مروان صباح
الحوار المتمدن-العدد: 8478 - 2025 / 9 / 27 - 14:27
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
مروان صباح / تهاوت صورة إسرائيل سريعاً أمام العالم ، فكل ما عرضه بنيامين نتنياهو ، رئيس الحكومة الإسرائيلية ، على المنابر الدولية لم يحظَ بتأييد الأغلبية الساحقة في المجتمع الدولي ، رغم تقبّله من قبل بعض الساسة والأكاديميين في الدوائر الغربية (Smith, - 2025 - 2020, The Politics of International Legitimacy) ، وقد عُدّ إنسحاب الكثير من أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة من القاعة أثناء خطاب نتنياهو ، المتهم بالمسؤولية عن الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين 🇵🇸 ، موقفاً رمزياً يعكس عزلة إسرائيل المتزايدة عن المجتمع الدولي (UN General Assembly Records, 2023) ، بل عشرات الوفود أغرقوا وجهها بالبصق ، في المقابل ، لقي خطاب الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) ترحيباً وتصفيقاً متكرراً من الدول الأعضاء ، رغم أنه أُلقي عن بُعد بسبب منعه من الوصول إلى مقر الأمم المتحدة في نيويورك ، وتبرز هنا 👈ضرورة الربط بين البعد السياسي والبعد الرمزي ، حيث إن الإسراء من مكة والمعراج من القدس يشيران إلى وحدة الأصل بين مياه زمزم ومياه سلوان ، ما يمنح عين سلوان بعداً دينياً وروحياً لدى الديانات السماوية الثلاث (Al-Tabari, Tarikh al-Rusul wa al-Muluk) ؟ وتتمثل أهمية عين سلوان في مكانتها المشتركة ؛ فقد إستخدمها المسيح لشفاء الأعمى ، كما ورد في إنجيل يوحنا (9:7)، بينما يُروى أن مريم العذراء غسلت ثياب المسيح بمائها (Eusebius, Church History) ، أما من الناحية التاريخية ، فقد أشار سفر الملوك الثاني وسفر أخبار الأيام إلى القناة التىّ أنشأها الملك حزقيا لجرّ المياه إلى المدينة (2 Kings 20:20؛ 2 Chronicles 32:30).
وفي هذا الإطار ، ظهر الخلاف بين الرئيس التركي رجب أردوغان 🇹🇷 ورئيس الحكومة الإسرائيلية نتنياهو بشأن النقش السلواني ، وهو نص محفور على جدار حجري داخل نفق سلوان ، مكتوب بالخط الكنعاني -العبري المبكر (Paleo-Hebrew) ، يتألف النقش من 6 أسطر تصف إلتقاء فريقين كانا يحفران النفق من اتجاهين مختلفين حتى اجتمعا في الوسط (Avigad, 1984, Discovering Jerusalem). وتُعرض القطعة الأصلية اليوم في متحف الآثار في إسطنبول ، بينما تُتاح نسخ منها في القدس ، وسط نقاشات سياسية ودبلوماسية متواصلة حول إمكانية إعادتها من تركيا (Turkish Ministry of Culture Report, 2019) ، وعلى الرغم من مرور أكثر من 2700 عام ، يكشف النقش أن مدينة داود في القرن 8 قبل الميلاد أمتلكت القدرة على تنفيذ مشاريع هندسية معقّدة في مجال البنية التحتية ، حتى وإن كان الحفر قد تم بطريقة متعرجة (zig-zag) تبعاً لطبيعة الصخر وأدوات العصر ، ويُعتبّر النقش أحد أقدم النصوص الطويلة والنادرة بالعبرية ، وهو ما جعله محطّ أطماع إسرائيل ، إذ ترى فيه “حجر زاوية” في ما يُعرف بـ علم آثار الكتاب المقدس (Biblical Archaeology) (Dever, 2001, What Did the Biblical Writers Know and When Did They Know It?) …
ليس من المستغرب أن يكون الإحتلال الذي يقرّر مصائر الفلسطينيين هو ذاته الذي يمارس ، في الظل ، أشكالاً من السيطرة والهيمنة على مواطنيه ، فعلى الرغم من وجود بعض مظاهر التقارب الثقافي بين الفلسطينيين والإسرائيليين داخل الأراضي المحتلّة ، فإن إسرائيل – حتى بعد توقيعها إتفاقيات سلام وإقامة علاقات طبيعية مع عدد من الدول العربية – واصلت التمسك بعقلية «إسبرطة» العسكرية التىّ جعلت من التفوق العسكري أساساً لوجودها السياسي والأمني (Wind, 2024) ، فمنذ تأسيسها ، سعت إسرائيل إلى بناء قوة عسكرية متفوّقة تحافظ على عزلة مقصودة عن محيطها العربي والإسلامي ، وهو ما يعكس توجهاً دائماً إلى فرض نفسها كقوة إقليمية تسعى لمحاكاة دور الولايات المتحدة 🇺🇸 في النظام الدولي (Brown, 2023) ، وقد أستلزم هذا التوجه عسكرة المجتمع بشكل شبه كامل ، من خلال تحويل القوانين والإجراءات إلى «حالة استثناء» دائمة تشرعن القيود المشدّدة على حركة الأفراد وتخضعهم لنظام مراقبة ومساءلة مستمرة (Lloyd & Schueller, 2020) ، وبالنظر إلى سلوك الأفراد في إسرائيل ، مثل حرص كثيرين منهم على إمتلاك جنسية أجنبية ثانية ، يمكن القول إن السياسات الداخلية أفرزت مجتمعاً ذا طبيعة عسكرية واضحة ، لا يختلف كثيراً عن المجتمعات الاشتراكيّة في حقبة الشيوعية ، حيث أدّت عسكرة السياسة والإقتصاد إلى إنتاج أنظمة مغلقة إنتهت بالإنهيار أو بانفجارات إجتماعية مدمّرة (Peters, 2016) ، إن الخوف والرعب ، هنا 👈 ، لم يعودا مجرد أدوات عابرة ، بل تحولا إلى آليات مستدامة مدعومة بالأجهزة الأمنية ووسائل الإعلام الرسمية ، حتى حين لا تتناسب هذه التدابير مع حجم العدوان أو التهديد الخارجي (Jewish Currents, 2023).
في السياق الراهن ، يتعامل الإسرائيليون – بوصفهم أقلية في فلسطين التاريخية – مع الفلسطينيين ضمن نموذج هيمنة وسيطرة يشبه إلى حد بعيد ما مارسه النظام الأسد ضد الشعب السوري في العقود الماضية (Mansour, 2019) ، وقد ظهر هذا بشكل أوضح في الإجراءات الاستثنائية المتواصلة منذ إندلاع المواجهات في غزة ، حيث يتم يومياً إختراع مبرّرات جديدة لتوسيع نطاق التدابير الأمنية والعسكرية ، في ظل تغييب شبه كامل لأي مراجعة نقدية لمدى واقعية هذا النموذج «الإسبرطي» أو جدواه على المدى البعيد ، إن هذا النهج لا يؤثر فقط في البنية الداخلية للمجتمع الإسرائيلي ، بل يمتد أيضاً إلى مكانة إسرائيل الدبلوماسية والسياسية في المنطقة والعالم ، وهو ما يطرح تساؤلات جدّية حول مستقبل هذا الكيان في ظل الإصرار على عسكرة الدولة والمجتمع معاً …
أتخذت إسرائيل وحلفاؤها خطوات واسعة للسيطرة على تدفق المعلومات عبر التضييق على وسائل الإعلام المستقلة مثل قناة الجزيرة في فلسطين 🇵🇸 ، واستهداف الصحافيين ، فضلاً عن إغلاق منصات رقمية مثل “تيك توك” أو ممارسة سياسات الحذف والمنع في منصات أخرى ضد كل محتوى يوثق الإبادة أو يعبر عن المقاومة (Reporters Without Borders, 2023؛ Al Jazeera, 2024) ، ورغم نجاح إسرائيل في الضغط على بعض الحكومات العربية لإتخاذ مواقف مماثلة ، فإن هذه الإجراءات لم تمنع بروز أصوات بديلة خارج نطاقها الرسمي ، وخلافاً للتوقعات ، جاءت أبرز أشكال التضامن مع الفلسطينيين من الشارع الأمريكي والأوروبي الذي أحتضن مظاهرات واسعة فرضت عزلة على الدبلوماسية الإسرائيلية (Pappé, 2022) ، كما دفعت هذه التحركات مؤسسات الإتحاد الأوروبي 🇪🇺 إلى مناقشة إمكانية مراجعة إتفاقيات التجارة المبرمة مع إسرائيل (European Commission, 2024) ، وهذا التحول يعكس قوة الرأي العام الذي غذته الحملات الرقمية الموثقة للانتهاكات في غزة ، تشير التجارب السابقة إلى أن الإعلام الرقمي لعب دوراً بارزاً في دعم الإنتفاضات الشعبية ، كما حدث في سوريا وفي سياق “الربيع العربي” (Howard & Hussain, 2013) ، اليوم ، تتكرر التجربة في فلسطين حيث أسهمت التقنيات الرقمية – من الهواتف الذكية إلى الذكاء الاصطناعي – في فضح الرواية الرسمية الإسرائيلية ، وكشفت جرائم الإحتلال على نطاق عالمي (Human Rights Watch, 2024؛ Finkelstein, 2018) .
إسرائيل مع تنامي إعتراف الدول الكبرى بالدولة الفلسطينية ، وقطع عدد من الدول في أمريكا اللاتينية وأوروبا لعلاقاتها العسكرية والاقتصادية معها (Guardian, 2024) ، بل إن شخصيات مثل الرئيس الكولومبي 🇨🇴 غوستافو بيترو باتت تُطرح بوصفها فاعلاً محتملاً في أي تحرك تحريري عالمي ضد الإحتلال ، ويضاف إلى ذلك أن الاقتصاد الإسرائيلي يواجه تحديات متصاعدة مع إنتقاله من نموذج الإقتصاد الحر إلى الإقتصاد المغلق نتيجة السياسات العسكرية المتشددة (World Bank, 2024) ، ولقد أظهرت التجربة الفلسطينية أن الإعلام الرقمي لم يعد مجرد أداة للتواصل ، بل أصبح سلاحاً فعالاً في فضح الجرائم ومواجهة الروايات الرسمية ، فقد ساهم في فرض عزلة سياسية وأخلاقية على إسرائيل بعد ما افتضحها شعبياً ، وتحديداً في تحريك الرأي العام الأوروبي والأمريكي واللاتيني لصالح القضية الفلسطينية ، وبالمقابل ، تكشف هذه التحولات عن محدودية قدرة إسرائيل على التحكم في تدفق المعلومات أو الإستمرار في تبرير انتهاكاتها ، بل إن تطور هذه الديناميكيات يفتح المجال أمام أفق جديد لمقاومة الإحتلال ، ليس فقط بالسلاح ، بل أيضاً بالكلمة والصورة والصوت الرقمي …
بدرجة معقولة من الثقة ، نقول هذا ، وكما يبدو واضحاً أن الإقتصاد الإسرائيلي مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالاقتصاد الغربي ، ما يجعل أي محاولة لتحقيق إستقلال اقتصادي شبه مستحيلة في ظل العزلة (Cohen & Zysman, 2020) ، إن فكرة “ركوب موجة الدولة الإسبارطية” لا تعدو أن تكون خياراً محفوفاً بالمخاطر ، تماماً كما أسهمت السياسات العسكرية والإبادة الجماعية في تشويه صورة إسرائيل عالمياً ، حتى أن بعض يهود العالم بدأوا يتبرؤون من دولة الإحتلال (Pappe, 2014) ، وإذا كان نتنياهو يسعى إلى الاكتفاء الذاتي العسكري والاستخباراتي ، فإن ذلك يتطلب أيضاً استقلالاً اقتصادياً ، وهو عبء جديد على المجتمع الإسرائيلي ، فالعزلة تزيد هشاشة الدولة وتفاقم الخوف من عدم القدرة على الحفاظ على الإستقرار الداخلي ، خاصة مع إحتمال وقوع انتفاضات فلسطينية أو إحتجاجات من العرب داخل الأراضي المحتلة (Lustick, 2018) ، هذا الواقع سيدفع الكثير من الإسرائيليين إلى الهجرة ، ما بدوره سيقلص نسبة الإلتحاق بالجيش ويضعف القوة العسكرية ، ويكشف فشل النخب الاسرائيلية القادمة من أوروبا في تحويل الإسرائيليين إلى شعب متماسك ، إذ استمرّت سياسات النخب والأقلية (Lustick, 2018).
والحال ، فإذا كان نظام عائلة الاسد يُصنف كـ”نظام أجتمع فيه الفشل”، فإن هذا ينطبق أيضاً على الكيان الإسرائيلي ، الذي قام على الخوف والقمع ولكنه يمهد لنفسه الهزيمة يوماً بعد يوم (Pappe, 2014) ، في المقابل ، ستظل المنطقة العربية فيه ودونه بحضارتها المتعددة—لغة وثقافة وتاريخ وهوية ومعرفة—مستمرة وراسخة (Hourani, 1991) حتى لو كان نقش سلوان في متحف إسطنبول …والسلام 🙋♂ ✍
#مروان_صباح (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟