نعمة المهدي
الحوار المتمدن-العدد: 8487 - 2025 / 10 / 6 - 13:31
المحور:
الادب والفن
(قصة عن النزوح والحنين والحب وسط رماد الحرب)
أحيانًا لا يرحل الإنسان من المكان، بل من نفسه.لان
النزوح الحقيقي ليس أن تترك بيتك، بل أن تجرّ قلبك خلفك كحقيبةٍ مثقوبةٍ بالذكريات.
وفي الحروب، لا تُقاس المسافات بالكيلومترات، بل بعدد الوجوه التي ودّعتها دون أن تودّعك.
وحين تضيق الأرض بالناس، يتعلّم بعضهم أن يبنوا من الألم وطنًا مؤقّتًا، سقفه الأمل، وجدرانه الوجوه التي لم تغادر القلب.
لم أكن أتخيّل يوماً أن يضيق بي وطني إلى هذا الحدّ، حتى أصبح الهواء الذي أتنفّسه مرهوناً برحمة طائفةٍ أو لونِ بطاقةٍ شخصية.
كنتُ أملك بيتاً صغيراً في أطراف بغداد، شجرة توت في الحديقة، وجيراناً نختلف ونتصالح كل أسبوع. لكنّ الحرب الطائفية بعد 2003 كانت كحريقٍ يأكل قلب البلاد، لا تُبقي شيئاً من الذاكرة إلا رماداً.
حين سقط أول جدارٍ في حارتنا، فهمتُ أن الدور قادم علينا.
جمعتُ بعض الملابس، أوراقاً رسمية، وصورة زوجتي الراحلة. أمسكتُ بيد ابنتي الصغيرة "سارة"، وخرجنا.
كان الطريق إلى المخيم يمتدّ كجرحٍ طويلٍ في جسد العراق، والعيون كلها تبحث عن مأوى لا يسأل: "من أي مذهبٍ أنت؟".
في الشاحنة التي أقلّت عشرات العائلات، كان الصمت أثقل من الغبار.
تساءلت سارة بصوتٍ خافت:
ـ بابا… ليش إحنا نترك بيتنا؟
نظرتُ في عينيها التي تشبه أمّها، وقلت:
ـ لأنّ البيت يا بنتي مو جدران، البيت الناس اللي نحبهم… وإذا راحوا، يصير الجدار صحراء.
أطرقتْ رأسها وقالت:
ـ زين، نرجع لو لا؟
ـ نرجع، بس لما يصير الوطن قلب واحد مو سكينين.
في المخيم الذي نُصب على أطراف الموصل، خيمةٌ من قماشٍ رقيقٍ تقي المطر ولا تقي الذكرى.
الطوابير لا تنتهي: ماء، طعام، علاج.
كانت سارة تصحو ليلاً تبكي من البرد، فألفّها بمعطفي وأحاول أن أضحك كي تنام.
لكنّ الضحك صار وجهاً آخر للبكاء.
في اليوم الخامس، جاءت منظمة إغاثة توزّع الدواء.
هناك رأيتها لأول مرة… رواحل.
امرأة من الموصل، في الثلاثين من عمرها، تحمل حقيبة أدوية وتقول بصوتٍ يشبه الندى:
ـ منو عنده طفل مريض؟
رفعتُ يدي، فجاءت وجلست قرب سارة، وضعت المحرار تحت لسانها، ثم قالت لي بلطف:
ـ بس تعب بسيط، تحتاج دفء مو أكثر.
شكرْتها، وكنت أرى خلف ابتسامتها خراباً يشبه خراب مدينتي.
منذ ذلك اليوم، صارت تمرّ كل مساءٍ لتطمئن على سارة.
وفي أحد الليالي، قالت لي وهي تنظر إلى الأفق:
ـ تتصوّر نرجع يوم؟
ـ نرجع… بس مو كلنا. بعض الناس ترجع بأجسادها، وبعضهم بأرواحهم فقط.
ضحكتْ وقالت:
ـ يمكن أنا من اللي يرجعون بأرواحهم.
سكتُّ، لأنّي شعرتُ أنها تتكلم عن شيءٍ يتجاوز العودة.
في المخيم أيضاً، كان هناك "خالد" — مهندس من بغداد جاء متطوّعاً مع فرق الإغاثة.
عيناه متعبتان من كثرة الحكايات، لكن حين يرى رواحل، ينسى التعب كلّه.
كنتُ أراقب نظراته إليها، ونظراتها التي تحاول أن تتجاهله فلا تنجح.
كان الحب يولد بين الركام، مثل وردةٍ تنبت على حافة مقبرة.
ذات مساءٍ ماطر، التقاها عند الخيمة الصغيرة التي توزّع الماء.
قال لها:
ـ لو عدنا، أتبقين طبيبة؟
ابتسمت بحزنٍ وقالت:
ـ يمكن أفتح صيدلية للحلم… كل واحد يجي أعطيه حبّة نسيان.
ـ وأنا؟
ـ أنتَ أعطيك حبّة أمل… تكفي العمر كله.
ثم ابتسمت، وتركته يتيه في صمتٍ عذب.
مرّت شهور. المخيم صار مدينةً من الخيام، والناس ألفوا الطين والصفوف.
لكنّ المرض تسلّل إلى جسد سارة؛ التهاب رئوي لم يُنقذْه الدواء.
في تلك الليلة، جلستُ إلى جوارها، أسمع تنفّسها المتقطع.
قالت وهي تغمض عينيها:
ـ بابا، إذا متّ، لا تبكي… يمكن أرجع من الباب الصغير اللي رسمته بالمدرسة.
كانت رواحل تراقبها بعينين دامعتين، وخالد يقف عند الباب ممسكاً بقنينة الأوكسجين.
قلت وأنا أمدّ يدي إليها:
ـ سارة، لا تروحين يا روحي، شوفيني!
وضعت رواحل يدها على كتفي وهمست بصوتٍ مبحوح:
ـ النفس ضعيف… بس قلبها قوي.
صرختُ:
ـ سارة! اسمعيني، الدنيا تنتظر ضحكتك!
مد خالد يده ليضبط الأوكسجين، لكن النفس الأخير خرج هادئاً، مثل نور شمعةٍ انطفأت برفق.
تجمّدت أصابعي على وجهها.
رواحل أجهشت بالبكاء، ثم قالت وهي تضمّها برفق:
ـ راحت طفلة وخلّت وردة جوّا صدورنا.
أما خالد، فجلس على الأرض، أخرج من جيبه كيس تمرٍ صغير وقال:
ـ تمر من فلاح بالبصرة… قال: “خلو حلا الجنوب ينسّيكم مرّ الشمال.”
مدّ لي تمرتين، فأخذت واحدة ووضعتها قرب يدها الصغيرة، وقلت:
ـ حلاها اليوم مُرّ يا ولدي.
أجاب خالد بصوتٍ مكسور:
ـ يمكن بس اليوم… يمكن باچر يصير طعمه جنّة.
بعد سويعات قليلة، دفنّاها عند طرف المخيم، بين صخرتين صغيرتين.
كتبت رواحل على قطعة كرتون: “سارة نجيب — ضحكة لا تُنسى.”
وفي كل مساء، تمرّ الريح فتلامس الورقة كأنها تقرأها بصوتٍ خافت.
منذ تلك الليلة، صار تمر البصرة رمزاً للحياة في خيمتنا.
كلما جاء خالد من جولته، ناولني حفنة وقال:
ـ الجنوب ما بخل علينا بالحلا، حتى وهو موجوع.
وأنا أجيبه دائماً:
ـ إي يا ولدي، حتى النخل يعرف الوفاء، مو مثل بعض البشر.
بعد شهور، غادرت رواحل المخيم مع قافلةٍ من اللاجئين إلى الشمال.
أما خالد، فبقي هناك، يسأل عنها كل مساءٍ كمن ينتظر وعداً في الغيم.
وكنتُ أنا، "نجيب"، أكتب في دفترٍ قديم:
"الطريق إلى المخيم لم يكن طريقاً إلى النجاة، بل إلى فهمٍ عميقٍ لمعنى البقاء. فحين يُهجّر الإنسان من بيته، يبني بيتاً من الذكرى، وسقفه الأمل، وجدرانه الوجوه التي شاركته الخوف والابتسامة."
بعد عامٍ كامل، عدتُ إلى أطراف الموصل. كان الشتاء يتهيأ للرحيل، والمخيم لم يعد كما تركته؛ بعض الخيام زال، وبعضها ما زال يصمد في وجه الريح.
مشيتُ حتى وصلتُ إلى القبر الصغير، هناك حيث تنام سارة، والتمر اليابس ما زال عند رأسها. جلستُ قربه، وضعتُ راحتي على التراب وقلتُ بهدوء:
ـ بنتي… رجعت، مثل ما وعدتك. الدنيا بعدها صعبة، بس الحنين أقوى.
وبينما أنا أغالب الدموع، سمعتُ وقع خطواتٍ خلفي. التفتُّ فإذا هو خالد، يحمل كيس تمرٍ جديداً بيده. اقترب بصمت، جلس إلى جواري، ومدّ إليّ حفنة تمر وقال:
ـ تمر جديد من البصرة يا حجّي… الفلاح نفسَه، بس قال هالمرة: “خلو طعمه يوصل للغايبين.”
ابتسمتُ رغم المرارة، وقلت له:
ـ سبحان الله… الجنوب بعده يرسل لنا دفء.
قال خالد بصوتٍ خافت:
ـ النخل ما ينسى، مثل ما الأب ما ينسى.
جلسنا طويلًا، لا كلام بيننا سوى صمتٍ يعرف طريقه إلى السماء.
وحين هممتُ بالرحيل، وضعتُ تمرتين قرب القبر، وقلتُ:
ـ هاي من أبوك يا سارة… وهاي من الجنوب اللي بعده يتنفّس محبة.
ثم مشينا معاً، أنا وخالد، والريح تمرّ بيننا كأنها تُعيد على مسامعنا ضحكةً قديمةٍ لا تموت.
في النهاية، لم يكن المخيم مكانًا، بل امتحانًا للذاكرة.
هناك تعلّمت أن بعض الفقد يُنبت حياةً أخرى لا تُرى، وأن التمر الذي يُوزَّع في البرد ليس طعامًا، بل وعدًا بالاستمرار.
الحروب تمضي، لكن الحكايات تبقى لتشهد أننا كنّا بشرًا ذات يومٍ، نحمل القلوب على ظهورنا مثل خيامٍ تبحث عن أرضٍ آمنة.
ومن تحت كل خيمةٍ مُمزقة، يظلّ الوطن يحاول أن يكتب نفسه من جديد… بحبر الدموع، وبصبرِ من لم يفقد الإيمان بالرجوع.
#نعمة_المهدي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟