أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - كريم الوائلي - البلاغة الفارغة من التهويم الخطابي الى التغير الاجتماعي














المزيد.....

البلاغة الفارغة من التهويم الخطابي الى التغير الاجتماعي


كريم الوائلي
كاتب وناقد ادبي وتربوي .

(Karim Alwaili)


الحوار المتمدن-العدد: 8428 - 2025 / 8 / 8 - 14:05
المحور: قضايا ثقافية
    


د كريم الوائلي

تتّكئ ثقافتُنا المعاصرة - على نحوٍ عام - على التراث أكثرَ من اعتمادها على الواقع؛ ولذلك فإنها تقابل بشاعةَ الواقع وتجهّمه وقسوته بالاستمتاع والانتشاء بجمال الصوت والتشبيه والاستعارة. وبهذا يتحوّل الإبداع من كونه معالجةً لتشوّهات الواقع إلى تجميلٍ للأساليب والصياغات، ويتحوّل هذا اللون من الخطاب ومن بلاغته من كونه أداةً لطاقات عقلية خلاقة، إلى أداة لتخدير المجتمع.
بمعنى آخر، يصبح الخطاب ليس أداةً للإقناع، ولا سعيًا للتغيير، ولا وسيلة لتزويد المتلقي بالبصيرة، بل يتحوّل إلى ستارٍ كثيف يحجب الواقع بكل ما يشتمل عليه من تناقضات. فيحجب بؤس الواقع، وقسوته، وبشاعة استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، بل قد يصل الأمر إلى تجميل القتل الوحشي بوصفه "قضاءً على الانحراف" و"بدايةً لصياغة العقول" بحسب معتقدات القاتل.
إن بلاغة الخطاب تتحوّل - حينذاك - إلى أداةٍ لتلميع الأرضيات البائسة، والأقنعة الشريرة، وتهدف إلى تجميل الخواء. إنها بلاغةٌ فارغة، لأنها لا تشتمل على رؤية لتغيير الواقع واستشراف المستقبل، ولا تسهم في تمكين المجتمع من امتلاك أدوات الوعي. كل ما في الأمر أنها تكتفي بجمالية التشبيه، وبهاء الاستعارة، وبراعة المقابلات والمطابقات، في زينة البلاغة وزخرفها، ومن ثمّ فلا مضمون جدير بالاعتداد به.
المدهش حقًا في مجتمعاتنا العربية الحديثة هو حالة الاسترخاء التام وهي تُبصر اتّساع الهوّة بين القول والفعل. ومن الملاحظ أن إنتاج الثقافة والوعي، سواء في ثقافة السلطة الرسمية أو في غيرها، وحتى في ثقافة المعارضة، إنما هو إعادة إنتاجٍ للفراغ الإنساني ذاته، الذي لا يُبصر الواقع ولا يعترف به. فصدق الخطاب هنا لا يُقاس بالاعتراف بالواقع والبحث في ثناياه عن معضلاته وقراءتها نقديًا، بل يُقاس بزخرف القول.
ولذلك فإن هذا اللون من الثقافة يُعلي من شأن مفردات التاريخ المجيد والبطولات المتوهَّمة والمصير العظيم، لكنه لا يستطيع - وهو الواجب الأهم - أن يُقدّم تصورًا عن سياسة تعليمية متطورة وعادلة، أو نظام صحي علمي متكامل، أو أن يكشف عن علاقات تحفظ للإنسان كرامته.
وليس هناك أخطر من اللغة وبلاغتها حين تُستعمل لتخدير الشعوب بدل تنبيهها، وحين تتحول البلاغة إلى مجرد أداةٍ لتسكين الأزمات وتهدئة التناقضات، وترحيل الأزمات، وتمييع المسؤوليات. وهكذا تُصبح البلاغة لونًا ثابتًا من المضامين، تتكرر في أثواب قشيبة متعددة، وتُعاد فيها الصيغ الجمالية الجاهزة، وتُرفَع فيها شعارات التبجيل والتمجيد، ويُحوَّل فيها الهزائم إلى انتصارات، في حين يكون الواقع فادحًا في الانكسار، والانحدار، والفساد، والتهميش.
إن معظم الصيغ البلاغية التي توظفها السلطة الرسمية تتجلّى فيها بوضوح ما يمكن تسميته بـ"التورم البلاغي"، لأن الصياغات - في هذه الحال - تخضع لسطوة الزخرفة، فتضيع الفكرة تحت وطأة تشبيهاتها واستعاراتها، وتحت وطأة إيقاعها الصاخب.
الخطاب الرسمي، سواء أكان سياسيًا أو دينيًا أو تربويًا، يُكتب عادةً على يد أنصاره لا ليُفعل، بل ليُقال فقط. وهو لا يُستعمل للنقاش، بل ليُبهر السامع، دون أن يغيره.
نحن لا ندعو - في هذا السياق - إلى محاربة البلاغة كما عرفناها في تراثنا، سواء اتفقنا أو اختلفنا مع جابر عصفور حين قسّم البلاغة إلى: بلاغة السلطة (وهي بلاغة الوضوح، بلاغة القانعين)، وبلاغة المعارضة (وهي بلاغة الرمز والإشارة، بلاغة المقموعين). لا، نحن لا ندعو إلى طرد البلاغة خارج إطار الإبداع، بل نسعى إلى تحريرها من الدهانات الفنية الزائدة.
البلاغة - حين تنبع من رؤية حقيقية، وتتضمّن قيمة أخلاقية، وتطمح إلى التغيير الإيجابي - تصبح أداةَ تنوير لا أداةَ إظلام. أما حين تفقد بوصلتها، وتتحول غايتها إلى مجرد إثارة عاطفية وانتزاع الانفعال الزائف، فإنها تتواطأ مع الاستبداد، وتخدم التخلف، وتُجمّل الفساد والهوان.
إن الخطاب التغييري ينبغي أن تستعيد فيه اللغة شرفَ المعنى، ونُبلَ الغاية، لا بهرجةَ الألوان ورنّة الصوت. وندعو في هذا السياق إلى تفكيك التحالف القائم بين أنصار هذا الخطاب وأصحاب السلطة القمعية، أي كسر التواطؤ بين السياسي والمنبر الثقافي، وتحطيم تبعية المستمع للواعظ، وإزاحة سلطة الكاتب عن القارئ.
نحن نريد للكلمات أن تُسهِم في الفعل، وللشعارات أن تُحدِث التغيير. فالكلمة إذا لم تُؤدِّ إلى معرفة، ولم تقترن بالتزام ومسؤولية، تبقى مجرد كلمات فارغة لا قيمة لها، مهما كان رنينها جميلاً.
لقد أضحى من الواجب اليوم إعادة التفكير في الوظيفة الاجتماعية للّغة وبلاغتها، وأن تتوقف الخطابات عن معالجة أعراض الأمراض دون أسبابها الحقيقية، وأن تمتنع تمامًا عن البلاغة التي تُبهر الأسماع وتُسكِّن الجراح، بدل أن تُعالجها.
ينبغي للبلاغة أن تستعيد عافيتها، وشجاعتها الأخلاقية والمهنية والإنسانية، لا أن تظلّ في مخرجاتها اللونية والصوتية، في وقتٍ يُهان فيه الإنسان باسم القيم، وتَبرُز فيه السلطة باسم الله.
لا يكفي أن نقول كلامًا جميلاً، بل لا بد أن نقول كلامًا مسؤولًا، يفضح الزيف، ويوقظ الوعي، ويُمهّد للتغيير... لا أن يسكن في أفياء اللغة وبهرجها اللفظي، بل أن يتخطاها نحو صُنع الحياة.



#كريم_الوائلي (هاشتاغ)       Karim_Alwaili#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كراهية الآخر الغربي
- اللفظ والمعنى في صحيفة بشر بن المعتمر
- قراءة في تحديث المناهج التعليمية في العراق
- الملامح التدميرية في معلقة امريء القيس
- الدراسات النقدية الحديثة في مجلة المجمع العلمي العراقي
- توظيف الشخصية التراثية عند مظفر النواب
- فناء في سجون الغربة قراءة نقدية في قصيدة للشاعر جودت القزوين ...
- إعداد المعلم بين تحديث المناهج وقصور التدريب
- بيان الثقافة العراقية
- مآزق هيكلية الاشراف التربوي الاشراف التربوي في العراق في الع ...
- الاشراف التربوي في العهد الملكي على ضوء لجنة العشر سنوات
- مكانة المشرف التربوي في العراق على ضوء تقرير لجنة الكشف الته ...
- مهام وواجبات المشرف التربوي في العراق في العهد الملكي
- الاشراف التربوي في العراق في العهد الملكي مرحلة تأسيس الحكوم ...
- دور همفري بومان في تحديد مهام الاشراف التربوي في العراق من 1 ...
- الاشراف التربوي في العراق ابان الاحتلال البريطاني
- خصائص ومزايا منهج الدراسة الابتدائية في العراق عام 1919 .
- منهج الدراسة الابتدائية في العراق عام 1919 .
- دور همفري بومان في التعليم الابتدائي ومناهجه في العراق من 19 ...
- التعليم الابتدائي ومناهجه في العراق منذ احتلال بغداد 1917م ح ...


المزيد.....




- رحلات قصيرة وتلوث كبير.. مشكلة الطائرات الخاصة
- خلاف بين جارين ينتهي بمقتل شخصين وحريق ضخم بمنزل أحدهما.. إل ...
- مسارات الرحلات الجوية الأكثر اضطراباً بالعالم في العام 2024 ...
- حماس والجهاد الإسلامي تردان على نتنياهو وخطة غزة ومسؤولية ال ...
- -هذا بالضبط ما أرادته حماس-.. المعارضة الإسرائيلية تنتقد قرا ...
- اليابان: أمطار غزيرة تجتاح كيوشو وتُجبر 360 ألفًا على إجلاء ...
- رغم نقص الطيارين وارتفاع التكلفة.. مراجعة دفاعية كندية تُبرر ...
- غزة: جموع جائعة تتزاحم للحصول على وجبات طعام من مطبخ خيري في ...
- -ارتكبتَ جريمة قتل وأتيت للترفيه-.. ملصقات ضد سياح إسرائيل ب ...
- عاجل | حماس: قرار احتلال غزة يؤكد أن المجرم نتنياهو وحكومته ...


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - كريم الوائلي - البلاغة الفارغة من التهويم الخطابي الى التغير الاجتماعي