجة إلى وجوه صادقةتخرج للشعب لتقول ماذا يحدث وإلى أين نمضي, ونحن بحاجة إلى من يملك شجاعة التوقف عن الخوف من الخارج والخوف من الداخل والخوف من كل شيء, كأننا خلقنا لنخاف فقط دون أن نحيا دون أن نحلم دون أن نقول لا, ولا نعرف من الجغرافيا الجغرافياإلا موقعنا على الخريطة بينما تمحو الأحداث وجودنا الفعلي من التاريخ.
أيها القادة الذين لا يظهرون إلا في قمم المجاملات التي تكلف الشعب مليارات , ويتوارون في لحظات الحسم, متى ستدركون أن السكوت صار خيانة وأن الحياد في وجه الظلم هو شراكة في الظلم نفسه؟ متى ستفهمون أن العدو لا يهابكم لأنه لا يسمع منكم إلا الهمس, ولا يرى منكم إلا التردد, ولا يعرف عنكم إلا أنكم لا تفعلون شيئا حين يفعل هو كل شيء؟ أما آن لليل هذا التخاذل أن ينتهي؟ أما آن للكرامة أن تنتصر ولو بكلمة واحدة حقيقية لا تشبه التمثيل السياسي الرخيص؟ أما آن لفكرة العروبة أن تتحول من شعار إلى ممارسة, ومن أغنية إلى موقف, ومن قصيدة إلى مشروع دفاع عن كل ما تبقى فينا من إنسانية؟! أيها الساكتون باسم الحكمة.. أما سئمتم هذا التبرير المتكرر للصمت؟ أما تعبتم من الوقوف خلف جدران التأجيل؟ أما مللتم من انتظار الضوء الأخضر من خلف البحار لتتكلموا في شؤونكم الداخلية؟ أما آن لكم أن تدركوا أن التاريخ لا يرحم المتقاعسين ولا يخلد المترددين ولا يعبأ بالذين اختاروا أن يمروا كأشباح بلا أثر ولا ملامح ولا موقف؟ أما آن أن تفهموا أن الأمة التي لا تغضب حين تُهان, ولا تثور حين تُستباح هي أمة لا تستحق البقاء على خارطة الأمم الحرة؟ انظروا كيف تكتب إسرائيل روايتها بالدم, وبالصواريخ وتُجبر العالم على الإصغاء إليها, انظروا كيف لا تخشى أن ترتكب الغدر في وضح النهار, ولا تخاف من ردة فعل أحد, ولا تحسب حسابا إلا لقوتها هي, ثم انظروا إلينا نحن نكتفي بالاستنكار ونكتب البيانات ونلعن العدو بيننا وبين أنفسنا, ثم نعود إلى اجتماعاتنا ومؤتمراتنا وكأن شيئا لم يكن كأن من قُصفوا في الدوحة ليسوا منّا كأن الغدر لم يطرق أبوابنا, كأننا لم نعد نعرف أن كل صاروخ يسقط في عاصمة عربية هو إنذار لنا جميعا, وأن كل دم يسيل هناك هو دمنا نحن أيضا, وأن كل اغتيال سياسي على أرضنا هو خنجر في خاصرة سيادتنا المزعومة.
لسنا عاجزين ولكننا جعلنا من العجز عقيدة, ومن الحذر مذهب حكم, وجعلنا من التوازنات حبالا نربط بها ألسنتنا وأيدينا, وجعلنا من المجاملة لغة ومن الحياد حيلة نغطي بها عورات مواقفنا الضعيفة, ولسنا صغارا ولكننا صغّرنا أنفسنا حين أدمنا الدوران في فلك الأقوياء, ونسينا أننا نستطيع أن نكون رقما صعبا في المعادلة إذا ما أردنا وإذا ما امتلكنا الشجاعة لقول الحقيقة والجرأة على اتخاذ القرار.. فلسطين لا تطلب معجزات ولا تنتظر فرسانا من أساطير الكتب, بل تنتظر كلمة حق من رجل يملك قراره, تنتظر موقفا عربيا صادقا لا يُحسب فيه حجم الضرر بميزان الربح والخسارة, ولا يُقاس فيه دعم القضية بمدى رضا الحلفاء, بل يكون الموقف ناتجا عن إيمان عميق بأن ما يُرتكب من جرائم لا يجب أن يمر دون حساب, وأن السياسة إذا خلت من الأخلاق صارت ضربا من الإجرام المؤسسي وأن الصمت عن الظلم شراكة في وقوعه..
متى سيتكلم القادة ليس لمجرد التصريح, بل ليعلنوا موقفا يعيد التوازن للأرض المختلة؟ هل سنبقى نراقب ونرصد ونحلل دون أن نفعل شيئا؟ هل نبقى نعيش في حالة مراقبة دائمة للأحداث دون أن نشارك في صناعتها؟ هل نبقى ننتظر تغير الرياح دون أن نمد أشرعتنا؟ هل نبقى نحلم بالتغيير دون أن نضحي من أجله؟ هل نبقى نطالب الآخرين بالاعتراف بنا ونحن لا نعترف بأنفسنا ولا نملك شجاعة الدفاع عن كياننا وعن دورنا وعن مستقبلنا؟!
وإذا كان البعض يرى في الغضب اندفاعا فليكن, وإذا كان البعض يرى في المواجهة خطرا فليكن, فإننا جربنا الصمت طويلا فماذا كانت النتيجة غير أن عدونا ازداد وقاحة وتجبرا وتماديا, فهل ننتظر منه أن يصبح رحيما لأننا صمتنا؟ هل نرجو أن يرق قلبه لأننا أحجمنا عن الرد؟ هل نأمل أن يحترمنا لأننا لم نعترض على إهانتنا؟! هذا وهم.. هذا عبث.. هذا انتحار بطيء وموثق ومعلن يجري أمام الكاميرات, وفي نشرات الأخبار وفي أرشيف الأمم المتحدة دون أن يرف لنا جفن..
أيها العرب يا من تملكون المال والإعلام والجغرافيا والتاريخ والحضارة والموقع والثروة, متى تدركون أن امتلاك الأشياء لا يعني امتلاك الفعل؟ وأن الكرامة ليست موروثة بل يجب ان تصنعوها بانفسكم؟ وأن المجد لا يُورث بل يجب ان تنتزعوه بالقوة والسلاح, وأن الاحترام لا يُطلب بل ان تفرضوه بالشجاعة, وأن المواقف لا تُصاغ في مكاتب الاستشارة الغربية بل يجب ان تُولدوها من ارحام اللبوات, وفي لحظة صدق بين الضمير والمبدأ والواقع المؤلم, متى تتوقفون عن دفن رؤوسكم في رمال الدبلوماسية الباردة؟ متى تعلنون أنكم باقون هنا وبأن لهذا الشرق سادة لا عبيدا؟ متى تعلنون أن زمن الخوف قد انتهى وأن زمن الكرامة قد بدأ؟ متى متى متى ؟!
أما آن أن يخرج من بينكم من يقول كلمة في وجه هذا الطغيان؟ أما آن أن يولد خطاب عربي جديد لا يشبه كل الخطابات القديمة؟ أما آن لنا أن نواجه أنفسنا قبل أن نواجه العدو؟ أن نصارحها بأننا تأخرنا وتراجعنا وسكتنا طويلا, وأننا نحتاج الآن إلى فعل حقيقي لا مجرد بيانات مكرورة, نحتاج إلى صيحة توقظ النائمين وتهز الكراسي العاجية التي ما عادت تسمع إلا صدى تصفيق المجاملين والمنافقين والمتملقيىن؟! أما آن لهذا الليل أن ينقشع؟ أما آن لوجوهنا أن تعود مشرقة بالكرامة العربية وليست باهتة بالصمت؟ أما آن لأصواتنا أن تعلو وأقدامنا أن تثبت وأيدينا أن تمتد ليس للسلام فحسب, بل لردع الغدر والعدوان ولحماية الضعفاء ولصون العهد والدم والعرض؟ أما آن أن نكون نحن من يصنع الخبر وليس من ينتظره؟ أما آن أن نستيقظ من غيبوبة الاستكانة, وأن نكتب بأيدينا الصفحة القادمة من هذا التاريخ المجروح؟ أما آن أن نعود كما كنا يوما أمة تنتمي للحق لا تركع للباطل, وتنطق بالصدق لا تخشى في الحق لومة لائم؟ وما هذه الاسألة الا صرخة من قلبي الجريح, وكرامتي المسحوقة, وخجلي الشديد من عروبتي وقادة قومي, ارفعوا سكينكم التي تمزق قلبي, ودعوني اخذ اخر انفاسي دون ان ارى وجوهكم القبيحة المتربة بتراب العار والذل والهزيمة في جميع الميادين ..
جاسم محمد علي المعموري
9 – 9 - 2025
#جاسم_محمد_علي_المعموري (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟