عماد حسب الرسول الطيب
(Imad H. El Tayeb)
الحوار المتمدن-العدد: 8463 - 2025 / 9 / 12 - 02:52
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تعيش الثورة السودانية لحظة تاريخية حاسمة، يقف فيها مستقبل البلاد على مفترق طرق بين استمرار نظام الاستغلال والتبعية أو التحول نحو بناء سلطة شعبية حقيقية. غير أن هذه المعركة المصيرية تواجه تحدياً جوهرياً يتمثل في غياب الحزب الثوري ذي القيادة العمالية من ناحية، وبروز قوى برجوازية تحاول احتواء الثورة وتحويل مسارها لصالحها من ناحية أخرى.
إن غياب الحزب الثوري الذي يجسد المصالح الطبقية للعمال والكادحين يترك فراغاً تنظيمياً وأيديولوجياً خطيراً. فبدون قيادة طبقية واضحة، تظل الثورة عرضة للانحراف والتيه، وتفقد بوصلتها الاستراتيجية. الحزب الثوري ليس بديلاً عن المجالس الطبقية، بل هو أداة ضرورية لتوحيد نضالاتها وتعميق وعيها الطبقي وحمايتها من مخاطر الانحراف والاحتواء. إنه القادر على صياغة البرنامج الثوري المتكامل الذي يربط بين المطالب اليومية والهدف الاستراتيجي، ويوفر الإطار النظري والتنظيمي اللازم لقيادة المعركة حتى النهاية.
في المقابل، نشهد بروز قوى برجوازية تحاول قيادة الثورة نحو مسارات إصلاحية تخدم مصالحها الطبقية. هذه القوى، رغم خطابها الثوري أحياناً، تسعى في العمق إلى إجراء إصلاحات محدودة تحافظ على جوهر النظام الرأسمالي مع إجراء بعض التعديلات الشكلية. إنها تروج لخيارات وسطية ومساومات تهدف إلى امتصاص غضب الجماهير دون المساس بمراكز القوى الاقتصادية الحقيقية. خطورتها تكمن في قدرتها على خداع الجماهير بشعارات براقة تفتقد المضمون الطبقي الحقيقي.
إن الإصلاحات الجزئية التي تروج لها هذه القوى البرجوازية ليست سوى محاولات يائسة لإعادة تدوير الأزمة وإطالة عمر النظام البائد. أما الطريق الوحيد للتغيير الحقيقي فيمر عبر ثورة اجتماعية شاملة تنزع السلطة من أيدي الطبقات الطفيلية وتحولها إلى أداة لخدمة الجماهير الكادحة، تحت قيادة حزب ثوري يجسد مصالح الطبقة العاملة وحلفائها.
تحويل الطاقة الثورية الهائلة التي أظهرها الشعب السوداني إلى قوة تاريخية فاعلة يتطلب أكثر من مجرد توحيد النضالات المتفرقة. إنه يستلزم بناء قيادة ثورية قادرة على توحيد هذه النضالات في مشروع طبقي واضح، ومواجهة محاولات الاحتواء البرجوازي. فإضرابات العمال في المصانع والموانئ، واحتجاجات الطلاب في الجامعات، ونضال الفلاحين من أجل الأرض، وكفاح النساء ضد القمع المزدوج، كلها تشكل روافد أساسية للنهر الثوري. لكن قيمتها الحقيقية تكمن في قدرتها على الانصهار في بوتقة مشروع طبقي موحد يقوده حزب ثوري واضح المعالم.
المطالب الجزئية ليست خطأ في ذاتها، بل تمثل مدخلاً طبيعياً لوعي الجماهير بحقيقة استغلالها. لكنها تتحول إلى فخ عندما تفصل عن المشروع الثوري الشامل، أو عندما تتحول إلى أدوات في يد القوى البرجوازية لامتصاص غضب الجماهير. فالنظام وقواه البرجوازية قادران على امتصاص هذه المطالب بشكل انتقائي ومؤقت، بينما يظل جوهر علاقات الاستغلال قائماً. لذلك يجب رفع هذه المطالب إلى مستوى سياسي أعلى، عبر ربط مطالب الخبز والدواء والكهرباء بمطلب إسقاط النظام الرأسمالي الطفيلي وتأميم الموارد الطبيعية ووسائل الإنتاج لصالح الجماهير، تحت قيادة حزب ثوري يعبر عن مصالحها الطبقية الحقيقية.
وباتضاح حدود هذه المطالب، يصبح الانتقال إلى المواجهة الحاسمة ضرورة تاريخية. فالمعركة لا تُحسم بالتراكم العفوي وحده، بل بأداة ثورية قادرة على قيادة النضال حتى نهايته. ويعني ذلك الانتقال من الإضرابات الجزئية إلى الإضراب السياسي العام، ومن الاحتجاجات المطلبية إلى العصيان المدني الشامل، ومن الدفاع عن المكاسب إلى الهجوم لانتزاع السلطة. وهذا يتطلب ليس فقط بناء مقاومة عمالية وشعبية قادرة على حماية الجماهير وكسر آلة القمع، وتطوير اقتصاد مواز تحت سيطرة المجالس الطبقية لمواجهة حصار النظام الاقتصادي، بل أيضاً بناء الحزب الثوري الذي يقود هذه العملية برمتها.
لكن الثورة لا تقاس فقط بما تسقطه من أنظمة، بل بما تبنيه من بدائل. فالمجالس الشعبية التي تنبثق من مواقع العمل والأحياء والريف تمثل النموذج الأرقى للسلطة الشعبية المباشرة. وهي القادرة على تأميم المصانع الكبرى وتطبيق إصلاح زراعي جذري يعيد الأرض للفلاحين، وتطبيق تخطيط ديمقراطي يرتكز على تلبية حاجات الجماهير الأساسية. لكن هذه المجالس تحتاج إلى قيادة سياسية توحد نضالاتها وتحميها من مخاطر الانحراف والاحتواء. كما يجب أن تقوم السلطة الجديدة على مساواة كاملة للمرأة وإنهاء كافة أشكال التهميش القومي والمناطقي، وضمان التعليم والصحة والسكن كحقوق أساسية للجميع، تحت قيادة حزب ثوري يجسد هذا البرنامج.
غير أن خطر الانتكاس يظل قائماً ما لم توضع الضمانات الكافية لاستمرارية الثورة وتعميقها. فالضمان التنظيمي يتمثل ليس فقط في بناء المجالس الطبقية، بل أيضاً في بناء الحزب الثوري القادر على منع ظهور بيروقراطية جديدة وحماية الثورة من مخاطر الانحراف. والضمان البرنامجي يكمن في الربط العضوي بين التحول السياسي والاقتصادي والاجتماعي تحت قيادة طبقية واضحة، بينما الضمان الثقافي يقوم على ثورة فكرية تطيح بالرؤى الرجعية وتبني وعياً اشتراكياً بين الجماهير.
إن انتصار الثورة السودانية ليس مصيراً محتوماً، بل هو إمكانية واقعية تتوقف على قدرة الجماهير وقواها الثورية على تجاوز قيود العفوية وبناء الأدوات التنظيمية والأيديولوجية اللازمة لقيادة المعركة. فطريق الإصلاحات الجزئية الذي تروج له القوى البرجوازية لا يؤدي إلا إلى مزيد من الإحباط والتبعية، بينما يشكل النضال الثوري الشامل تحت قيادة حزب ثوري واضح السبيل الوحيد لتحقيق التحرر الحقيقي. ولن يُبنى السودان الجديد إلا بأيدي أبنائه وبناته، عبر معركة مباشرة ضد السلطة والطبقات المستغلة، بقيادة طبقية تجسد مصالح الكادحين وتحول أحلامهم في الحرية والعدالة إلى واقع ملموس.
كما قالت المناضلة الاشتراكية روزا لوكسمبورغ: "الاختيار هو بين الاشتراكية أو الهمجية". فإما انتصار الثورة وبناء مجتمع العدالة والحرية تحت قيادة طبقية ثورية، أو الاستمرار في دوامة الاستغلال والتبعية بقيادة برجوازية مزيفة.
-------------------------
بذا تنتهي هذه السلسلة، غير أن المعركة الحقيقية لم تبدأ بعد. فما ورد هنا ليس سوى البذور الأولى لفكر ثوري يحتاج إلى أرض الواقع كي ينمو ويثمر. لقد قدّمنا تشخيصاً وتحليلاً وخطة، لكن الكلمة الأخيرة ستظل للجماهير التي تصنع التاريخ بيديها.
إن الأفكار لا تتحول إلى قوة مادية إلا حين تتبناها الجماهير. والمجالس الشعبية التي طرحناها لن تولد من النصوص، بل من قلب المعاناة اليومية للعمال والفلاحين والفقراء، من إضرابات المصانع، من مقاومة الأحياء، من نضال الفلاحين من أجل الأرض، ومن كفاح النساء ضد القمع والاستغلال.
إن بناء سلطة شعبية حقيقية ليس تمريناً نظرياً، بل معركة تتطلب إرادة صلبة وتنظيماً دقيقاً وتضحيات لا تعرف الانكسار. إنها مواجهة مع نظام متجذر في القمع والنهب، ومع قوى إقليمية ودولية تسعى لإبقاء السودان أسيراً للتبعية.
لكن التاريخ يثبت أن المستحيل يسقط حين تنهض الجماهير موحدة حول هدف واضح. لقد رأينا شعوباً تهزم أعتى الأنظمة، وتكسر آلات القمع الحديدية بإرادتها الجماعية. والسودان لن يكون استثناءً؛ فإما المجالس الطبقية، وإما عودة الاستغلال بأبشع صوره.
لقد أثبتت المسيرة الثورية السودانية أن الغضب العفوي وحده، رغم قوته وقدرته على هز عروش الطغاة، لا يكفي لتحقيق النصر النهائي. الدرس الأكبر هو أن الثورة تحتاج إلى أكثر من الحشود الغاضبة؛ تحتاج إلى وعي طبقي واضح، وأدوات تنظيمية دائمة، واستراتيجية متكاملة تربط بين المطالب اليومية والهدف الاستراتيجي.
تعلمنا أن النظام القديم لا يهزم بالشعارات وحدها، بل بأدوات ثورية قادرة على مواجهة آلة القمع الاقتصادية والعسكرية. تعلمنا أن البرجوازية، حتى عندما ترفع شعارات ثورية، تبقى عاجزة عن قيادة التغيير الجذري لأن مصلحتها تقتضي الحفاظ على جوهر النظام القائم.
الأهم من ذلك، اكتشفنا أن قوة الجماهير الحقيقية تكمن في قدرتها على البناء الذاتي: في المجالس الطبقية التي تدير شؤونها، في الإضرابات التي تشل اقتصاد النظام، في الاقتصاد الموازي الذي يكسر الحصار، وفي المقاومة الشعبية التي تحمي المكاسب.
غير ان أهم درس هو أن الثورة تحتاج إلى قيادة ثورية واضحة تجسد مصالح الطبقات الكادحة، وتوحد النضالات المتفرقة، وتحمي المسيرة من مخاطر الانحراف والاحتواء. النصر لا يأتي بالمصادفة، بل يتحقق بالتخطيط الاستراتيجي والتنظيم الدقيق والإرادة الثورية التي لا تلين.
غدا سلسلة جديدة.
النضال مستمر،،
#عماد_حسب_الرسول_الطيب (هاشتاغ)
Imad_H._El_Tayeb#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟