كريم الوائلي
كاتب وناقد ادبي وتربوي .
(Karim Alwaili)
الحوار المتمدن-العدد: 8471 - 2025 / 9 / 20 - 14:09
المحور:
الادب والفن
ليس بالإمكان تلخيص التصوف أو الرومانسية بكلمة واحدة أو تعريف محدد؛ إذ إن لكل منهما خصائصه الذاتية والعامة بحسب كل متصوف أو رومانسي، ولذلك فإن تصوف الحلاج يختلف عن تصوف ابن عربي، ويختلف تصوف ابن الفارض عن تصوف السهروردي المقتول .. كما أن الرومانسية نفسها يصدق عليها ما يصدق على التصوف .. فرومانسية كيتس تختلف عن رومانسية كولردج وأن رومانسية جبران خليل جبران تختلف عن رومانسية أبي القاسم الشابي .
ويمكن التحدث عن سمات مشتركة بين التصوف والرومانسية تلك التي تتصل بالآتي: ـ
1- التذوق الفردي الخاص للعالم والمجتمع والإنسان، لدى كل من المتصوف والرومانسي .
-2خصوصية الخيال والتخيل الذي يصل إلى درجة النبوة عند المتصوف، والخيال الإبداعي لدى "كولردج" مثلا ً.
-3 التجربة الذاتية لكل من المتصوف الرومانسي .
وحين تأملت إبداع صلاح عبد الصبور الشعري ألفيته يعيش في أجواء الرومانسية / الصوفية؛ بمعنى أنه يتماهى رومانسيًّا بالتصوف، ومن الجدير بالذكر أن صلاح عبد الصبور كان متأثرًا بـجبران خليل جبران، الذي كان هو الآخر يعيش رومانسية مثالية متلفعة بكثير من ملامح الصوفية، وقد أكد صلاح عبد الصبور تأثره به لدرجة العبادة قال "استعبدني جبران طوال سنوات المراهقة الأولى وكان هو قائد رحلتي بشكل ما"، ولذلك كانت مسرحية "مأساة الحلاج " واحدة من أبرز تماهياته مع التصوف، والتي تمثل على المستوى السياسي صراعا ً بين "المثقف / الصوفي" ضد السلطة القمعية، في زمن حكمت فيه الأيديولوجيا القومية في مصر.
إن الحلاج قناع يتكئ عليه صلاح عبد الصبور ليعبر من خلاله عن تجربته الانسانية والسياسية، ولا ننسى أن عبد الصبور كان يعيش قدرًا من تجارب الصوفية منذ نعومة أظفاره؛ يقول: " كنت في صباي الأول متدينا ً أعمق التدين حتى أنني أذكر ذات مرة أنني أخذت أُصلي ليلة كاملة، طمعا ً في أن أصل إلى المرتبة التي تحدث عنها بعض الصالحين حين تخلو قلوبهم من كل شيء إلا بذكر الله .. وما زلت أصلي حتى كدت أتهالك إعياءً ودفع بي الإعياء والتركيز إلى حالة من الوجد حتى أنني زعمت لنفسي أنني رأيت الله! وأذكر أن بعض أهلي أدركوني حتى لا يصيبني الجنون " .
ولا ريب أن استعباد الرومانسية وتجلي العبادة وخوف الجنون كلها تنتج من تجربة واحدة ذاتية تتداخل فيها العناصر والمكونات؛ لتخلق هذه التجربة المزدوجة التي يفيض بها الشاعر نحو الكون و الوجود، وتتحول لغته إلى أداة يشعر بعجزها عما يختلج في داخل الإنسان .
ولذلك يخاطب عبد الصبور الآخر، وهو يتقنع بشخصية الصوفي بشر الحافي .
ولأنك لا تدري معنى الألفاظ
فأنت تناجزني بالألفاظ
اللفظ حـَجــَرْ
اللفظ منيـه ْ
فإذا ركبت كلامًا فوق كلام ..
لرأيت الدنيا مولودًا بشعًا.
وتمنيته المـوت ْ ..
أرجوك ..
الصمت َ
الصمت ..
عجز اللغة " الحجر / المنية " وأن تركيب الحجر بالمنية يولد كلامًا يقود إلى الموت، فالمنقذ أن تصمت، هكذا هم المتصوفة! وهذه هي تجربة صلاح عبد الصبور الذي يستذكر بشر الحافي. ويكتب عن مذكراته أو بالأحرى هي ليست مذكرات بشر الحافي وإنما هي مذكرات صلاح عبد الصبور.
قال عبد الصبور عن بشر الحافي :
" كان قد طلب العلم ، ثم مال إلى التصوف، ومشى يومًا في السوق فأفزعه الناس، فخلع نعليه، ووضعهما تحت إبطيه، وانطلق يجري في الرمضاء، فلم يدركه أحد " ..
وهذا يتضمن دلالات رمزية كثيرة، والأمر نفسه مع " مأساة الحلاج " إذ يتخذ صلاح عبدالصبور من الحلاج قناعا ً يعبر من خلاله عن تجربته، فيحضر الماضي الذي يقع " هناك " يحضره إلى الحاضر " هنا " ويتماهى الشاعر / المعاصر " عبد الصبور " مع الشاعر / الماضي المتصوف " الحلاج " وأكثر من هذا يتماهى الواقعان " العباسي والحديث".
هناك قمع في الواقع العباسي؛ حيث كان يعيش الحلاج، وهناك قمع في خمسينيات القرن العشرين وستيناته، قمع في الزمن الحاضر؛ فهو واقع سيء في كلتا الحالتين، ومثقف متمرد في كلا الأمرين، ذلك صُلِب في الماضي " الحلاج " وهذا ينتظر من يصلبه الآن "عبد الصبور " ومن الجدير الإشارة إلى أن هذا يمثل همًّا مشتركا ً بين الأدباء ففي الوقت الذي كتب فيه صلاح عبد الصبور مسرحيته " مأساة الحلاج " سنة 1964م كتب عبد الوهاب البياتي قصيدته " عذاب الحلاج " في السنة نفسها . وفي ضوء هذا نجد أن هناك تداخلا ً واضحًا بين الرومانسية والتصوف؛ لأن الرومانسية في الفن تعني وحدة الوجود في اللاهوت بحسب " فيرشيلد " . فالرومانسيون ينكرون الوصول إلى الحقيقة عن طريق الخيال وليس عن طريق العقل. وكذا المتصوفة فلقد كان للخيال أهمية كبرى في الاتصال والاتحاد والحلول بين الناسوت واللاهوت .
ولذلك يجمع صلاح عبد الصبور في جوانحه بين الرومانسية والتصوف على حد سواء ويضع الذات محور الإبداع، ويجعل " الفرد " مركز الكون والمجتمع؛ إذ يرى عبد الصبور "أن « معرفة النفس » تحولا في مسار الإنسانية ،ومن ثم فإن الإنسان الفرد هو المعبر هذه الذات، ولذلك تحددت في ضوئها طبيعة المجتمع وحركة التاريخ، وماهية الفن، لأنه حين تتناغم آحاد الإنسان يتكون المجتمع وتتشكل حركة التاريخ من حراكه، ويتولد الفن من لحظات نشوته.
ولم يكن الإنسان أساسًا لتحديد طبيعة المجتمع، والتاريخ والفن فحسب، بل إنه مركز الكون أيضا؛ لأن الكون « قوة عمياء ... و الإنسان هو عقله ووعيه، وعظمة ذلك العقل، إنه يستطيع أن يعقل ذاته »، ويتميز الإنسان هنا بقدرته الفائقة على وعي ذاته ووعي العالم الذي يعيش فيه، أو على حد تعبير عبد الصبور « إنه يجعل من نفسه ذاتًا وموضوعًا في نفس الآونة، ناظرًا ومنظورًا إليه، ومرآة ينقسم ويلتئم في لحظة واحدة»
إن الإدراك لا يتحدد بانعكاس صور الأشياء في الذهن، أو تجادلهما معا، بمعنى أنه ليس تأملا فيما يقع خارج الذات الإنسانية، بل على العكس من ذلك، إن الإدراك لديه ينشأ من خلال النظر إلى الذات ومهما يتحقق الوعي، ولذلك فإن « نظر الإنسان في ذاته هو التحول الأكبر في الإدراك البشري لأنه يحيل هذا الإدراك من إدراك ساكن فاتر إلى إدراك متحرك متجاوز »، وليس الإدراك هنا مجرد انكباب على النفس وانطواء عليها، ولكن الذات تصبح مركزًا للكون ومحورًا لصوره وأشيائه، ويتحدد الإدراك في ضوء ثلاثية أخرى، ولعلها تمثل الوجه الآخر لثلاثية الإنسان التي حددت حركة المجتمع والتاريخ والفن، وتنحصر هذه الثلاثية -هذه المرة- في ثلاثة أركان تمثل الذات ركنيها الأساسيين، وتمثل الأشياء الركن الثالث، فالمعرفة والوعي يتحددان عند عبد الصبور في نوع من الحوار الثلاثي بين ذاته الناظرة، وذاته المنظورة، والأشياء، بمعنى أنه يجعل من ذاته ذاتًا وموضوعًا في آن، ويتبادلان المواقع، إضافة إلى الموضوع المحدد في الأشياء الكائنة خارج الذات المدركة .
ويتحدد تخليق القصيدة في المرحلة اللاواعية عبر خطوتين، تمثل الخطوة الأولى ما يطلق عليه « الوارد » الذي حدده مرة « بخاطرة » « هابطة من منبع متعال عن البشر» وكونها « تفد إلى الذهن » أو « تبزغ فجأة مثل لوامع البرق».
توصيفات طبيعية أو ذاتية، فهي « تهبط » كالإلهام، أو وحي من «منبع » متعال عن البشر، وفي كل الأحوال لا وجود للجهد الإنساني في تشكيل القصيدة، أو تخليقها؛ لأنها متأتية من مكان آخر إلهامي، وتنحدر في هبوطها من أعلى غامض إلى أدنى في الذات الإنسانية، أو أنها متدفقة من منبع، وهو توصيف يذكرنا بالنبع الذي يتدفق من داخل الأرض ،ويحمل كل سمات الداخل، ويستكمل عبد الصبور توصيفها بحدوثه فجأة، ويستخدم توصيفًا طبيعيًّا وذلك بحدوثها فجأة، فالوارد ـ هنا ـ خاطرة تبزغ فجأة، مثل لوامع البرق والبزوغ المفاجئ، وكونها لامعًا يؤكد المعنى السابق في أن عملية الإبداع لا تتأتى بفعل الجهد الإنساني قدر ما هي هبة تفْد من مكان آخر، وتلد فجأة ومضًا أو برقًا تأكيدًا لمثالية الإبداع ووجدانيته المطلقة.
#كريم_الوائلي (هاشتاغ)
Karim_Alwaili#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟