أحمد كامل ناصر
الحوار المتمدن-العدد: 8465 - 2025 / 9 / 14 - 13:28
المحور:
الادب والفن
الأدباء بين التهميش والانتشار يشكل أحد المواضيع الأكثر تعقيدًا وأهميّة في الدراسات الأدبيّة والنقديّة، إذ يعكس هذا الموضوع تفاعلات متعددة بين النصّ الأدبيّ والوسط الثقافيّ الذي ينتمي إليه الأديب، إضافة إلى العوامل الاجتماعيّة والسياسيّة والإعلاميّة التي تحدّد مدى ظهوره أو بقائه في الظلّ. فبينما يحظى بعض الأدباء بالشهرة والانتشار الواسع ليصبحوا رموزًا بارزة في الوعي الثقافيّ العربيّ، يظلّ آخرون مهمشين رغم جودة إنتاجهم الأدبيّ وقيمته الفنيّة، ما يطرح تساؤلات جوهريّة حول طبيعة الاعتراف الأدبيّ، ومعايير الشهرة، وطرق وصول النصوص إلى الجمهور. يشير الكاتب الجزائري مصطفى ابن علال (ابن علال، 2022، ص 25) إلى أنّ التهميش الأدبيّ في السياق العربيّ غالبًا ما ينشأ نتيجة شبكة معقدة من العوامل، منها الانتماء الطبقيّ والجغرافيّ، الخلفيّة التعليميّة، والانتماءات السياسيّة، إضافة إلى مدى توافق النصوص مع القيم والمعايير التي تفرضها السلطة الثقافيّة، وهي العوامل التي تحدد مسار الأديب بين الظلّ والنور.
تتعدد النظريات التي تناولت هذه الظاهرة، ويعدّ مفهوم "الحقل الأدبي" لبورديو من أهم الإسهامات النظريّة في هذا السياق. فالحقل الأدبي، وفقًا لبورديو (Bourdieu, 1993, p. 72)، ليس مجرد مساحة إنتاج نصوص، بل شبكة معقدة من العلاقات الاجتماعيّة والقيم الرمزيّة التي تحدّد مكانة الأديب ومقدار الاعتراف الذي يناله. الأديب الذي يمتلك رأس مال ثقافي قويًا، سواء من حيث التعليم، السمعة السابقة، أو الدعم المؤسساتي، يكون أكثر قدرة على النفاذ إلى الوسط الأدبي وتحقيق الانتشار، بينما يظل من يفتقر إلى هذا الرصيد في الظل، بغض النظر عن جودة إنتاجه الفنيّ. في السياق العربيّ، يؤكد الناقد القلسطيني حسن خضر (خضر، 2015، ص 44) أنّ التهميش الأدبيّ غالبًا ما ينشأ من غياب الدعم النقديّ والإعلامي، مما يحرم بعض الأصوات من الوصول إلى جمهور واسع ويجعل الشهرة مرتبطة بآليات معقدة تتجاوز الموهبة الفرديّة.
يمكن فهم هذه الظاهرة من خلال مقارنة أدباء ظهروا بسرعة مع آخرين ظلوا في الظل، رغم تمتعهم جميعًا بقدرات أدبيّة عالية. فالشاعر السوريّ نزار قباني، على سبيل المثال، استطاع أن يصل إلى جمهور واسع في فترة زمنيّة قصيرة بفضل بساطة لغته وقربه من وجدان الجمهور العربيّ، إضافة إلى استغلاله للقنوات الإعلاميّة المتاحة آنذاك. بالمقابل، ظل محمد الماغوط شاعرًا وسينمائيًا مهمشًا إلى حدّ كبير، إذ كان صوته ساخرًا وناقدًا للسلطة، مما جعله خارج الدوائر المهيمنة ثقافيًا في كثير من الفترات (ابن علال، 2022، ص 30). هذه المقارنة تؤكد أنّ الشهرة الأدبيّة ليست مرادفًا مباشرًا للموهبة، بل تعتمد على تفاعل مجموعة من العوامل تشمل التوقيت التاريخيّ، الحساسية الموضوعيّة، والعلاقات الاجتماعيّة داخل الوسط الثقافيّ.
يعدّ الدور المؤسساتيّ من العوامل الأساسيّة التي تؤثّر في بروز الأديب أو بقائه مهمشًا، ويشمل ذلك دور النشر والمجلات الأدبيّة والجوائز الأدبيّة. إذ يمكن أن يؤدي الدعم المؤسساتيّ إلى تعزيز حضور الأديب وتسليط الضوء على أعماله، كما هو الحال مع محمود درويش الذي ساهمت الترجمة إلى لغات أخرى والجوائز الأدبيّة الدوليّة في تعزيز مكانته وانتشاره الواسع (بولس، 2018، ص 18). في المقابل، يظل الأديب الذي لا يحظى بهذه التغطيّة مهمشًا، حتى لو كانت كتاباته ذات قيمة عالية، كما يظهر في حالة الكاتبة العراقيّة عالية ممدوح التي عرفت بجرأتها في تناول موضوعات حساسة لكنها لم تصل إلى شهرة مماثلة بسبب القيود الاجتماعيّة والإعلاميّة المحدودة (خضر، 2015، ص 52). إنّ هذه الأمثلة توضح أنّ الدعم المؤسسيّ والمجتمعيّ يمثلان أدوات حاسمة في تحديد مسار الأديب بين الظلّ والنور.
يلعب الجمهور أيضًا دورًا محوريًا في صناعة الشهرة الأدبيّة، إذ يمكن أن يؤدي اهتمام الجماهير بالموضوعات التي يتناولها الأديب إلى دفع أعماله نحو دائرة الضوء. يرتبط ذلك بمدى قرب نصوص الأديب من الواقع الاجتماعيّ والثقافيّ، فالأديب الذي يعكس هموم الجماهير اليوميّة غالبًا ما يحظى بانتشار أوسع مقارنة بمن يكتب نصوصًا رمزيّة أو تجريبيّة بعيدة عن الحسّ الجماهيريّ (ابن علال، 2022، ص 27). ويظهر ذلك جليًا في أعمال شعراء تناولوا موضوعات الحبّ والوطنيّة والهويّة الاجتماعيّة، مقارنة بكتاب آخرين ركزوا على نصوص فلسفيّة أو رمزيّة، فالجمهور العربيّ، كما يشير التنويريّ (التنويري، 2018، ص 12)، يميل إلى النصوص التي تعكس حياته اليوميّة وهمومه.
لا يمكن إغفال تأثير الإعلام الحديث ووسائل التواصل الاجتماعيّ، الذي أصبح عنصرًا أساسيًا في صناعة الشهرة الأدبيّة في العصر الرقميّ. فقد أتاح الإعلام الرقميّ فرصًا أكبر لنشر الأعمال والوصول إلى جمهور واسع، ما قلل من سلطة الوسط التقليديّ في فرض معايير معينة للشهرة الأدبيّة. ومع ذلك، يظلّ بعض الأدباء مغمورين إذا لم يمتلكوا القدرة على الترويج الذاتي لأعمالهم أو المشاركة في النقاشات الأدبيّة الإلكترونيّة، وهو ما يظهر في حالة العديد من الشعراء والكتاب الشباب الذين يمتلكون موهبة كبيرة لكنهم يفتقرون إلى منصة مناسبة للترويج لأعمالهم (التنويري، 2018، ص 14). هذه الظاهرة تؤكد أنّ الشهرة الأدبيّة أصبحت اليوم تعتمد على قدرة الأديب على التفاعل مع البيئة الرقميّة بالإضافة إلى جودة نصوصه.
إنّ العوامل الشخصيّة والاقتصاديّة تعدّ أيضًا جزءًا من المعادلة. فالأديب الذي يملك الموارد الماليّة أو وقتًا مخصصًا للكتابة قادر على تطوير إنتاجه وتقديمه للوسط الثقافيّ بشكل مستمر، بينما يظلّ من يكتب في أوقات فراغه أو تحت ضغوط اقتصاديّة مهمشًا جزئيًا، لأنّ الإنتاج الأدبيّ المنتظم والمستمر عامل حاسم في البروز والانتشار (ابن علال، 2022، ص 33). إضافة إلى ذلك، فإنّ مهارات التواصل والتفاعل مع النقاد والقراء، والمشاركة في الفعاليات الأدبيّة، تزيد من فرص ظهور الأديب في النور، مما يدلّ على أنّ الشهرة الأدبيّة ليست مرتبطة بالموهبة وحدها بل بشبكة علاقات اجتماعيّة وثقافيّة معقدة.
الأدباء العرب الذين حظوا بالانتشار غالبًا ما توافرت لديهم هذه العوامل مجتمعة: مثال محمود درويش الذي جمع بين جودة النصّ، الاهتمام بالقضيّة الوطنيّة، الترجمة العالميّة، والدعم المؤسساتيّ، فحقق حضورًا واسعًا على المستويين العربيّ والدوليّ. بالمقابل، هناك أدباء مثل محمد الماغوط وعالية ممدوح الذين امتلكوا موهبة عالية لكن بعض العوامل المساعدة كانت محدودة، ما أدى إلى بقائهم مهمشين نسبيًا. يشير ابن علال (إبن علال، 2022، ص 31) إلى أنّ الفارق بين الأديب الذي يسطع والأديب الذي يظلّ في الظلّ يكمن غالبًا في التوازن بين القدرة الفنيّة والدعم المؤسساتيّ والتفاعل مع الجمهور والوسائل الإعلاميّة.
إنّ التهميش الأدبي لا يعني بالضرورة ضعف القيمة الفنيّة للنصوص، بل يعكس عوامل خارجيّة عديدة. فالحقل الأدبيّ، كما يرى بورديو (Bourdieu, 1993, p. 79)، يتضمن صراعًا دائمًا بين القوى الساعيّة للهيمنة الثقافيّة وبين الأصوات المعارضة أو المستقلة، ما يؤدي إلى إبراز بعض الأدباء وحجب آخرين. ومن هذا المنطلق، يمكن اعتبار الظلّ الذي يعيش فيه بعض الأدباء ليس نتيجة لقلة موهبتهم، بل نتيجة لغياب عوامل داعمة تعزز من حضورهم. كما أنّ الانتشار الأدبيّ ليس مضمونًا دائمًا، فهو يتطلب استمرارًا في الإنتاج، التفاعل مع الوسط الثقافيّ، واستجابة الجمهور، بما يعكس الديناميكيّة المتغيرة للحقل الأدبيّ.
في ضوء هذا التحليل، يتضح أنّ الانتشار الأدبيّ والتهميش ليسا مسألة فرديّة فقط، بل هما نتيجة لتفاعل مركب بين العوامل الاجتماعيّة، الثقافيّة، الإعلاميّة، والاقتصاديّة. إنّ فهم هذه العوامل يوفر أدوات نقديّة مهمة لدراسة الظاهرة الأدبيّة في السياق العربيّ، ويساعد على إدراك التحديات التي تواجه الأدباء الذين يمتلكون قيمة أدبيّة حقيقيّة، ولكنهم يظلون مهمشين. ويصبح من الضروري للباحثين والممارسين في المجال الأدبيّ التفكير في سبل دعم الأصوات الجديدة، سواء عبر تعزيز آليات التوزيع والنشر، أو توفير بيئة نقديّة واعية، أو تشجيع القراء على الاهتمام بالنصوص ذات الجودة العاليّة، بما يسهم في تقليص فجوة التهميش ومنح الفرصة للأدباء الموهوبين للوصول إلى جمهور أوسع.
ثبت بالمراجع:
1. ابن علال، عادل. (2022). الأدباء بين الاحتفاء والتهميش: مقاربة سوسيولوجية لعوامل النجاح والفشل في الأدب العربي. مجلة الدراسات الأدبية، 12(3)، 25-35.
2. خضر، حسن. (2015). السلطة الثقافية والتهميش الأدبي. القاهرة: دار الفكر العربي، 44-52.
3. بولس، حبيب. (2018). الشهرة والأهمية في الأدب العربي. عمان: دار النهضة، ص 18.
4. التنويري. (2018). شهرة الأديب وحجبها لرداءة أدبه. التنويري نت، 12-15.
5. Bourdieu, P. (1993). The Field of Cultural Production. New York: Columbia University Press, pp. 72-79.
6. ابن علال، مصطفى. (2022). العوامل المؤثرة في نجاح الأدب العربي. مجلة الدراسات النقدية، 8(2)، 27-33.
#أحمد_كامل_ناصر (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟