|
كارل ماركس كسياسي: «الفرنسيون بحاجة إلى جَلدْ»
حازم كويي
الحوار المتمدن-العدد: 8456 - 2025 / 9 / 5 - 15:59
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
"الديمقراطية من أجل تنظيم العمال والسياسة الخارجية البروليتارية: ما فكر به كارل ماركس وفريدريش إنجلز وما فعلوه كسياسيين."
بيتر بيرل* ترجمة: حازم كويي
يُعرَف كارل ماركس عادةً بوصفه منظِّراً ومحللاً عميقاً للرأسمال، وناقداً للأيديولوجيا، أو فيلسوفاً إنسانياً، كما يُنظر إليه في الآونة الأخيرة بوصفه مؤسِّساً لشكل من "الشيوعية المناهضة للنمو.( والمقصود هو قراءة معاصرة لماركس تركز على العدالة الاجتماعية + الاستدامة البيئية + تجاوز وهم النمو الاقتصادي اللامحدودـ المترجم ـ ) غير أنّه نادراً ما يُتناول في الأدبيات باعتباره سياسياً. من بين الاستثناءات البارزة على ذلك، نجد مثلاً كتاب تيم غراسمان «ماركس ضد موسكو» (2024)، الذي أعاد فيه بناء تأملات ماركس حول "السياسة الخارجية للطبقة العاملة". كما يمكن الإشارة إلى كتاب روبن بلاك بيرن «ثورة غير مكتملة» (2011)، الذي تناول علاقة ماركس بالحرب الأهلية الأميركية ومراسلاته مع أبراهام لنكولن. وعلاوة على ذلك، يبدو أنّ هناك قلة اهتمام بماركس كسياسي. وهذا أمر يبعث على الدهشة، لأنّ الثنائي كارل ماركس وفريدريش إنجلز كانا دوماً نشيطين سياسياً. وقد واجها وضعاً معقداً يشبه إلى حدّ كبير ما يواجهه اليسار اليوم: كان عليهما التصدي لردّة سلطوية استبدادية، لكنّ ذلك لم يكن ممكناً إلا عبر تعاون محدود مع المدافعين الليبراليين- الديمقراطيين عن الرأسمال، الذين كانوا في الواقع الخصم الأساسي. ومع ذلك، كان هؤلاء الحلفاء المتذبذبون لا يترددون أحياناً في هدم "الجدار الواقي" الذي يفترض أن يفصل بينهم وبين القوى السلطوية. في خطابه التأبيني لماركس، لم يُشيد إنجلز بالرفيق الراحل وصديقه المقرّب بوصفه عالِماً فحسب، بل كذلك بوصفه ثوريّاً محترفاً. فقد كان الإسهام في إسقاط الرأسمالية وتحرير البروليتاريا الحديثة، كما أوضح إنجلز، هي "المهنة الحقيقية لحياته". وأشار إنجلز في هذا السياق إلى النشاط الصحفي لماركس، وإلى عمله داخل المنظمات السياسية في باريس وبروكسل ولندن، فضلاً عن دوره في جمعية العمّال الأممية (IAA)، التي وصفها بأنها كانت "تتويجاً لكل ذلك". ما ميّز ماركس وإنجلز كسياسيين هو: تحليل نقدي للواقع،هدف سياسي واضح،وواقعية في فهم موازين القوى وبناء التحالفات. أما التمسّك الجامد بالمبادئ والنزعة الأخلاقوية فكانا غريبين عنهما. ومع ذلك، ورغم أملهما في أن يشهدا بأعينهما الثورة، لم يكونا في مأمنٍ من توقّعات سياسية خاطئة عديدة. قادة شيوعيون ديمقراطيون بدأ انخراط ماركس وإنجلز السياسي ابتداءاً من عام 1847 في رابطة العادلين (Bund der Gerechten)، وهي منظمة كانت منخرطة آنذاك في نقاشات داخلية حول مواقف الاشتراكي المبكر فيلهلم فايتلينغ. فايتلينغ دعا إلى ملكية جماعية للثروات تُدار من قبل فلاسفة، ورأى أنّ النظرية أمر زائد عن الحاجة، وكذلك النضال من أجل جمهورية ديمقراطية. كما اعتبر أنّ الثورة الاجتماعية ممكنة فوراً، بغضّ النظر عن الشروط الاقتصادية أو مستوى وعي الجماهير. ماركس وإنجلز رفضا هذه المواقف رفضاً قاطعاً. وللتأثير في النقاش، أسّسا في بروكسل ما عُرف بـ لجنة المراسلات الشيوعية. وقد نجحا بالفعل في مسعاهما، إذ كلّفتهما القيادة المركزية في لندن بصياغة برنامج جديد. هذا البرنامج جرى اعتماده في مؤتمر يونيو/حزيران 1847، وعلى أثره غيّرت الجماعة اسمها لتصبح رابطة الشيوعيين (Bund der Kommunisten). في آذار/مارس 1848 تولّى ماركس قيادة رابطة الشيوعيين. وقد عاد كوادر الرابطة بعد اندلاع الانتفاضات في فيينا وبرلين إلى ألمانيا، انطلاقاً من قناعة بأن ما سيحدث ليس ثورة بروليتارية- شيوعية، بل بالأحرى ثورة برجوازية. وبناءاً على ذلك، انخرط ماركس وإنجلز في كولونيا داخل الجمعية الديمقراطية البرجوازية، وكذلك في جمعية للعمال بلغ عدد أعضائها عدة آلاف، وسرعان ما انتقلت قيادتها إلى ماركس. إلى جانب ذلك، تولّى ماركس إصدار جريدة "الراين الجديدة – لسان حال الديمقراطية" (Neue Rheinische Zeitung. Organ der Demokratie)، فيما شارك إنجلز، الذي كان قد تدرّب كمدفعي، في القتال المسلّح ضد الردّة الرجعية في بادن. عندما قمعت الثورة عام 1849 في القارة الأوروبية، فرّ ماركس وإنجلز إلى لندن، حيث عملا في لجنة تدعم المهاجرين الآخرين. كما استمرا في النشاط داخل رابطة الشيوعيين وجمعية تعليمية للعمال، حتى اندلع النزاع هناك عام 1850، نتيجة اعتقاد ماركس وإنجلز بأن عودة الثورة غير محتملة ما دام الاقتصاد مزدهراً. وأدى هذا الاختلاف إلى انقسام رابطة الشيوعيين وانسحابهما من الجمعية التعليمية. مع ذلك، كان ماركس وإنجلز، منذ عام 1852، يلحظان في كل انتكاسة اقتصادية أو صراع دولي فرصة ثورية جديدة. واختلفا أيضاً عن العديد من المهاجرين الآخرين الذين كانوا يأملون في إشعال الثورة من جديد عبر التنظيم السري، النشاط غير العلني، والانتفاضات المسلحة. بدلاً من ذلك، دعم ماركس وإنجلز الحركة العمالية في إنكلترا، أي الحركة الشارتية (Chartists), التي كانت تناضل من أجل: أجور أفضل،ساعات عمل أقصر،وحق التصويت على الأقل لجميع الرجال. من أجل الثورة البروليتارية على غرار روزا لوكسمبورغ، لم يكن الإصلاح والثورة عند ماركس وإنجلز متناقضين، بل كانا يجب أن يتكاملا. كتب ماركس حول مشروع قانون ساعات العمل العشر (Ten-Hours Bill) أنّه كان نتيجة «حرب أهلية، بشكل أكثر أو أقل خفي، بين الطبقة الرأسمالية والطبقة العاملة». وصنّف ماركس كافة تشريعات المصانع المتعلقة بـ: الصحة والنظافة،عمل النساء والأطفال،بوصفها «أول تأثير واعٍ ومنهجي للمجتمع على الشكل الطبيعي لعملية الإنتاج». وكان يرى أنّ النضال من أجل الإصلاحات أمر ضروري لمنع: البؤس والمعاناة،الانهيار الجسدي،الإذلال اليومي والاستسلام،وفي الوقت نفسه، ليتعلم العمال تنظيم أنفسهم، واتخاذ الإجراءات، وفهم أنّ تحولاً جذرياً أساسياً ضروري. في حين رأى بعض اليساريين الآخرين الخلاص في الكومونات والجمعيات التعاونية، كان ماركس وإنجلز يطالبان بتغيير المجتمع بأسره عبر الوسائل السياسية. وكان هذا التغيير ممكناً فقط من قبل طبقة لا تملك المال ولا الأراضي ولا المصانع أو الآلات أو المواد الخام، وبالتالي ليست لها مصلحة في استمرار اقتصاد قائم على الملكية الفردية لوسائل الإنتاج، بل تمتلك القدرة على استغلال إمكانات الآلات والتقنيات الجديدة بشكل جماعي. في نظرهما، كانت الرأسمالية، بطغيانها، تخلق بؤساً هائلاً وتدمر الطبيعة وتترك أثرها الدموي على الكوكب. ومع ذلك، كانت البرجوازية تطور التقنية والاقتصاد، وهو ما يعتبره ماركس وإنجلز شرطاً مسبقاً للتغلب على الفقر في المجتمعات ما قبل الصناعية، ولخلق مجتمع يمكن فيه للجميع أن يحققوا حريتهم الذاتية، دون القلق على وجودهم المادي، وبأقل قدر من العمل الضروري. وفقاً لماركس وإنجلز، لن تكون الثورة البروليتارية ناجحة إلا إذا لم تحدث بمعزل في دولة واحدة، بل في الدول الصناعية الكبرى تقريباً في الوقت نفسه. وكان كلاهما يركّز بشكل خاص على: إنكلترا، فرنسا، ألمانيا، والولايات المتحدة الأمريكية. وبالتالي، كانت التنظيمات العابرة للحدود الوطنية أمراً لا غنى عنه، ولهذا دعما الجمعية العمالية الدولية (IAA)، التي أسسها قادة النقابات البريطانية عام 1864 واستمرت حتى عام 1876. وقد كرّس كل من ماركس وإنجلز سنوات طويلة من الجهد والوقت لهذه المنظمة، ورغم ذلك، كانوا غالباً في أقلية مقابل التيارات الإصلاحية الاجتماعية والتيارات الأناركية. لضمان التنظيم الذاتي الواسع النطاق للعمال والعاملات، رأى ماركس وإنجلز أن أفضل الشروط تتوفر في الجمهورية الديمقراطية، التي تتميز بـ: حرية الصحافة،حرية تكوين الجمعيات والالتقاء،والحق الانتخابي العام. لقد صاغا هذا الرأي بالفعل في «البيان الشيوعي» عام 1848، حيث أكّدا أنّه يمكن للبروليتاريا، بصفتها أغلبية السكان، أن تحقق الأغلبية في الانتخابات وتستثمر السلطة السياسية لبناء مجتمع جديد. وعاد إنجلز إلى هذا الرأي في سنواته الأخيرة، عندما بدأت الأحزاب الاشتراكية تحقق أولى انتصاراتها الانتخابية. في المقابل، أصبح يرى أنّ قتال المتاريس ضد جيوش حديثة التجهيز كان محكوماً عليه بالفشل. من ناحية، كان من الضروري دعم الاتجاهات الديمقراطية- البرجوازية.ومن ناحية أخرى، كان يجب على الطبقة العاملة أن تُنظم نفسها بشكل مستقل، وألا تنغمس في الوهم بأن البرجوازية ستتخلى عن السلطة طواعية ودون عنف. ففي مواجهة ما أطلق عليه الخطر الأحمر، كانت البرجوازية تفضل غالباً التعاون مع القوى التقليدية للعرش، وتساند ديكتاتوريين جُدد مثل نابليون الثالث أو بسمارك. وقد صاغ ماركس وإنجلز لهذه الظاهرة مصطلح "البونابرتية"، الذي لا يزال يستخدمه المُنظرون الماركسيون حتى اليوم لتحليل الحركات الاستبدادية وحتى الفاشية. السياسة الخارجية للطبقة العاملة من هذا المنطلق، استنتج ماركس وإنجلز أنّ الطبقة العاملة يجب أن تمارس السياسة الخارجية أيضاً. وكانت السياسة الدولية موضوعاً بارزاً في نشاطاتهما الصحفية والسياسية. كانت آمالهما تكمن في استغلال صراع القوى الكبرى للقضاء على الأعداء الرئيسيين للتطورات الديمقراطية، وعلى رأسهم القيصرية الروسية ونظام نابليون الثالث في فرنسا،مع عدم التردد في توجيه النقد للحكومات البريطانية، البروسيّة أو النمساوية. ولم يكونا من دعاة الحل السلمي فقط، بل كانا يأملان أن تؤدي التورطات الحربية إلى إشعال ثورة جديدة في أوروبا. حتى عام 1878، كان ماركس يعتقد أن حرباً تركية- روسية جديدة قد تؤدي إلى انقلاب في الإمبراطورية الروسية.كانا مُعاصرين لـ حروب دموية وحروب أهلية، خصوصاً الحروب الاستعمارية الأوروبية. كتب ماركس عن: العدوان البريطاني على إيران وميانمار والصين (حروب الأفيون)،تمرد سيبوَي عام 1857 في الهند،ثورة تايبينغ (1851–1864) في الصين،وعن الاعتداءات الفرنسية والإسبانية في شمال إفريقيا. وجدير بالذكر موقف ماركس وإنجلز المتوازن والمفصّل، إذ كانا يحلّلان الانتفاضات كنتيجة ضرورية للعدوان الاستعماري، ويستنكران الإجراءات الوحشية للأوروبيين، دون أن يُمثّلا الشعوب المستعمَرة على أنها دونية أو مثالية. كتب ماركس عن ثورة تايبينغ أنّها كانت رجعية، وتهدف بالأساس إلى النهب، وكانت تقوم بتعذيب السكان.وأشار إلى أنّ البريطانيين أدخلوا الشعب الهندي في البؤس، وأتلفوا البلاد بواسطة الأقمشة الرخيصة، وعذّبوا الناس لانتزاع الضرائب. وفي الوقت نفسه، كان يرى أنّ الهياكل ما قبل الاستعمار كانت أيضاً قمعية، ومهيمنة عليها مجتمعات قرية أبوية، ونظام الطوائف، واستبداد الدولة. كان ماركس وإنجلز يقاومان دائماً التوسع الروسي، الذي اعتبراه نتاجاً للنظام ذاته. فمنذ ثورة 1848، كانا يطالبان بـ حرب ثورية لإسقاط النظام القيصري الروسي. قمع الانتفاضات في بولندا والمجر،وأكدا على اعتقادهما بأن النظام القيصري الروسي هو الدعامة الرئيسية للردة والحصن ضد أي تطور تقدمي. وخلال العقود التالية، هاجما التوغلات الروسية في البلقان والقوقاز، وكذلك الردود المُترددة- من إنكلترا وفرنسا. وفي إطار الجمعية العمالية الدولية (IAA)، نشب لاحقاً نزاع مع أنصار الفوضوي الفرنسي بيير- جوزيف برودون، وذلك لأن ماركس وإنجلز كانا يطالبان بالتضامن المسلح مع المُتمردين البولنديين. تابع ماركس وإنجلز حرب القرم (1853–1856) بتفصيل، وهو أول صراع حديث تميز: بـحرب الخنادق الموضعية،السفن المدرعة،والقذائف المتفجرة. وبفضل التلغراف، وصلت الأخبار إلى لندن خلال ساعات قليلة، بينما قدّمت التقارير الصحفية سرداً مباشراً للمذبحة، أما الصور فكانت تُستخدم أكثر للأغراض الدعائية. أما في الحرب الأهلية الأمريكية (1861–1865)، فقد انحاز ماركس وإنجلز إلى جانب قوات الشمال ضد ملاك العبيد.وفي إنكلترا، شاركا في حملة النقابات العمالية ضد دخول الإمبراطورية الحرب لدعم الولايات الجنوبية. وكان الأمر جديراً بالملاحظة، إذ أنّ رفض العمال الإنكليز للتدخل جاء على الرغم من أنّ انقطاع القطن من الجنوب الأمريكي أدى إلى إغلاق المصانع وحدوث بطالة واسعة. آراء إشكالية رأى ماركس وإنجلز أنّ إنكلترا ناضجة ثورياً بشكل موضوعي، لأنّها كانت تتكوّن عملياً فقط من رأسماليين وعمال مأجورين، في حين كانت الطبقة الصغيرة في ألمانيا هي المسيطرة. كتب ماركس عام 1854: «الحرب بين الطبقتين اللتين تشكلان المجتمع الحديث لم تتخذ في أي بلد آخر هذه الأبعاد الضخمة وهذه السمات الواضحة والمكشوفة. « ومع ذلك، بعد أربع سنوات، خشي إنجلز أن الطبقة العاملة الإنكليزية أصبحت برجوازية. كما أنّ توسيع حق الاقتراع للعمال عام 1867 لم يفضِ إلى الوضع الثوري الذي كان يأمله، وفي عام 1882 لاحظ أن البروليتاريا استفادت من الاحتكار الاستعماري للإمبراطورية البريطانية. ولاحقاً، تحدث لينين عن أرستقراطية عمالية، أي طبقة مشبعة مادياً تشكل قاعدة للإصلاحية، واعتبر هربرت ماركوزه أنّ الطبقة العاملة أصبحت مُدمجة في الرأسمالية في ظل مجتمع ما بعد الحرب الاستهلاكي. اليوم، تُحقق الأحزاب اليمينية أغلبية نسبية بين العمال، بينما تجد اليسار نفسه في موقف ضعيف. وقد أظهرت تجربة التاريخ أنّ تصور ماركس وإنجلز كان خاطئاً في هذه النقطة الجوهرية: فـ الإنتاجية الهائلة للرأسمال وفرت مساحات للتوزيع والامتيازات المادية، وبالتالي استطاعت الحركات الإصلاحية أن تُحتَجز عبر التنازلات المادية. انتقد ماركس وإنجلز العمال الإنكليز الذين كانوا يميزون ضد العمال المهاجرين من أيرلندا. لذلك دعما الحركة الاستقلالية الإيرلندية، رغم أنّ فيها تيارات كاثوليكية رجعية. كانا يعتقدان أنّ نجاح الحركة الإيرلندية سيكون ضربة قوية لأصحاب الأراضي الكبار في إنكلترا، ويجب أن يجعل العمال الإنكليز يعيدون النظر في مواقفهم. وكان مبدأهما الأساسي: «من يٌساعد في قمع الآخرين، لا يمكنه أن يُحرر نفسه». وقد طبّقا هذا المبدأ على حالات أخرى، مثل الألمان تجاه البولنديين، والعمال البيض في أمريكا تجاه العبيد السود. رغم أنّ ماركس وإنجلز كانا يدعمان مبدئياً المساواة بين الأعراق، إلا أنّ بعض كتاباتهما ورسائله تضمنت تحيزات أو ملاحظات تقلل من شأن بعض السلبيات المتعلقة لبعض الشعوب. يشير ماركس في كتابه «رأس المال» إلى أنّ هناك خصائص عرقية مميزة، وتكرر ظهور مثل هذه التعليقات أو الانتقادات في منشوراته ورسائله. كتب ماركس وإنجلز عام 1853 عن البلقان: «هذه المنطقة الرائعة تعاني من كونها مأهولة بمزيج من أعراق وجنسيات مختلفة، ومن الصعب تحديد أيّها الأقل قدرة على الحضارة والتقدم». كما برّر إنجلز ضم كاليفورنيا باعتباره أنّ المكسيكيين، على عكس الشماليين، غير قادرين على تطوير الأرض. وبالمثل، كان من المشكوك فيه اعتبار الأمم بالنسبة لهما كيانات غير قابلة للنقد، تُعتبر أساساً طبيعياً لتكوين الدولة الناجحة وتطور الرأسمالية. وكان يُفترض أن الأمم الكبرى لها الأسبقية، بينما يجب على «بقايا الشعوب الصغيرة» أن تندمج. ومنذ ثورة 1848، كانا يميزان بين الشعوب الثورية مثل: المجر، إيطاليا، وبولندا، وبين الشعوب المضادة للثورة مثل: الكروات أو التشيك. الصراعات تصبح أكثر تعقيداً كانت مواقف ماركس وإنجلز مزدوجة تجاه حركة التوحيد الإيطالية (Risorgimento). فمن حيث المبدأ، دعما هذه الحركة التي سعت إلى توحيد الدول المختلفة في شبه الجزيرة الإيطالية في دولة قومية واحدة. ومع ذلك، ظلّا متشككين طالما كان نابليون الثالث متدخلاً.ففرنسا خاضت إلى جانب بييمونت حرباً ضد الامبراطورية الهابسبوركية التي كانت تسيطر على شمال إيطاليا، وحصل نابليون الثالث مقابل ذلك على نيس وسافوي من بييمونت، ثم غيّر موقفه حامياً دولة الكنيسة، التي كانت تضم ما يُعرف اليوم بلاتسيو، بقواته.وقد أشادا بـ جوزيب غاريبالدي كاستراتيجي بارع، لكنهما انتقداه كسياسي ضعيف، وحذّرا من أنّ الظروف الاجتماعية المبنية على الاستغلال الإقطاعي في الجنوب ظلت دون تغيير. في الحرب الألمانية- الفرنسية، وقف ماركس وإنجلز في البداية إلى جانب الألمان. فإذا انتصرت فرنسا، كان البونابرتية ستترسخ لسنوات طويلة، وستنهار ألمانيا، وبالتالي لن تتمكن الحركة العمالية من التكوّن بشكل مستقل، لأنّ «النضال من أجل تحقيق الوحدة الوطنية سيبتلع كل شئ»، كما كتب إنجلز إلى ماركس في 15 أغسطس 1870. أما إذا انتصرت ألمانيا، فستُهزم البونابرتية الفرنسية: «الجدال الأبدي حول تحقيق الوحدة الألمانية سيزول أخيراً، ويمكن للعمال الألمان أن ينظموا أنفسهم على مقياس وطني مختلف تماماً عن السابق، بينما سيحظى الفرنسيون، بغض النظر عن الحكومة التي ستنشأ هناك، بمجال أوسع للحرية مقارنةً بعهد البونابرتية». وبهذا المعنى، كتب ماركس مسبقاً إلى إنجلز: «الفرنسيون بحاجة إلى جَلدْ». في بداية سبتمبر 1870، هُزم نابليون الثالث وجيشه عند سيدان، وأُعلنت الجمهورية في باريس.وانحاز ماركس وإنجلز حينها إلى النظام الأكثر تقدماً، مطالبين بـ السلام دون ضم أراضٍ. ووصف إنجلز فظائع الجيش الألماني، ضد المدنيين وأحراق القرى. ويقال إنه كخبير عسكري وضع خطة حملة عسكرية للدفاع عن فرنسا ضد بروسيا- ألمانيا. غيّرت انتفاضة باريس في 18 مارس 1871 الوضع جذرياً مرة أخرى. فدعم ماركس وإنجلز (أعضاء كومونة باريس) بشكل تضامني ضد الجمهورية، بعد أن حذّرا سابقاً من أنّ الثورات المعزولة محكوم عليها بالفشل. رأى ماركس في كومونة باريس، التي اقتربت من نموذج المجالس، الشكل المستقبلي للديمقراطية الاشتراكية، وأعاد النظر في فكرة أنّ السلطة السياسية يمكن ببساطة الاستيلاء عليها.وبعد قمع الكومونة، نظّم الاثنان مرة أخرى مساعدات للناجين والفارين. ماذا كان ماركس وإنجلز سيفعلان اليوم يظل مجرد تخمين. لكن بالنظر إلى مواقفهما السابقة، يمكن القول إنهما كانا سينتقدان بحزم الانقسامات الطائفية وإعادة تمثيل مجموعات اليسار الراديكالي، كما أنهما كانا سيستنكران أولئك الذين ينضمون إلى الحكومات البرجوازية كشركاء صغار ويقدّمون مصالح الرأسمال الكلي على مصالح العمال. ولن يحتفلا بـ الحركات الإسلامية الرجعية بوصفها مقاومة، ولن يتعاونوا أو يخضعوا للأنظمة الاستبدادية مثل روسيا أو الصين أو إيران، ولن يعلنوا موقف السلام أمامها بشكل شكلي. أما مفهوم العالم مُتعدد الأقطاب، فكانا سينتقدانه، وبدلاً من ذلك كانا سيُركزان على المنافسة الدولية بين الدول والرأسمالات في القرن الحادي والعشرين.
بيتر بيرل*:صحفي ألماني،درس العلوم السياسية وعلم الاجتماع وعلم النفس في جامعة لودفيغ ماكسيميليان في ميونخ.ونشر عدة كتب ومقالات.
#حازم_كويي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
-نيتشه والتمرد: بين النقد الثقافي والتقدّم بعد 125 عاماً-
-
قبل 125 عاماً رحل فريدريش نيتشه «عداء الجماهير»
-
حركة -اجعلوا أميركا عظيمة مجدداً- ((MAGA
-
حرب إسرائيل في غزة هي من أكبر الجرائم في التاريخ.
-
من يملك الكون؟
-
هتلر:سيرة إنهيار
-
الجامعات الصينية في صدارة العالم
-
حزب في مرحلة تحول
-
-تراجع العولمة الحالي لا يخدم قضايانا-
-
إيلون ماسك:هل هو عبقري طموح أم رجل يفتقر للروح؟
-
التصنيع بدلاً من التسلّح
-
-تعدد الأقطاب؟ احتمال قائم في المستقبل-
-
-رئيسة المكسيك تُظهر كيف يمكن التصدي لترامب-
-
الهجوم الأمريكي على إيران: أصبح الآن اندلاع حرب نووية أكثر ا
...
-
عصر التراجع
-
-في الرأسمالية لا يوجد تنافس حرـ النيوليبرالية ليست نظام أسو
...
-
الشرق الأوسط يشهد تصعيدًا دراماتيكيًا في الأوضاع.
-
هل نعيش في زمن الفاشية المتأخرة؟
-
الرأسمالية تتغير – لكنها لا تتحول إلى -إقطاعية جديدة-
-
العولمة انتهت، لكن النيوليبرالية ما زالت حيّة
المزيد.....
-
حفيد مانديلا يعلن الانضمام إلى -أسطول الصمود العالمي- المتجه
...
-
رسالة جديدة من المعتقل السياسي المناضل محمد جلول
-
بيان حزب النهج الديمقراطي العمالي بجهة الجنوب
-
الحزب الشيوعي السوداني يجدد عهده بالعمل على وقف الحرب وإسترد
...
-
هل سيستعمل النظام معتقلي الريف كما استعمل سابقيهم في هيئة ال
...
-
تونس.. حفيد نيلسون مانديلا يدين صمت المنظمات الدولية حيال ال
...
-
بيان حزب النهج الديمقراطي العمالي – فرع تارودانت
-
بـلاغ حول اجتماع الكتابة التنفيذية للجامعة الوطنية للقطاع ال
...
-
مانديلا مانديلا يعلن التحاقه بـ-أسطول الصمود- لكسر الحصار عن
...
-
فرنسا: بايرو يختتم مشاوراته مع الأحزاب السياسية والاشتراكيون
...
المزيد.....
-
كراسات شيوعية (من مايوت إلى كاليدونيا الجديدة، الإمبريالية ا
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كراسات شيوعية (المغرب العربي: الشعوب هى من تواجه الإمبريالية
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
علم الاعصاب الكمي: الماركسية (المبتذلة) والحرية!
/ طلال الربيعي
-
مقال (الاستجواب الدائم لكورنيليوس كاستورياديس) بقلم: خوان ما
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
الإمبريالية والاستعمار الاستيطاني الأبيض في النظرية الماركسي
...
/ مسعد عربيد
-
أوهام الديمقراطية الليبرالية: الإمبريالية والعسكرة في باكستا
...
/ بندر نوري
-
كراسات شيوعية [ Manual no: 46] الرياضة والرأسمالية والقومية
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
طوفان الأقصى و تحرير فلسطين : نظرة شيوعيّة ثوريّة
/ شادي الشماوي
-
الذكاء الاصطناعي الرأسمالي، تحديات اليسار والبدائل الممكنة:
...
/ رزكار عقراوي
-
متابعات عالميّة و عربية : نظرة شيوعيّة ثوريّة (5) 2023-2024
/ شادي الشماوي
المزيد.....
|