جاسم المعموري
الحوار المتمدن-العدد: 8473 - 2025 / 9 / 22 - 09:46
المحور:
الارهاب, الحرب والسلام
لماذا يخافون من اسطول الصمود او اسطول الحرية او غيرهما؟ , أليسوا اقوى دولة في العالم تضرب ثمان دول في المنطقة بوت واحد ؟ وتتحدى العالم كله, وتتحدى كل المظاهرات الشعبية الرافضة للحرب, وتتحدى مجلس الامن والامم المتحدة ومحكمة العدل الدولية وكل القوانين والاعراف الدولية , لماذا هي مدللة كل هذا الدلال؟ وان كل ما تفعله من جرائم هو دفاع عن النفس, بينما اذا رفع المظلوم صوته, او كتب استنكارا صغيرا خجولا على وسائل التواصل اصبح عدوا للسامية..ومعظم الناس لا يعرفون ماهي السامية او ما تعريف معاداتها!
كيف يمكن لكلمة ان تخيف من يملك القنابل النووية؟ كيف يمكن لسفينة تحمل علبة حليب اطفال مجفف ان تثير ذعر دولة تمتلك أكبر ترساتة سلاح عرفها التاريخ؟ كيف يمكن لمنشور على منصة للتواصل ان يرعب من يُسقط القنابل الحارقة على مدن كاملة دون أن يرف له جفن؟ من أين يأتي هذا الخوف الغريب من حليب (نيدو)..من صوت المستضعف.. من صرخة الجريح.. من دمعة الطفل.. من نظرة الارملة التي تحدق في السماء وكأنها تسأل الله, (لماذا تركتنا فريسة للذئاب)؟, لماذا اصبحت الضحية هي المتهم؟ ولماذا صار القاتل يحاضر في الأخلاق ويؤلف كتبا في السلم؟ وهو يوقع بيده أمر القتل الجماعي باسم الدفاع عن النفس, وباسم التاريخ, وباسم المظلومية التي صارت سيفا مصلتا على رقاب الجميع حتى الذين من لم يولدوا بعد.. حين تصبح القوة هي الحجة الوحيدة, يصبح المنطق رفاهية.. والقانون ترفا.. والنقد خيانة.. اما السكوت فيصبح حكمة!
هم لا يخافون من السفن ولا من الشبان الذين يركبون البحر بحثا عن الكرامة الانسانية المفقودة, فهؤلاء الشبان لن يستطيعوا تحرير فلسطين, إنما الخوف الحقيقي من أن تنكشف القصة كلها.. الخوف من أن ينهار السرد الذي بُني منذ عقود على أسااس هش من الكذب المقدس,(الكذب باسم الدين) والتاريخ المختلق, والادعاء المتكررفي أن الشر كله عند الضحية والخير كله عند القاتل.. هم لا يخشون الأشخاص ولا ذرات الطحين او علبة الحليب, بل يخشون ماتعنيه من معاني.. وهم لا يخشون القوارب, بل يخشون الرموز.. لا يخافون من الجياع المجوعين, بل من جوغهم إلى العدالة, ومن شجاعتهم في الجوع, من قدرتهم على تحويل الفقد إلى صمود, وعلى تحويل الموت إلى طريق نحو الحياة.. هناك شيء مخيف جدًا في ان يروا الضحية لا تننكسر ..في أن يروا من يفقد كل شيء ولا يزال يبتسم, ولا يزال يكتب ولا يزال يغني, ولا يزال يروي لأطفاله القصص قبل النوم على انقاض القصف ويقول لهم إن النور لن يموت, في عالم مقلوب تماما حيث تغدو العدالة تهمة والمقاومة إرهابا والحياد جبنا والانحياز للحق مخاطرة غير محسوبة, تصبح الأخلاق عملا انتحاريا, وكتابة مقال صحفي جرما يستحق الإقصاء, وربما يستحق القتل.. يصير الفكر سلاحا أخطر من المدفع.. ويصبح الكتاب أكثر تهديدا من الطائرات المسيرة.. ما هذا العالم الذي يخاف من الحقيقة أكثر من خوفه من القنبلة؟! لماذا تتحول الضحية إلى عبء ثقيل على الضمير العالمي؟! لماذا تبدو صرخة الطفل في المخيم اكثر ايلاما من كل تقارير حقوق الانسان؟! لماذا تسقط الانسانية صريعة امام اول اختبار حقيقي لها؟! لماذا تتعثر الامم المتحدة وهي تنظر في أعين الامهات الثكالى وتكتفي بالتعبير عن القلق؟ بينما تستمر آلات الحرب في طحن الارواح بلا رحمة, وتُسحب الشرعية من كل من يرفع يده ليقول لا.
إنها ليست مسألة ميزان قوى فحسب, بل مسألة ميزان قيم مختل من جذوره, ونظام عالمي بُني على أساس الغلبة وليس على اساس العدل, لذلك لا عجب إذًا أن تُكافأ الدولة التي تضرب ثماني دول في وقت واحد, وتُمنح صكوك البراءة سلفا, وأن تُحاكم الكلمة وتُدان الفكرة وتُحظر القصيدة وتُراقب الأغنية ويُسجن الرسام ويُطارد الصحفي وتُشوّه صورة الناشط, بينما يُحتفى بالقناص وتغني له القنوات ويُمنح الأوسمة وتُبنى له النُصُب وكأن الدم الذي يسفكه مجرد ماء, وكأن الموت حين يصنعه الاقوياء يتحول إلى حدث مشروع لا يحتاج إلى تفسير.
حين تفقد السياسة شرفها ويتحول الظلم إلى لغة رسمية تُكتب بها التقارير وتُلقى بها الخُطب, يصبح من الصعب أن تعرف من المجنون ومن العاقل.. من المجرم ومن الضحية.. من الذي يحتاج إلى محكمة ومن الذي يحق له أن يُحاكم الجميع.. حين تصبح الكاميرا اخطر من الصاروخ, ويُعامل المصور كجندي معاد, ويُقتل لأنه وثق الحقيقة, وليس لأنه حمل سلاحا.. حينها ندرك أننا في عصر جديد تماما, حروبه جديدة ولغته جديدة, عصرالصور التي تفضح أكثر من آلاف الصفحات في القانون الدولي.. عصر الوجوه التي تحفظها العيون قبل أن تحفظها الذاكرة.. الوجوه التي تسكن الشاشات ثم تسكننا نحن وتربك صمتنا وتجعلنا نعيد النظر في كل شيء. فهم لا يخافون من الحقيقة لأنها سلاح, بل لأنها مرآة تكشف القبح المخفي خلف أقنعة التحضر والكلمات المنمقة.. تخيفهم لأنهم يعرفون انها إن خرجت من القفص فلن تعود إليه.. يعرفون أنها ستقلب الطاولة على المسرح كله لتعرف الحقيقة طريقها حتى لو ضاعت الخريطة.. يعرفها القلب قبل العقل, وتشهد بها العيون حتى لو أغمضوها بالدم.. يعرفون أن السفينة التي تحمل طحينا او قنينة ماء قد تحمل في قلبها نورا يكفي ليكشف كذب عواصم بأكملها.. يعرفون أن الرسالة التي يكتبها طفل على حائط منزله المدمر أقوى من ألف مؤتمر.. يعرفون أن الحكاية بدأت تُروى من جديد ولكن ليس من أفواههم, بل من أفواه من ظلوا صامتين طويلًا حتى ضاق الصمت بهم وقرروا أن يتكلمموا.
وهنا تبدأ الأسئلة الحقيقية تنبعث من رماد الخطابات الرسمية.. من الذي أعطى أحدهم الحق ليكون فوق القانون؟ من الذي قرر أن دما أغلى من دم؟.. من الذي حدد من يملك الحق في الخوف ومن يُجبر على الشجاعة؟.. من الذي صنف الموتى وقرر أن بعضهم يُرثى له وبعضهم يُلام على موته؟.. من الذي اختصر العالم في مرآة واحدة لا تعكس إلا وجهه؟.. من الذي أقنعنا أن الإنسانية يمكن أن تكون نسبية وأن الأخلاق مسألة رأي لا حقيقة ثابتة؟..
ما يحدث ليس خللا طارئا بل نظام متكامل من الازدواجية الاخلاقية التي تمت هندستها بعناية على مدار عقود حتى صار فيها المجرم قاضيا والشاهد متهما والضحية سبب المشكلة ليس الأمر فقط في القوة بل في احتكار الرواية في كتابة التاريخ بيد واحدة في السيطرة على اللغة والصورة والتمثيل واحتلال الوعي قبل الأرض
ورغم ذلك كله تبقى الشرارة.. تبقى القصائد.. تبقى العيون التي لا تنكسر.. تبقى الأرواح التي تسير نحو المجهول بإيمان نادر.. تبقى الذاكرة حية لا تموت.. تبقى الرسالة مكتوبة على الجدران وعلى جلود الشهداء وعلى أيدي الأمهات.. تبقى الحقيقة صلبة عنيدة عصيّة على التزوير.. تبقى المقاومة فعلا أخلاقيا قبل أن تكون خيارا عسكريا.. تبقى فلسفة الحياة أقوى من صناعة الموت.. ويبقى الإنسان في أقصى حالات ضعفه أقرب ما يكون إلى جوهره الحقيقي, حين يقول لا في وجه الظالمين.. يقول الامام علي عليه السلام ( لا يكبرن عليك ظلم من ظلمك, فإنه يسعى في مضرته ونفعك) نهج البلاغة -محمد عبده-.. كل يوم يستمر فيه النتن ياهو بالقتل والجريمة يثبت فيه ان هناك قضية اسمها فلسطين, وان هناك شيطان رجيم اسمه اسرائيل..
ان هذه الأزمة التي نعيشها منذ سنتين ليست سياسية فقط, بل وجودية تمتحن معنى الانسان فينا جميعا.. تمتحن معنى ان تكون حرا ولو خالف هذا التصورالمنطق القانوني.. أن تظل حرا حتى وأنت مكبّل.. حتى وأنت تحت الركام.. ان تظل انسانا رغم محاولاتهم الحثيثة لنزع صفة الإنسان عنك.. ان تظل تصرخ ليس لأنك تظن انها ستغير شيئا بل لأن الصمت صار خيانة للحياة ذاتها.. فهذا ليس صراعا على الارض, بل صراع على الوجود.. على التاريخ.. على اللغة.. على تعريف الخير والشر.. على من يكتب النهاية, ومن يملك أن يروي البداية, وفي هذا الصراع لا تهم الكفة مع من تكون, بل تهم البوصلة مع من تكون, فثمة أناس يقفون في وجه الجرافات بأجسادهم العارية, ليس لأنهم يظنون أنهم سيوقفونها, بل لأنهم يعرفون أن الإنسان إن لم يقف الآن فلن يبقى له أي مكان يقف فيه غدا, وهكذا يمضي العالم متفرجا خائفا من حليب نيدو..خائفا من الصوت.. خائفا من الحقيقة التي تطاردهم حتى في احلامهم, لأنهم يعرفون أنها أقرب مما يظنون, وانها حين تصل لن تطرق الابواب, بل ستقتحمها كما يقتحم النور الظلام بلا استئذان.
جاسم محمد علي المعموري
#جاسم_محمد_علي_المعموري (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟