أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد بسام العمري - -الانطفاء الأخير-














المزيد.....

-الانطفاء الأخير-


محمد بسام العمري

الحوار المتمدن-العدد: 8469 - 2025 / 9 / 18 - 10:17
المحور: الادب والفن
    


«وأُذيبُ روحي في رؤاكِ فتنطفي…»
– محمود درويش
لم يبدأ الأمر معها…
النار كانت فيه منذ أن كان طفلًا لا يتجاوز السابعة، حين كان بيتهم يشبه مسرحًا دائمًا للخصام. أصوات والديه تتناوب على تمزيق الصمت، وأحيانًا تمزقه فيه هو، بكلمة أو نظرة أو صفعة. لم يكن يعرف آنذاك ماذا يعني أن يحبّك أحد دون أن يجرحك.
في الليالي الباردة، كان يختبئ في الخزانة الخشبية، يضم ركبتيه إلى صدره ويغلق عينيه بقوة، يتخيل أن الجدران حوله تنكمش حتى تحمله بعيدًا عن كل شيء. كانت الخزانة مأواه، لكنها أيضًا موقده؛ مكانًا صغيرًا يحتضن النار ولا يطفئها.
كبر وهو يحمل تلك الخزانة داخله: مساحة ضيقة، خانقة، لكنها وحدها التي يعرفها.
ذلك اليوم الماطر كان عاديًا لولا المقهى عند زاوية الشارع العتيق. المطر ينقر الزجاج نقرًا متسارعًا، وكأن السماء تريد إغراق المدينة.
كانت تجلس قرب النافذة، تحتمي بفنجان قهوة لم تمسّه. شعرها ينسدل على كتفيها، وعيناها معلقتان بشيء بعيد خلف الضباب. في ملامحها صمت يشبه صمت البحر قبل أن يبتلع السفينة.
اقترب وسأل بصوتٍ خافت:
– هل هذا المقعد شاغر؟
أشارت برأسها دون أن ترفع عينيها.
جلس، وبدأ يراقب انعكاس المطر على وجهها. وفجأة شعر أن النار في صدره بدأت تهدأ، كأنها وجدت ما كانت تبحث عنه طويلاً. لم يكن انجذابًا، بل كان شيئًا آخر… لمسة ماء بارد على جمر يتألم.
"كيف يمكن لعيني إنسانة أن تحيل الدخان إلى سكون؟ وإن نظرت أكثر… هل أختفي؟"
أصبحت لقاءاتهما تتكرر بلا موعد. أحيانًا يجلسان طويلًا دون كلمة. هو يراقبها بصمت، وهي تغرق في شرودٍ لا ينكسر.
مرة قال:
– قربك يطفئني.
رفعت رأسها، نظرت إليه طويلًا وكأنها تحاول فهم أي نار يقصد.
– تطفئك؟ أليس الحب إشعالًا؟
ابتسم بمرارة:
– لم أطلب حبك. ربما لا أريد أن أعيش أكثر… أريد فقط أن أذوب.
لم ترد. لكنها في المرة التالية جلست أبعد قليلًا، وكأنها تحاول ترك مسافة آمنة.
في الليل، جاءت إليه على هيئة حلم.
يرى نفسه يسير على شاطئ بلا نهاية، البحر أسود، والقمر يلمع ببرود الموتى. كل خطوة يمشيها تمحو جزءًا منه: يده، كتفه، صدره… حتى يصل إليها مجرد ظل، فتفتح ذراعيها، ويذوب فيها تمامًا.
استيقظ خفيفًا، وكأن الحلم أخذ معه شيئًا لن يعود.
"هل يمكن للإنسان أن يموت وهو حي؟ أظنني أفعل ذلك الآن، قطعةً قطعة. أنتِ لستِ امرأة… أنتِ باب، ومن ورائك العدم."
في أحد لقاءاتهما، جلسا على مقعد حجري في حديقة مهجورة. أوراق الشجر اليابسة تتفتت تحت أقدام الريح.
قال لها:
– هل تؤمنين بالفناء في الآخر؟ أن تذوب الروح حتى لا تعود تملك اسمها؟
أجابت وهي تحدق في الغروب:
– لا أبحث عن فناء أحد.
– وأنا لا أبحث عن بقاء.
في حلم آخر، كانت تدير ظهرها له. يركض نحوها، لكن الأرض تحته تتحول إلى رماد يبتلعه. يصل أخيرًا ليلمس كتفها، فتلتفت، لكنها بلا ملامح. وجهها مرآة تعكس صورته وهو يتلاشى.
بدأت ملامحه تتغير. عيناه غائرتان، بشرته شاحبة، وصوته صار أبطأ. زملاؤه لاحظوا الشرود، لكنه كان يبتسم وكأن لا شيء يحدث. لم يكن يريد إنقاذ نفسه.
في يوم ما، سألها:
– هل تظنين أن من يختفي يمكن أن يعود كما كان؟
– لا أحد يعود كما كان.
– إذن، دعيني أختفي.
ليلة مطيرة أخرى. الشاطئ ذاته. البحر ذاته.
يقترب منها، يشعر بقدميه تذوبان في الرمل، بجسده يتلاشى مع كل خطوة. وحين يصل، لا تفتح ذراعيها. تقف ثابتة، تنظر إليه حتى يختفي أمامها تمامًا، تاركًا فقط صدى خطوات ابتلعتها الأمواج.
استيقظ وهو يبتسم. شعر أن الحلم اكتمل… ولأنه لم يعد هناك ما يستيقظ من أجله.
حين وجدوه في غرفته صباح اليوم التالي، كانت على الطاولة قصاصة ورق، مكتوب فيها بخط مرتجف:
"لم يكن حبًا… كان موتًا يشبه العناق."



#محمد_بسام_العمري (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المقامة الفاسدة
- الأدب الياباني: مرايا الروح بين البساطة والعمق
- التي جعلت إبليس يعيد التفكير في كل شيء
- صراع وصفقات وضياع شعب
- «سكن الليل وفي ثوب السكون تختبئ الأحلام» – جبران خليل جبران
- نقد النقد: المفهوم والتطبيق في ضوء المقاربات الأدبية – قراءة ...
- تانكا من نبض القلب
- -الأبدية في رسائل لم تُرسل- -حين تلتف الكلمات حول عنق الذاكر ...
- في رمزية الهايكو وتجلياتها
- -حين عبرت عائدة، ابتسمت دمشق-
- حين ابتسمت الخلايا… وابتدأتُ أنا
- تأملات فلسفية ونفسية في مشوار العمر والشيب-
- الزواج: ميثاق المحبة والسكينة بين الروح والجسد
- الأكسجين والغباء في منظور إنساني وفلسفي -
- طهي الثوم والبصل: مخاطر الحرارة العالية وحلول صحية
- وكان صوتًا… لا يُشبه الأصوات
- مزامير الفصول
- من ثدي واحد: مسرح الأدوار وتواطؤ الغايات
- الألم كجمالية وجودية: دراسة فلسفية وفكرية واجتماعية
- تأملات في فلسفة الحديث مع النفس


المزيد.....




- مصر.. إصابة الفنان أحمد سعد في ظهرة ومنطقة الفقرات بحادث سير ...
- أول تعليق لترامب على اعتذار BBC بشأن تعديل خطابه في الفيلم ا ...
- من الوحش إلى البطل.. كيف غير فيلم -المفترس: الأراضي القاحلة- ...
- من الوحش إلى البطل.. كيف غير فيلم -المفترس: الأراضي القاحلة- ...
- لقاء خاص مع الممثل المصري حسين فهمي مدير مهرجان القاهرة السي ...
- الممثل جيمس فان دير بيك يعرض مقتنياته بمزاد علني لتغطية تكال ...
- ميرا ناير.. مرشحة الأوسكار ووالدة أول عمدة مسلم في نيويورك
- لا خلاص للبنان الا بدولة وثقافة موحدة قائمة على المواطنة
- مهرجان الفيلم الدولي بمراكش يكشف عن قائمة السينمائيين المشار ...
- جائزة الغونكور الفرنسية: كيف تصنع عشرة يوروهات مجدا أدبيا وم ...


المزيد.....

- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش
- مشروع مسرحيات مونودراما للسيد حافظ. اكسبريو.الخادمة والعجوز. ... / السيد حافظ
- إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- بيبي أمّ الجواريب الطويلة / استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
- قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي / كارين بوي
- ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا / د. خالد زغريت
- الممالك السبع / محمد عبد المرضي منصور


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد بسام العمري - -الانطفاء الأخير-