|
حرب إسرائيل في غزة هي من أكبر الجرائم في التاريخ.
حازم كويي
الحوار المتمدن-العدد: 8434 - 2025 / 8 / 14 - 13:06
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
برانكو مارستيتش* ترجمة:حازم كويي
من ينظر إلى الأرقام والإحصاءات والشهادات لا بد أن يقرّ بموضوعية: حرب الحكومة الإسرائيلية في غزة غير مسبوقة في تدميرها الوحشي. من يريد أن يحاول تخيّل مدى سوء الوضع في غزة، قد يساعده تمرين ذهني: فكّر في جميع الأشخاص الذين نشأت بينهم والتقيت بهم في حياتك. أمك، أبوك، وإخوتك؛ وكذلك أجدادك وعمّاتك وأعمامك، وأبناء وبنات عمومتك وخالاتك، أصدقاؤك منذ الطفولة، وأصدقاء أصدقائك الذين تعرفهم منذ زمن طويل، جيرانك، زملاءك في المدرسة، صاحبة الكشك عند زاوية الشارع أو صاحب المطعم الذي كان يحبك ويضع لك دائماً كمية أكبر في طبقك. الآن تخيّل: كلهم رحلوا. ربما قُتلوا في غارات جوية – مثلما ماتت عائلتك كلها، مدفونة تحت أنقاض بيتها. إخوتك، والداك، جدتك، كلبك… كلهم ماتوا، وبأعجوبة نجوت أنت وأختك الصغرى فقط. في لحظة واحدة اختفى العالم كله الذي كنت تعرفه – والأمر نفسه ينطبق على جيرانك وأصدقائك، فقد ماتوا هم أيضاً مع عائلاتهم. وحتى إن كان هناك من نجا، فلن تعرف، لأنك مضطر إلى الرحيل. خلال العام والنصف التاليين، سيكون عليك أن تنتقل مع أختك الصغيرة ثلاث مرات أخرى، تنصب خياماً مؤقتة ثم تتركها من جديد، لتسير كيلومترات إلى «منطقة آمنة» تالية، رغم أنك سمعت أنها هي الأخرى تتعرض للقصف. الموت في كل مكان، وتمضي كل يوم ساعات بحثاً عن طعام أو ماء نظيف لإبقاء أختك على قيد الحياة، تلك الأخت التي فقدت ساقيها كلتيهما في غارة جوية أخرى، والتي أمسكت بيدها عندما جرى بترهما. لم يكن في المستشفيات أي مواد للتخدير. ماذا حدث لمعظم الأشخاص الذين التقيت بهم في حياتك؟ لا تعرف. أو الأسوأ من ذلك: أحياناً تعرف ما الذي جرى لهم. بعد عام واحد، أصبح المكان الذي نشأت فيه غير موجود ببساطة. الدفء المألوف في بيتك، المدرسة التي قضيت فيها طفولتك، الجامعة التي تخرجت منها، الشوارع التي تعلمت فيها ركوب الدراجة، ملاعب الطفولة، بيوت أصدقائك التي احتفلت فيها بأعياد الميلاد، المكان الذي شهد موعدك الغرامي الأول – كل ذلك اختفى، وحلّت مكانه مساحة رمادية لا نهاية لها من الأطلال المتفحمة. اليوم يسود الجوع ولم تأكل منذ أيام. سمعت أن الناس يُقتلون بالرصاص عند نقاط توزيع المساعدات. لكن أختك الصغيرة مريضة جداً ولم يبقَ منها سوى الجلد والعظم، فتخرج رغم اليأس. وأثناء دفعك بين جموع الناس المتعرقين اليائسين، الذين يتوسلون مثلك تماماً للحصول على كيس دقيق، تسمع فجأة أصوات إطلاق النار وتسقط أرضاً. آخر أفكارك تتعلق بأختك الصغيرة الجائعة، والسؤال عمّن سيتكفل بها الآن. هذه ليست قصة حقيقية بالمعنى أنها حدثت لشخص محدد بهذه التفاصيل بالضبط. لكنها تصفُ – كما سيتضح في ما يلي – الأوضاع الحقيقية جداً التي فُرضت على سكان غزة في العامين الماضيين تقريباً. بعد شهرين من إندلاع الحرب، جرى التحذير بالفعل من أن ما نشهده في غزة، في ضوء هذا الكمّ الهائل من الحقائق والأرقام والشهادات المروّعة، «ليس مجرد حرب مروّعة أخرى» بل أمر «مختلف تماماً». ومنذ ذلك الحين مَرت تسعة عشر شهراً أخرى. واليوم، يتضح أكثر من أي وقت مضى أن ما يفعله الكيان الإسرائيلي بأهالي غزة، موضوعياً وبالأرقام، هو واحد من أبشع الجرائم في التاريخ الحديث.
**«وحشية غير مسبوقة»** عند الحديث عن غزة، تتكرر كثيراً كلمات مثل «غير مسبوق» و«الأسوأ على الإطلاق». غالباً ما تأتي هذه التوصيفات من هيئات رسمية، وأطباء، ومُسعفين، وخبراء، وغيرهم ممن راقبوا أو عاشوا بعضاً من أسوأ مناطق الحروب في تاريخ البشرية. تؤكد الإحصاءات وتوضح هذه التقديرات: بعد ثلاثة أشهر فقط من إندلاع الحرب، كانت معدلات القتل اليومية التي ينفذها الجيش الإسرائيلي (250 قتيلاً في اليوم) أعلى من أي صراع مسلح كبير آخر في هذا القرن، بما في ذلك الحروب في أوكرانيا والعراق واليمن. حتى الحرب الأهلية الدامية في سوريا، التي سجلت ثاني أعلى معدل، كانت نسبتها أقل من نصف نسبة غزة (96.5 قتيل يومياً). وللعثور على صراع كانت أول مئة يوم فيه بهذه الدرجة من الدموية مثل غزة، علينا العودة إلى إبادة رواندا عام 1994. أما بقية الصراعات فهي متأخرة كثيراً عن ذلك المستوى. منذ ذلك الحين، «تراجع» معدل القتل فقط لأن التدمير الممنهج للمستشفيات في غزة جعل من الصعب حتى تتبّع أعداد الضحايا. وحتى إذا أخذنا الأرقام الرسمية بتاريخ 30 تموز/يوليو – التي تجاوزت عتبة 60 ألف قتيل، وهي على الأرجح أقل بكثير من العدد الفعلي – فإن المعدل في غزة يبقى 91 قتيلاً يومياً، وهو أعلى من أي صراع في القرن الحادي والعشرين باستثناء سوريا. وكما أشار بيتر بينارت، فإن عدد الفلسطينيين الذين يُقتلون يومياً يفوق عدد ضحايا بعض من أبشع المجازر في التاريخ – أحداث صدمت العالم جماعياً وأدت إلى تغييرات جذرية في السياسات والمواقف العامة: مجازر مثل شاربفيل في جنوب إفريقيا (69 قتيلًا في يوم واحد) أو «الأحد الدامي» في إيرلندا (26 قتيلاً). لكن القضية لا تتعلق بحجم القتل فقط، بل أيضاً بمن يتم قتله. بعد عام واحد، بلغ عدد العائلات التي أُبيدت بالكامل – أي لم يبقَ لها أي فرد على قيد الحياة، وانقرض اسم العائلة – 902 عائلة، وهذا أدنى تقدير بين العديد منها. نحو 3,500 عائلة لم يبقَ منها سوى فردين فقط، و1,364 عائلة لم ينجُ منها سوى شخص واحد. في بعض الحالات، قتلت القوات الإسرائيلية ثلاث أو أربع أجيال من العائلة الواحدة – وذلك في غارة جوية واحدة. هذا حدث في حروب أخرى، لكن ليس بهذا الحجم أبداً. بالإضافة إلى ذلك، قتلت القوات الإسرائيلية نسبة عالية جداً من المدنيين. وحتى أيلول/سبتمبر 2024، حين كان عدد الضحايا لا يزال أقل بكثير مما هو عليه الآن، كان قد قُتل بالفعل عدد من النساء والأطفال أكبر من أي صراع آخر خلال الفترة نفسها في العقدين الماضيين. إذا أخذنا تقديراً متحفظاً للغاية، يستبعد الجثث غير المعروفة الهوية ويأخذ حتى بالادعاء الإسرائيلي المبالغ فيه بقتل 20 ألف مقاتل من حماس (وهو ما يعني – لو كان صحيحاً – أن جميع الرجال تقريباً من القتلى كانوا من حماس)، فإن نسبة النساء والأطفال وكبار السن والرجال غير المنتمين لحماس حتى 30 تموز/يوليو بلغت 64% من مجموع ضحايا غزة. وحتى بهذه النسبة المنقوصة، تتفوق غزة في نسبة المدنيين القتلى على معظم أسوأ الحروب في السبعين عاماً الأخيرة – بما في ذلك فيتنام، وحروب يوغوسلافيا، وسوريا، واليمن – وبفارق كبير عن متوسط 50% من المدنيين الذي كان سائداً في الحروب من القرن الثامن عشر حتى القرن العشرين. العنف ضد الأطفال، على وجه الخصوص، استثنائي في بشاعته. بعد أربعة أشهر فقط، كانت غزة تتصدر بفارق كبير أعلى معدلات وفيات الأطفال بين جميع النزاعات الحديثة – بمعدل يقارب عشرة أضعاف المعدل في سوريا و45 ضعف المعدل في اليمن. وفي 30 تموز/يوليو، كان المعدل طفلاً واحداً كل ساعة. أو كما وصفت المديرة التنفيذية لليونيسف: «على مدى عامين، يُقتل كل يوم صف كامل من الأطفال». من بين هؤلاء آلاف الرضّع والأطفال دون العامين. وعندما نشرت وزارة الصحة في غزة شهرحزيران/يونيو الماضي قائمة محدثة بأسماء كل ضحية في الحرب، مرتبة حسب العمر، كان على القارئ أن يتصفح إحدى عشرة صفحة – أي 486 اسماً – قبل أن يعثر على أول طفل تجاوز عمره ستة أشهر. بعد ثلاثة أشهر من اندلاع الحرب، فقدت غزة بأكثر من عشرة أطفال في اليوم الواحد، في المتوسط، ساقاً واحدة أو الساقين معاً. واليوم، أصبح القطاع المكان الذي يضم أعلى نسبة من بتر الأطراف بين الأطفال مقارنة بعدد السكان في العالم. وبسبب الحصار الإسرائيلي، أجريت كثير من هذه العمليات، إن لم يكن معظمها، من دون تخدير. بعض هؤلاء الأطفال هم من بين أكثر من 17 ألف يتيم خلفتهم الحرب. وللوضع في غزة صيغ مصطلح جديد: **WCNSF** – أي *طفل جريح بلا عائلة باقية على قيد الحياة*. وهذا يوضح إلى أي حد أصبحت مثل هذه المآسي أمراً اعتيادياً مرعباً في هذه الحرب. هناك تقارير من أطباء على الأرض تفيد بأن أطفالاً أصيبوا بجروح خطيرة ولم يعد لهم من يرعاهم، طلبوا بأن تُنهى حياتهم. هناك أيضاً أدلة على أن أطفال غزة تعرضوا لهجمات متعمدة وبطريقة سادية. فمنذ أكثر من عام، تتوالى تقارير العاملين في المجال الصحي عن معالجة أطفال أصيبوا عمداً بالرصاص في الرأس أو العنق أو الصدر أو الأعضاء التناسلية، بما يوحي بأن الجنود الإسرائيليين استخدموهم كـ«أهداف تدريب». كما جرى استخدام الفتيان كدروع بشرية. واعتُقل مئات الأطفال من غزة واحتُجزوا في السجون الإسرائيلية، حيث تعرض كثير منهم للتعذيب. يضاف إلى ذلك التعذيب المُنتشر والمنتظم الذي يتعرض له المعتقلون (البالغون)، وقد مات العشرات منهم تحت التعذيب. وتشمل الأساليب المبلغ عنها الصعق الكهربائي، والهجوم بالكلاب، والعنف الجنسي الشديد إلى حد إضطرار الضحايا إلى دخول المستشفيات. والآن، مع وصول نسبة ممن يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد إلى 100% من السكان، فإن عدد القتلى في غزة – وخاصة من الأطفال – سيرتفع مرة أخرى. وقد قال أحد الخبراء عن المجاعة التي تفشت الآن في غزة: «منذ الحرب العالمية الثانية لم نشهد حالة جوع تم التخطيط لها والتحكم فيها بهذا الشكل الدقيق». وقد حصدت المجاعة المتفجرة رسمياً عشرات الأرواح بالفعل – وهي على الأرجح تقديرات منخفضة جداً قد تُمثل فقط نحو 10% من الرقم الفعلي. آلاف الأطفال وصلوا إلى نقطة اللاعودة إلى حياة طبيعية. سيموتون خلال الأسابيع والأشهر القادمة أو سيبقون معاقين بشكل دائم. وأكد منسق الطوارئ في برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة أن هذا «شيء لم نشهده في هذا القرن»، مضيفاً أن الوضع لا يمكن مقارنته إلا ببعض المجاعات في القرن العشرين. إنه مَعلم آخر من معالم وحشية الحرب الإسرائيلية على غزة، تضاف إليه كل يوم عشرات المجازر بحق الفلسطينيين والفلسطينيات بالقنابل والرصاص.
تدمير كامل الأمر في غزة لا يقتصر على القتل الجماعي، بل يشمل أيضاً حجم الدمار المادي الهائل. نحن أمام حملة تدمير واسعة ومنهجية تستهدف كل البنى والهياكل والمؤسسات التي تجعل من الممكن وجود حياة منظمة في القطاع. حتى شباط/فبراير 2025، كان 92% من منازل غزة قد تضررت أو دُمّرت، فيما تم القضاء التام على ثلثي المخزون السكني للقطاع. وقد أعلنت الأمم المتحدة أن مثل هذا الدمار «غير المسبوق» في المساكن لم يُشهد منذ الحرب العالمية الثانية. وأشارت إلى أن إعادة الإعمار قد تستغرق حتى عام 2040 – إذا توقفت الحرب اليوم. والمفارقة أن هذا التصريح صدر قبل أربعة عشر شهرًاً. في غضون شهر واحد فقط من بدء الحرب، وبسبب الحصار الإسرائيلي الذي قطع إمدادات الكهرباء والوقود عن القطاع، تعطلت جميع محطات معالجة مياه الصرف الصحي الخمس ومعظم محطات ضخ المياه العادمة. وقد أدى ذلك إلى تلوث مياه البحر والتربة والمياه الجوفية بمياه الصرف غير المعالجة. وبعد عام واحد، كانت 70% من مرافق المياه والصرف الصحي في غزة قد تضررت أو دُمرت. وفي حزيران/يونيو 2025، لم تعمل سوى 49% من منشآت إنتاج مياه الشرب. لوصف ما تم تدميره أو إلحاق الضرر به، نحتاج إلى مصطلحات لم نستخدمها إلا نادراً أو لم نستخدمها من قبل: هناك من يتحدث عن «إبادة عمرانية» (Urbizid) بالنظر إلى تدمير 92% من الطرق الرئيسية و70% من جميع المباني،وعن «إبادة تعليمية» (Scholastizid) بالنظر إلى تأثر 90% من المدارس والجامعات في غزة، وعن «إبادة سكنية» (Domizid) بالنظر إلى دمار منازل أغلبية السكان بالكامل، وعن «إبادة بيئية» (Ökozid) بالنظر إلى ما تصفه الأمم المتحدة بأنه أضرار «غير مسبوقة» وربما «لا رجعة فيها» بالأنظمة البيئية الطبيعية في المنطقة. وتشمل هذه الإبادة البيئية، حتى نيسان/أبريل 2025، تضرر 83% من الأراضي الزراعية في غزة، وقتل 95% من الأبقار، وحوالي 40% من الأغنام والماعز. أما شمال غزة، الذي كان ثلثاه أرضاً زراعية، فقد تحوّل إلى صحراء. يضاف إلى ذلك قصف المطحنة الوحيدة للحبوب، وإغلاق جميع المخابز، وتدمير 72% من قوارب الصيد، والتوقف الكامل لنشاط الصيد البحري. لقد تم القضاء على قدرة غزة على إطعام نفسها الآن وفي المستقبل. وبسبب هذا الدمار، أصبح سكان غزة يعتمدون بشكل شبه كامل على المساعدات الإنسانية. وتستغل الحكومة الإسرائيلية ذلك، إذ حوّلت نقاط توزيع المساعدات إلى أماكن وصفها جندي أمريكي سابق من قوات النخبة، عمل هناك، بأنها «مصائد موت». حيث يموت في المتوسط نحو 24 فلسطينياً يومياً نتيجة إطلاق النار المُتعمد عليهم أثناء انتظارهم للطعام. وهذا أيضاً أمر غير مسبوق. تضرر أو دُمّر أكثر من نصف مواقع التراث الثقافي في غزة وثلث المساجد. وهناك تقديرات أخرى أعلى بكثير من ذلك. ومن بين المواقع المتضررة أهم وأقدم مبنيين في القطاع: الجامع الكبير في غزة، الذي يعود تأريخه إلى عدة قرون، وقد دُمّر بشكل شبه كامل في غارة جوية، وحمام السامريين، الذي بُني على يد جماعة سكانية قديمة يُقال إنها تنحدر من قبائل بني إسرائيل المذكورة في الكتاب المقدس – وقد قصفه الإسرائيليون المعاصرون ودكّوه بالأرض. وعندما دمّرت طالبان أو تنظيم «داعش» مواقع تراثية، اعتُبر ذلك دليلاً على أن هذه الجماعات تمثل تهديداً عالمياً خطيراً. كما يُنظر إلى تدمير التراث اليهودي على يد النازيين، مثلاً، من قبل متحف الهولوكوست الأمريكي، باعتباره جزءاً جوهرياً من محاولة إبادة يهود أوروبا. كانت الهجمات على النظام الصحي في قطاع غزة شديدة القسوة على نحو خاص. فقد تضرر أو دُمّر ما لا يقل عن 94% من مستشفيات القطاع. أما آخر مستشفى كان يعمل بكامل طاقته فقد تعرض للتدمير الجزئي في نيسان/أبريل 2025. وحالياً، فإن نصف المستشفيات خارج الخدمة بالكامل. وضع مشابه لم يحدث إلا في اليمن بعد تسع سنوات من الحرب (50% من المستشفيات خارج الخدمة). وللمقارنة: في سوريا النسبة 37%، وفي أوكرانيا 37.5%، وفي العراق خلال غزو 2003 لم تتجاوز نسبة المستشفيات التي تضررت جزئياً 7%.،فالمستشفيات، شأنها شأن مواقع التراث والمدارس، تحظى بحماية خاصة في أوقات الحرب. ويُنظر إلى استهدافها باعتباره أمراً مرفوضاً تماماً، إلى درجة أن إدارة أوباما والبنتاغون بحثا بيأس عن مبرر عندما قُصف مستشفى أفغاني بالخطأ عام 2015. حينها، فُتحت ثلاث تحقيقات، واعتذر الرئيس شخصياً، وفُرضت عقوبات على ستة عشر شخصاً لتورطهم في القصف. وقد كان ذلك فضيحة كبرى لاقت اهتماماً عالمياً واسعاً. أما إسرائيل، فقد اعترفت ليس فقط بمئات الهجمات المُتعمدة على المستشفيات، بل دافعت عنها أيضاً. والأمر نفسه ينطبق على الهجمات ضد المدارس ودور العبادة. كذلك يُفترض أن يحظى الطاقم الطبي بحماية خاصة. لكن القوات الإسرائيلية قتلت في الشهرين الأولين من الحرب عدداً من العاملين الصحيين في غزة يفوق ما قُتل في جميع النزاعات في العالم خلال عام كامل منذ 2016. ومنذ ذلك الحين ارتفع العدد أكثر. حتى وفق تقديرات حذرة، فإن 557 من العاملين في القطاع الصحي الذين قُتلوا في غزة بين 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 و30 تموز/يوليو 2025، يشكلون أكثر من ثلث العدد الإجمالي للعاملين الصحيين الذين قُتلوا في أنحاء العالم خلال السنوات الثماني السابقة لحرب غزة. ويُضاف إلى ذلك مئات من موظفي القطاع الصحي الذين اختطفتهم القوات الإسرائيلية (وقُتل بعضهم تحت التعذيب). في السنة الأولى من الحرب، قصفت القوات الإسرائيلية – في المتوسط – كل 15 يوماً مركزاً أو مستودعاً لتوزيع المساعدات، وكل 4 أيام مدرسة ومستشفى، وكل 17 ساعة خيمة أو مأوى مؤقت، وكل 4 ساعات منزلاً سكنياً. وبهذا حطم الكيان الإسرائيلي رقماً قياسياً تلو الآخر: أكبر عدد من العاملين الصحيين الذين قُتلوا منذ ما لا يقل عن عقد، وأكبر عدد من موظفي الأمم المتحدة الذين قُتلوا على الإطلاق، وأشد الحروب فتكاً بالعاملين في الإغاثة منذ بدء تسجيل البيانات، وكذلك الحرب الأكثر فتكاً بالصحفيين في التاريخ. في الواقع، قُتل بالفعل عدد من الصحفيين أكبر من مجموع ما قُتل في آخر سبع حروب كبرى شاركت فيها الولايات المتحدة، بما في ذلك الحربان العالميتان وحربها الأهلية.
قصفٌ يفوق حدود التصوّر هذه الأرقام هي نتيجة قصفٍ جوي غير مسبوق من حيث العشوائية والشدة. فوفقاً لأكثر التقديرات تحفظاً، ألقت الطائرات الإسرائيلية منذ بداية الحرب أكثر من 70 ألف طن من القنابل على غزة. وهذا يعادل تقريباً ست قنابل هيروشيما على منطقة تقل مساحتها عن نصف مساحة المنطقة اليابانية التي تعرضت للقصف النووي، لكنها تضم عدد سكان يزيد بستة أضعاف. كانت المرحلة الأكثر كثافة في القصف خلال الأشهر الثلاثة الأولى من الحرب؛ فحتى فبراير/شباط 2024، أُلقي ما يعادل 25 ألف طن من المتفجرات، أي ما يساوي قوة انفجار قنبلتين من نوع هيروشيما. بهذا المستوى من التدمير، دمّرت إسرائيل شمال غزة في ستة أسابيع فقط بدرجة تقارن بما لحق بمدن ألمانية مثل دريسدن وهامبورغ وكولونيا خلال الحرب العالمية الثانية. ففي الشهر الثالث من الحرب، كانت إسرائيل قد دمّرت 33% من مباني قطاع غزة بأكمله، وهي نسبة تفوق ما دمرته قوات الحلفاء في ثلاث سنوات من القصف على المدن الألمانية النازية (10% فقط). المؤرخ العسكري الأمريكي روبرت بايب، صاحب مؤلفات مرجعية عن الحروب الجوية في القرن العشرين، وصف غزة آنذاك بأنها "واحدة من أشد حملات العقاب ضد المدنيين في التاريخ"، مؤكداً أنها تقع "بسهولة في الربع الأعلى من أكثر عمليات القصف تدميراً عبر التاريخ". في هذه المرحلة المبكرة وحدها، تجاوزت غزة – وفقاً للخبراء – كل المناطق التي دُمّرت في الحروب الحديثة، بما في ذلك حلب في سوريا، ماريوبول في أوكرانيا، الموصل في العراق، وغروزني في الشيشان (التي وصفتها الأمم المتحدة سابقاً بأنها "أكثر مدينة دُمرت على وجه الأرض"). وفيما يتعلق بـ"سرعة القصف الهائلة"، قال باحث في ديسمبر/كانون الأول 2023، عمل على رسم خرائط الأضرار في عدة حروب: "لا يوجد شئ قابل للمقارنة في هذا الوقت القصير". وبعد 18 شهراً من الحرب، وصف بول روجرز، أستاذ الدراسات الحربية بجامعة برادفورد، دمار غزة بأنه "غير مسبوق في العصر الذي تلا الحرب العالمية الثانية"، مؤكداً أن المقارنة الوحيدة الممكنة هي مع القصف الحارق لطوكيو في الحرب العالمية الثانية. ليست هذه التقديرات مفاجئة إذا ما نظرنا إلى شدة القصف على غزة، خاصة في الأشهر الثلاثة الأولى، حين كان التدمير يتسارع بأقصى وتيرة. فقد كانت 25 ألف طن من القنابل التي سقطت على غزة في تلك الفترة تفوق بكثير ما أُلقي في القصف الحارق على هامبورغ (9,000 طن) أو دريسدن (3,900 طن) اللتين وُصفتا من قبل المتحف الوطني للحرب العالمية الثانية في الولايات المتحدة بأنهما "نهاية العالم". أما النازيون، فقد ألقوا على لندن خلال ثمانية أشهر من الحرب الجوية ضد بريطانيا حوالي 18,300 طن من القنابل. نفذت القوات الإسرائيلية 22 ألف غارة في أقل من شهرين، وهو عدد يفوق بكثير 13,598 غارة شنتها قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة على تنظيم "داعش" في العراق على مدى أكثر من أربع سنوات. هذا يعني 60% غارات أكثر، وعلى مساحة تقل عن واحد في الألف من مساحة العراق. كما تجاوزت إسرائيل أيضاً 17 ألف غارة استهدفت سوريا في الفترة نفسها، رغم أن سوريا أكبر من غزة بـ 500 مرة. وقد وُصفت تلك العمليات في سوريا حينها بأنها "حرب إبادة" و"دمار يفوق التصوّر" و"ستالينغراد جديدة" في إشارة إلى المعركة الشهيرة في الحرب العالمية الثانية. تفاخر سلاح الجو الإسرائيلي بأنه ألقى 6,000 قنبلة على غزة في الأيام الخمسة الأولى فقط من الحرب. وللمقارنة: أكبر عدد من القنابل التي استخدمتها الولايات المتحدة في أفغانستان خلال عام واحد كان قليلاً فوق 7,000 قنبلة. وهو تقريباً نفس العدد الذي ألقته الناتو على ليبيا خلال ثمانية أشهر عام 2011. وفي الواقع، بين عامي 2013 و2018 لم يتجاوز عدد القنابل المستخدمة في أفغانستان خلال عام واحد 4,400 قنبلة – على بلد تزيد مساحته نحو 1,800 مرة عن مساحة غزة. كما أن عدد القنابل التي أُلقيت في إطار عملية Inherent Resolve ضد تنظيم "داعش" بلغ في أحد الأشهر أكثر من 5,000 قنبلة. بعد شهرين فقط، كانت إسرائيل قد أطلقت ما مجموعه 29,000 قذيفة. وقد وصفت مديرة منظمة Airwars هذا العدد بأنه "أعلى بكثير من أي نزاع آخر، على الأقل في العشرين سنة الماضية". الاستثناء الوحيد كان العراق في الشهر الأول من حملة "الصدمة والترويع" عام 2003، حيث أُلقي عدد مماثل من القنابل، لكن على بلد أكبر بكثير من غزة. وفي غزة، تجاوز عدد القنابل المستخدمة ما ألقته الولايات المتحدة في العالم كله خلال عام 2016، وكذلك العدد الذي وُصف بـ"غير المسبوق" في الأشهر الستة الأولى من ولاية دونالد ترامب، عندما أسقطت واشنطن أكبر كمية من القنابل في تلك الفترة القصيرة. متوسط ما يقارب 500 قنبلة يومياً يعكس مستوى من الشدة يفوق بكثير المتوسط اليومي الأمريكي البالغ 46 قنبلة على جميع مناطق الحروب خلال العشرين سنة الماضية. وهو أيضاً يفوق بكثير التوسع الكبير في القصف الروسي على أوكرانيا هذا العام، إذ بلغ متوسط ما أطلقته روسيا في يوليو من طائرات مسيرة وصواريخ وقنابل انزلاقية 367 في اليوم – وقد تم اعتراض معظمها بواسطة الدفاعات الأوكرانية، في حين أن سكان غزة لا يمتلكون بطبيعة الحال مثل هذه الوسائل الدفاعية. هذا الكم الهائل من القنابل كان كفيلاً بأن يكون مميتاً بحد ذاته. لكن جيش الاحتلال الإسرائيلي لجأ أيضاً في حملته إلى استخدام عدد استثنائي من الأسلحة ذات القدرة التدميرية الواسعة النطاق. فقد شكّلت القنابل "الغبية" – وهي القنابل التي لا تحتوي على أنظمة توجيه – ما بين 40 و45 في المئة من الذخائر التي أُلقيت في الشهرين الأولين من الحرب، وهو ما وصفه خبير أسلحة في البنتاغون بأنه أمر "صادم" بالنسبة لدولة ديمقراطية ليبرالية في القرن الحادي والعشرين. وبينما اعتمدت الولايات المتحدة منذ حرب فيتنام في الغالب على قنابل تزن 500 رطل – وهي أكبر القنابل التي استخدمت ضد "داعش" في الموصل والرقة – بلغت نسبة القنابل ذات الأوزان 1,000 و2,000 رطل نحو 90 في المئة من الذخائر التي استخدمها الجيش الإسرائيلي في الأسبوعين الأولين من الحرب على غزة. هذه القنابل قادرة على قتل أو إصابة الأشخاص في دائرة نصف قطرها أكثر من 300 متر، وتترك حفراً ضخمة في الأرض. وقد أُسقطت على ما سُمّي "مناطق آمنة"، وعلى سوق مكتظة، وعلى مخيم للاجئين، وعلى أبراج سكنية، وفي محيط مستشفيات.
وضع لا يمكن التعبير عنه بالكلمات في النهاية، لا يهم إن كان الساسة الإسرائيليون يفعلون كل هذا عن قصد (مع أنهم يفعلونه بوضوح تام)، أو ما إذا كان يمكن تصنيف هذه الحرب على أنها إبادة جماعية (وهي كذلك بلا شك). إن استعراض بعض الحقائق والأرقام يوضح أنه، بغض النظر عن التسمية، فإن ما يقوم به الكيان الإسرائيلي في غزة أمر لا يُطاق، وهو حدث فظيع على مستوى التاريخ العالمي. لقد كانت هناك، وما زالت، حروب أخرى قُتل فيها عدد أكبر من الناس، أو حتى نسبة أكبر من السكان المدنيين. وهناك دول أُلقي عليها عدد أكبر من المتفجرات. وهناك حكومات قتلت أطفالاً أكثر أو مارست ضدهم أساليب تعذيب سادية. وهناك بلدان دُمّرت مادياً وتعرضت لتلوث بيئي على نطاق مشابه. وفي حروب أخرى، جرى أيضاً قتل كوادر طبية وإغاثية وتدمير مستشفيات. وفي نزاعات أخرى، فُرضت مجاعات عمداً. لكن ما يميز غزة عن تلك النزاعات ليس فقط أنها تحمل جميع هذه السمات مجتمعة، بل أن الوضع القائم حالياً يُعدّ في كل جانب من هذه الجوانب واحداً من الأسوأ، إن لم يكن الأسوأ على الإطلاق منذ عقود – وفي بعض النواحي هو الأسوأ في تاريخ البشرية كله. هناك سبب وجيه وراء أن أشخاصاً عاشوا حياتهم كلها في مناطق نزاع، وقاتلوا، وراقبوا، وقدموا المساعدة الإنسانية، وأجروا أبحاثاً، يكررون باستمرار وبوضوح أنهم لم يروا في حياتهم شيئاً بهذا السوء مثل ما يحدث الآن في غزة. ما نشهده في غزة ليس مجرد حدث حزين ومروع آخر في مكان بعيد من العالم، بل هو شئ يتسم، حتى ضمن هذا النوع من الأحداث المروعة، بقدر غير مسبوق من الوحشية واللاإنسانية. ما شهدناه ونشهده الآن هو محو كامل لمجتمع بأكمله يضم مليونَي إنسان. كل جانب من جوانب الحضارة الحديثة، وحتى أبسط مقومات البقاء الضرورية لأي جماعة بشرية، تم تدميره في غزة عمداً وبشكل شبه كامل على يد الجيش الإسرائيلي. نحن نرى اليوم كيف يموت الناس في غزة جماعياً، وببطء، ولكن بثبات، نتيجة مزيج من الجوع والمرض والقتل العلني.
برانكو مارستيتش هو مؤلف كتاب «رجل الأمس: القضية ضد جو بايدن». يعيش في شيكاغو، إلينوي.
#حازم_كويي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
من يملك الكون؟
-
هتلر:سيرة إنهيار
-
الجامعات الصينية في صدارة العالم
-
حزب في مرحلة تحول
-
-تراجع العولمة الحالي لا يخدم قضايانا-
-
إيلون ماسك:هل هو عبقري طموح أم رجل يفتقر للروح؟
-
التصنيع بدلاً من التسلّح
-
-تعدد الأقطاب؟ احتمال قائم في المستقبل-
-
-رئيسة المكسيك تُظهر كيف يمكن التصدي لترامب-
-
الهجوم الأمريكي على إيران: أصبح الآن اندلاع حرب نووية أكثر ا
...
-
عصر التراجع
-
-في الرأسمالية لا يوجد تنافس حرـ النيوليبرالية ليست نظام أسو
...
-
الشرق الأوسط يشهد تصعيدًا دراماتيكيًا في الأوضاع.
-
هل نعيش في زمن الفاشية المتأخرة؟
-
الرأسمالية تتغير – لكنها لا تتحول إلى -إقطاعية جديدة-
-
العولمة انتهت، لكن النيوليبرالية ما زالت حيّة
-
عن سبل الخروج من أزمة المناخ
-
الحزب الشيوعي النمساوي.. حزب لا مثيل له؟
-
كيف يُعرض ترامب الدولار للخطر؟
-
أميركا أولاً،مهما كان الثمن،إلى أين؟
المزيد.....
-
مع سيطرة ترامب على شرطة المدينة.. احتجاجات غاضبة في واشنطن ا
...
-
تونس .. شركة ناشئة تصنع أطرافا صناعية تعمل بالذكاء الاصطناعي
...
-
مصر تسجل قرابة 40 ألف ميغاوات استهلاكًا للكهرباء لأول مرة
-
-سياسة ترامب غير الواضحة تجاه الصين-- لوموند
-
خمس دول على قائمة الاتصالات.. إسرائيل تبحث نقل سكان غزة إلى
...
-
رئيس الموساد في الدوحة ووفد حماس في القاهرة... تحركات إقليمي
...
-
الإعلان عن مشروع استيطاني إسرائيلي -سيدفن- فكرة الدولة الفلس
...
-
الكويت ـ وفاة 13 شخصا وإصابة عشرات آخرين بتسمم كحولي
-
إسرائيل والحرب على الحقيقة.. إبادة ممنهجة للصحفيين في غزة
-
مسؤولون في بنغلاديش يشهدون ضد وزيرة بريطانية سابقة في محاكمة
...
المزيد.....
-
الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة
/ د. خالد زغريت
-
المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد
/ علي عبد الواحد محمد
-
شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية
/ علي الخطيب
-
من الأرشيف الألماني -القتال في السودان – ينبغي أن يولي الأل
...
/ حامد فضل الله
-
حيث ال تطير العقبان
/ عبدالاله السباهي
-
حكايات
/ ترجمه عبدالاله السباهي
-
أوالد المهرجان
/ عبدالاله السباهي
-
اللطالطة
/ عبدالاله السباهي
-
ليلة في عش النسر
/ عبدالاله السباهي
-
كشف الاسرار عن سحر الاحجار
/ عبدالاله السباهي
المزيد.....
|