محيي الدين ابراهيم
الحوار المتمدن-العدد: 8459 - 2025 / 9 / 8 - 23:44
المحور:
الادب والفن
١ ـ مدخل: السيرة الذاتية كما كتبها نجيب كطريق صوفي
لم يكتب نجيب محفوظ سيرته الذاتية كمجرد سردٍ للوقائع، بل كتبها كرحلة وجودية تحمل في طياتها أسرار النفس والزمن. ففيها لا نقرأ حياة فرد فحسب، بل نقرأ نصًّا مفتوحًا على الروح المصرية، نصًا يُعيد تشكيل العلاقة بين الفرد والجماعة، بين الماضي والحاضر، بين القدر والحرية. واللافت أن هذه السيرة، برغم واقعيتها وتوثيقها، تنفتح دومًا على أفق صوفي عميق: فكل محطة فيها تبدو وكأنها مقام من مقامات السالكين، وكل منعطف يشفّ عن معنى يتجاوز الظاهر إلى الباطن.
إنها ليست حياة أديب عادي، بل حياة من كتب كي يحرّر النص العربي من أسر التقريرية، وينقله إلى فضاء الرمزية الفلسفية. محفوظ في ذاته أشبه بوليٍّ أدبي، تجرّع من معين التجربة الشعبية ثم صاغها بلغة تتصل بالوجود الإنساني بأسره.
٢ ـ الحارة: من المكان إلى الكون
لا يمكن قراءة محفوظ دون فهم مركزية الحارة. الحارة ليست مجرد فضاء اجتماعي ضيق، بل هي كيان كوني يختصر العالم. فيها يولد الإنسان، ويتعلم لغة الجماعة، ويواجه الفتوة، ويصغي إلى المجذوب، ويختبر حدود السلطة والحرية.
في الحارة تلتقي الأصوات كلها: المآذن، الباعة، المظاهرات، الأذكار، الأغاني. هي صورة مصغرة للعالم، لكنها أيضًا صورة رمزية للقدر. لم يكن غريبًا أن تتحول الحارة عند محفوظ إلى مسرح الوجود: منها خرجت ثلاثيته العظيمة، وفيها صاغ "زقاق المدق"، ومن رحمها وُلدت "الحرافيش".
والحارة هنا تتجاوز الواقعية إلى البعد الصوفي: فهي أشبه بخلوة واسعة يدخلها القارئ ليرى انعكاسات نفسه. ما يحدث في الزقاق أو الميدان ليس شأنًا اجتماعيًا فقط، بل هو إشعار بأن الوجود نفسه يتحرك في دوائر ضيقة، وأن كل إنسان محكومٌ بمكان يولد فيه، ثم يسعى طوال حياته ليتحرر منه أو ليعود إليه.
٣ ـ الأم: ذاكرة الروح
الأم عند محفوظ لم تكن مجرد امرأة أمية، بل ذاكرة سرية للروح الشعبية المصرية. كانت تزور مقام الحسين كما تزور دير مارجرجس، وتقول: "كلهم بركة". هذه العبارة البسيطة تلخص فلسفة التسامح العميق الذي صاغ روح محفوظ.
الأم التي لم تدخل السينما سوى مرة واحدة، ولم تعرف القراءة والكتابة، حملت في داخلها خزانًا من الحكمة الشعبية. حبها للأضرحة وللمتحف المصري، زياراتها للمومياوات والكنائس، كلها تؤشر إلى وعي متجاوز للحدود الضيقة. إنها لم ترَ التناقض بين الإسلام والمسيحية والفرعونية، بل رأت الكل في وحدة روحية عظمى. وهنا بالضبط تكمن الروح الصوفية التي طبعت حياة ابنها: القدرة على الجمع بين الأضداد، ورؤية الوحدة في التعدد.
٤ ـ الأب: الحرية على لحن المنيلاوي
أما الأب فقد منح محفوظ درسًا آخر: أن الحرية ليست شعارًا سياسيًا فقط، بل هي أسلوب حياة. كان وفديًا، عاشقًا لسعد زغلول، وفي الوقت نفسه محبًا للموسيقى القديمة: المنيلاوي وصالح عبد الحي. لم يكن مستبدًا في بيته، بل مارس الديمقراطية النادرة في ذلك العصر، حتى حين اختلف مع ابنه حول دراسة الفلسفة.
ومن هنا نفهم أن الحرية عند محفوظ لم تولد فجأة، بل رُسخت في بيته الأول: في سماع الأغاني، في حب السياسة، في الحوارات العائلية. لقد ورث عن أبيه إيمانًا بالحرية، وعن أمه عشقًا للتسامح، فصار الاثنان معًا سرًا من أسرار أدبه.
٥ ـ من الجمالية إلى العباسية: الانتقال من الأسطورة إلى الحداثة
الانتقال من حي الحسين إلى العباسية لم يكن مجرد تغيير جغرافي. كان تحولًا رمزيًا: من فضاء الأسطورة الشعبية إلى فضاء الحداثة الناشئة. في الجمالية وُلد محفوظ على وقع الأذكار والفتوات والمجاذيب، وفي العباسية دخل إلى عالم الحدائق والبيوت الحديثة والجامعة.
هذه النقلة صنعت ثنائية أساسية في أدبه: الواقعي ـ الرمزي. من هنا جاءت رواياته التي تجمع بين التفاصيل الدقيقة والرموز الفلسفية. إنه كاتب عاش على تخوم عالمين، فحمل في داخله سرّ اللقاء بين الأسطورة والعقل، بين الماضي والحداثة.
٦ ـ الفتوة والمجذوب: جدلية السلطة والجنون
من أروع ما يميز محفوظ أنه أدرك مبكرًا دور الفتوة والمجذوب في تشكيل الوعي الشعبي. الفتوة ليس مجرد شخصية عنيفة، بل هو تجسد للسلطة، للهيبة، للبطش، وللشهامة أحيانًا. أما المجذوب فهو صوت اللاعقل، نبيٌّ غامض يصرخ بكلمات مبهمة، لكنه يكشف عن معنى خفي.
هذان النموذجان تحوّلا عند محفوظ إلى رموز فلسفية: الفتوة هو السلطة التي تحكم ولا تُسأل، والمجذوب هو الحكمة التي تأتي من خارج المنطق. في الجمع بينهما يتشكل الوجود الإنساني. ولهذا رأينا "الحرافيش" كرواية كبرى عن مصير الفتوة، ورأينا شخصيات المجاذيب تتكرر كأصداء للتصوف الشعبي.
٧ ـ الفلسفة: الطريق إلى الوعي
حين قرر محفوظ دراسة الفلسفة في كلية الآداب، بدا وكأنه يسير ضد تيار العائلة والمجتمع. لكنه في الحقيقة كان يختار الطريق الذي سيصوغ مصيره الأدبي كله. الفلسفة منحته لغة الوعي النقدي، ومنحته القدرة على مساءلة كل شيء: الدين، السياسة، القدر، الحرية.
ومن هنا نفهم لماذا بدت رواياته دومًا ميتافيزيقية في جوهرها، حتى حين انطلقت من أحداث واقعية. "اللص والكلاب" ليست مجرد حكاية مجرم، بل تساؤل عن المصير والعدالة. "الطريق" ليست مجرد مغامرة فردية، بل بحث عن معنى الوجود.
٨ ـ الأدب والسياسة: بين الانتماء والمعارضة
محفوظ لم يكن كاتبًا ثوريًا بالمعنى المباشر، لكنه كان صوت الضمير العميق. أحب ثورة ١٩١٩ ورأى فيها حلم الشعب، وكتب عن يوليو ١٩٥٢ بروح متفائلة، لكنه لم يتردد في نقد النكسة وما تبعها. لم يكن يكتب خطبًا سياسية، بل كان يكتب نصوصًا مفتوحة على الوعي الجمعي.
الأدب عنده كان مساحة للحرية حين غابت الحرية في الواقع. ولذلك أثارت أعماله أزمات كبرى: "أولاد حارتنا" اتُهمت بالكفر، "ثرثرة فوق النيل" اتُهمت بالتحريض، لكن جميعها كانت شهادات على عصرٍ يتأرجح بين الطموح والانكسار.
٩ ـ "أولاد حارتنا": الرواية التي فجّرت المقدس
هذه الرواية بالذات تمثل ذروة مشروع محفوظ: أن يكتب عن المقدس بلغة الرمز، أن يحاور الله والأنبياء والإنسان من خلال شخصيات الحارة. لم يكن يقصد الإساءة إلى الدين، بل كان يبحث عن معنى العلاقة بين المطلق والمحدود. لكن المجتمع لم يحتمل هذا الكشف، فحوصرت الرواية ومنعت، حتى صارت رمزًا للجرأة الفكرية.
النقد الصوفي يكشف هنا أن محفوظ كان يسير على خطى المتصوفة الذين لم يخشوا طرح الأسئلة الكبرى: من أين جئنا؟ إلى أين نمضي؟ كيف يلتقي الإنسان بربه؟.
١٠ ـ نوبل: الاعتراف العالمي
جائزة نوبل لم تكن مجرد تكريم فردي، بل اعتراف عالمي بأن الأدب العربي دخل فضاء الكونية. لكن محفوظ نفسه تعامل معها بتواضع بالغ. لم يرها نصرًا شخصيًا، بل خطوة في مسيرة طويلة. كأن الجائزة كانت "فتحًا" رمزيًا، لا غاية نهائية.
١١ ـ محفوظ والمتصوفة: الله والإنسان
في مذكراته حديث واضح عن "الله والإنسان". لم يكن ملحدًا ولا متدينًا تقليديًا، بل كان سائرًا في الطريق الصوفي: يرى في الله سرًّا لا يُدرك، ويرى في الإنسان مخلوقًا حرًا لكنه محدود. من هنا جاءت فلسفة التوازن: ليس الإنسان إلهًا، وليس عبدًا محضًا، بل هو كائن يتأرجح بين الحرية والقدر.
هذا الموقف هو لبّ التصوف: أن تدرك عظمة المطلق وهشاشة المحدود، وأن تعيش هذا التوتر كجزء من معنى الوجود.
١٢ ـ فلسفة الوجود عند محفوظ
يمكن تلخيص فلسفته في أربع نقاط:
1. الزمن: هو المسرح الأكبر، وهو ما يجعل الحياة سلسلة من التحولات.
2. المصير: لا مفر منه، لكن الإنسان يظل يقاومه.
3. الحرية: حرية نسبية، لكنها جوهرية في إثبات الذات.
4. الإنسان: الكائن المركزي، الذي يحمل التناقضات كلها.
هذه الفلسفة ليست مجرد تنظير، بل متجسدة في شخصياته: سعيد مهران، كمال عبد الجواد، عاشور الناجي، وغيرهم.
١٣ ـ خاتمة: محفوظ كمرآة
حين نقرأ محفوظ ندرك أننا لا نقرأ سيرة رجل، بل نقرأ مرآة لمصر كلها. حياته كانت سلسلة من المقامات: الطفولة كبراءة، الشباب كطلب للعلم، النكسة كخذلان، نوبل كانتصار، والشيخوخة كصفاء. إنه أشبه بوليٍّ أدبيٍّ كتب كي ينقل إلينا معنى الوجود في صور بشرية بسيطة.
محفوظ اليوم ليس مجرد أديب، بل هو مرآة أبدية: من ينظر فيها يرى نفسه، ويرى بلاده، ويرى سرّ الوجود. وهنا بالضبط يكمن جوهره الصوفي: أن يكتب روايةً فتغدو ذكرًا، وأن يحيا حياةً فتغدو رمزًا، وأن يرحل جسدًا ويبقى روحًا في النصوص.
#محيي_الدين_ابراهيم (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟