|
هل نعيش في زمن الفاشية المتأخرة؟
حازم كويي
الحوار المتمدن-العدد: 8370 - 2025 / 6 / 11 - 12:32
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
ألبيرتو توسكانو* ترجمة: حازم كويي
الفاشية لا تعود كما كانت، بل تتحوّل – هذه هي الفكرة الأساسية في الكتاب الجديد لألبيرتو توسكانو. في هذه المقابلة والحوار، يشرح توسكانو لماذا تقودنا المقارنات التاريخية في كثير من الأحيان إلى إستنتاجات خاطئة، وكيف يقيّم التيارات اليمينية المعاصرة. خمس دقائق قبل 1933، أم هوشئ مختلف تماماً؟ تدور النقاشات حول الفاشية اليوم في إطار المقارنة التاريخية. الفيلسوف ألبرتو توسكانو يجادل في كتابه الذي تُرجم مؤخراً إلى الألمانية بعنوان **"الفاشية المتأخرة: العنصرية، الرأسمالية، وسياسات الأزمة السلطوية"** بأن الفاشية تعود بالفعل، ولكن بشكلٍ متحوِّل — بل وبطريقة ما، لم تختفِ يوماً. من خلال الرجوع إلى تقاليد مناهضي الفاشية السود الراديكاليين، يفهم توسكانو الفاشية على أنها إمكانية دائمة داخل الرأسمالية. وفي هذا الحوار، يشرح لماذا لا تأتي الفاشية كقطيعة مفاجئة، ولماذا يرى فيها امتداداً للعنف الإمبريالي.
يحمل كتابك عنوان الفاشية المتأخرة . ماذا تقصد بذلك؟
مصطلح "الفاشية المتأخرة" لا يُقصد به أن يكون تعريفاً جامداً أو نهائياً. بل هو أشبه بمصطلح بديل، يُستخدم للتعبير عن ضرورة فهم خصوصية الفاشية الحالية، وعن اختلافها عن الفاشية التاريخية. فالفاشية التي ظهرت في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي كانت ردّاً على ظروف وأزمات معينة، وهذه الظروف تختلف تماماً عن تلك التي نواجهها اليوم. أشكال الأزمات، وطبيعة الدولة، والاقتصاد السياسي، والعلاقات الطبقية قد تغيّرت. ولذلك، لا يمكننا ببساطة أن نساوي بين الفاشية التاريخية والفاشية المعاصرة، إذ إن بينهما أختلافات جوهرية وعميقة.
أنت تستند في طرحك إلى مُفكرات ومُفكرين من التقاليد الراديكالية السوداء ذات الطابع المناهض للاستعمار والعنصرية. كيف يُعرّف الفاشية ضمن هذا التقليد الفكري؟ وما الاستنتاجات التي تستخلصها منه؟
ردّاً على الغزو الإيطالي لإثيوبيا عام 1935، أنفصل بعض المثقفين المناهضين للاستعمار، والذين نشأوا في صفوف الحركة العمالية، عن الأممية الثالثة. ففي سياق سياسة الجبهة الشعبية في أوروبا، كانت هذه الأممية تميّز بين إمبريالية "فاشية" وأخرى "ديمقراطية"، وهو ما أعتُبر تبريراً ضمنياً لاستمرار أشكال السيطرة الاستعمارية. وعلى الرغم من وجود بعض الاعتراضات من جانب الاتحاد السوفييتي، فإن اليسار وقع في نوع من التسوية مع أنماط الحكم الاستعماري المستمرة. هذا هو السياق الذي برز فيه مفكرون مثل سي. إل. آر. جيمس، وجورج بادمور، وإيمي سيزير، والذين رفضوا هذا التمييز المُصطنع، واعتبروا أن الفاشية ليست مجرد ظاهرة أوروبية طارئة، بل استمرار وتوسّع للعنف الإمبريالي الذي لطالما مارسته القوى الاستعمارية على شعوب الجنوب. ومن هذا المنظور، تصبح الفاشية مفهومة بوصفها أحد الأوجه الدائمة للرأسمالية الإمبريالية، لا مجرد إنحراف إستثنائي في لحظة معينة من التاريخ. تحليلهم لما يمكن تسميته بـ"الفاشية العرقية" يرفض إعتبار الفاشية مجرد إستثناء تاريخي، لأن في ذلك تجاهل للاستمرارية البنيوية للإمبريالية. ومن المفارقات المريرة أن الفاشية التاريخية نفسها كانت، من بعض الزوايا، شكلاً من أشكال "الإمبريالية المتأخرة". يكفي أن نتأمل "الخطة العامة للشرق" (Generalplan Ost) التي تبنتها ألمانيا النازية، أو مشاريع الاستيطان الاستعماري الإيطالية التي كانت تمتد من ليبيا إلى ألبانيا. هذه المخططات لم تكن انقطاعات عن الماضي، بل استمرار للتوسعية الاستعمارية التي مارستها القوى الأوروبية في الجنوب العالمي، وقد أعادت الفاشية إنتاجها بأشكال أكثر وحشية في قلب أوروبا نفسها. إحدى النتائج الأساسية لهذا الفهم المناهض للاستعمار وللفاشية هي أن الأيديولوجيات والممارسات الفاشية الأوروبية لم تكن مجرد شبيهة بأنماط الحكم الرأسمالي-العنصري، التي وجدت أقسى تجلياتها في نظام العبودية القائم على الملكية ومزارع الاستعباد، بل كانت ترتبط بها بعلاقة نسب وتاريخ مشترك. وقد عبّر الشاعر لانغستون هيوز عن هذه الفكرة في تلك الفترة بقوله: "ما يبدو جديداً تماماً للأوروبيين، مألوف أشد الألفة لذرية المستعبَدين، وللأفارقة المضطهَدين، ولمن يعيشون تحت ظل الاستعمار الفرنسي أو البريطاني." انطلاقاً من هذا الفهم، يمكننا الحديث عن "فاشية قبل الفاشية" – أي أن الممارسات الفاشية لم تولد فجأة في أوروبا في القرن العشرين، بل كانت استمراراً وتحولاً لأشكال القمع الإمبريالي والاستعبادي التي سبقتها. هذه الرؤى لم تنبع فقط من نضالات النشطاء السود والمُستعمَرين داخل الحركات الاشتراكية والشيوعية، بل كانت أيضاً شيئاً قاله الفاشيون أنفسهم بوضوح لكل من أراد أن يستمع. فقد استند هتلر صراحة إلى الإمبراطورية البريطانية، والاستعمار الاستيطاني الأميركي، وإبادة السكان الأصليين في الولايات المتحدة. لقد عبّر الفاشيون أنفسهم عن هذا الاستمرار العميق مع سياسات الإقصاء والاستعمار بشكل صريح، إلى درجة تكشف لنا حجم الجهد الأيديولوجي المطلوب لتكريس فكرة أن الفاشية مجرد انحراف داخلي أوروبي، ظاهرة شاذة لا علاقة لها بالتاريخ العالمي للهيمنة الأوروبية.
إذا لم نفهم الفاشية كظاهرة شاذة، فماذا يعني ذلك للعلاقة بين الرأسمالية والفاشية؟
يمكننا أن نتعلم من الناشطين والناشطات السود في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، أن هناك في الدول المنظمة على أسس رأسمالية وعنصرية ـ بما في ذلك الديمقراطيات الليبرالية ـ نزعات فاشية كامنة. تطرح أنجيلا ديفيس فرضية مفادها أن تجربة الفاشية ليست موحدة، بل متمايزة: ما قد يبدو لعلماء القانون أو السياسة نظاماً سياسياً أو حكماً فاشياً، قد يحتوي في الواقع على أنظمة سيطرة متعددة. بصيغة مبالغة: قد تكون نفس الدولة ليبرالية بالنسبة للبعض، وفاشية بالنسبة لآخرين. وبالرجوع إلى المفكر إرنست فرانكل، يسمّي بيل مولن هذه الظاهرة "الدولة المزدوجة": هناك، أولئك الذين يتمتعون بالحقوق نتيجة لإنتماءات عرقية أو اجتماعية معيّنة، وهناك آخرون محرومون من الحماية ومعرّضون لسلطة الدولة بلا وساطة أو دفاع. طبيعة "الدولة المزدوجة" هذه تُشكّل الديمقراطيات الليبرالية بطريقة تُبقي فيها دوماً إمكانية الفاشية المتصاعدة كامنة في بنيتها. هذا هو الجوهر المادي لحقيقة الاقتباس الشهير للقس مارتن نيمولر: «عندما بدأ النازيون بالشيوعيين، ألتزمتُ الصمت».(بعدها لم ينفع صمتهم،فأصابهم ما أصاب الآخرين ـ المترجم ـ) الفكرة المركزية هي التالية: قد تتغير الأهداف والأساليب، لكن من يتم استهدافهم دائماً هم الأشخاص المُعنصرَون، والمهاجرات والمهاجرون، والمنشقّات والمنشقّون. نحن نعيش في مجتمعات يوجد فيها، منذ الآن، مجالات واسعة من إنعدام الحقوق على أساس عنصري، حيث تتصرف الدولة كدولة بإجراءات قمعية ـ على كل حدود، في كل سجن، وفي كل معسكر إحتجاز. يوضح النضال المناهض للفاشية الراديكالي، سواءاً من منظور السود أو منظور الإلغاء، أن السياسة المناهضة للفاشية يجب أن تركز على فضاءات الخضوع والاستبعاد التي توجد بالفعل في المجتمع الليبرالي. بالطبع، يحدث فرق كبير عندما يصبح جهاز الدولة القمعي وآلية الترحيل المحور الأساسي للسياسة. التأييد الحماسي للسلطة الحكومية هو جزء جوهري من الفاشية. ومع ذلك، فإن عملية الفاشية لا يمكن أن تحدث إلا كون أسس القمع والقوى العاملة فيه موجودة بالفعل. ولهذا السبب، يُعد النشاط النضالي الراديكالي حول موضوعات الحدود والشرطة والسجون عملاً مناهضاً للفاشية. هذه هي المراكز العصبية لعملية الفاشية. وفي قضية الهجرة، نرى ذلك بوضوح شديد: حيث تفتح لبعض الجهات المجال للقيام بأفعال مفرطة، وقد يتم ذلك دون أوامر مباشرة. الفاشية تمكّن بعض الأفراد من أن يصبحوا منفذين للسلطة بصورة فردية.
أنت تصف هذه الديناميكية بمصطلح «الحرية الفاشية». هل هي استفزاز؟
هي بلا شك ظاهرة تحمل الكثير من التناقضات. أستهدافي الاستفزازي هنا هو بالأساس ضد التصور المطمئن الذي يرى الفاشية كالنقيض التام للحرية، أي كإلغاء كامل لها. علينا أن ندرك أن الفاشية تعد بطرق مختلفة، مجموعات وأفراداً معينين بأشكال من الحرية. وغالباً ما تكون هذه الحريات مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بهويات الاستعمار الاستيطاني: الحرية في السيطرة، والنهب، والمراقبة. تاريخياً، كانت هناك أيضاً حريات تتعارض مع أشكال المحافظة التقليدية. تُظهر داغمار هيرتسوغ في كتابها تسييس اللذة أن النازية شهدت أشكالاً مستقلة من التحرر الجسدي والجنسي. كانت هذه الأشكال بالطبع بطريقة أبويّة وتمييزية، حيث اتسمت بمعاداة المثلية والتمييز العنصري بشكل وحشي، لكنها في الوقت ذاته أتاحَت أشكالاً جديدة من السلوك الجسدي التي كانت في بعض الأحيان مخالفة للنمط الجنساني المسيحي المرتبط بالأسرة. وعندما نساوي بين الفاشية وأقصى أشكال القمع المُحافظ المُتشدد، نفقد حقيقة أن الفاشيين يضطرون أحياناً إلى التكيف مع المجتمع الذي يعيشون فيه بطرق متناقضة للغاية. تظهر وعود الحرية التي تقدمها التيارات اليمنية المعاصرة في سياق تاريخي محدد يتسم بنصف قرن من النيوليبرالية. وهذا يؤدي إلى إرتباطات غريبة بين السياسة اليمنيية والفردية المتطرفة. فكّر في الليبرتاريين، أو المعارضين للتطعيم، أو حركة "المفكرين المستقلين" الذين يهوون مصطلحات مثل الحرية والسيادة، لكن في الوقت نفسه يؤيدون أشكالاً متطرفة من العنف الحكومي طالما كانت موجهة ضد الأشخاص الذين يُعتقد أنهم يعوقون تحقيق تطور فرديتهم الريادية بشكل كامل. النقطة المهمة الثانية هي أننا بحاجة إلى الابتعاد عن الفهم الجامد لما تعنيه الفاشية على المستوى الاقتصادي. فقد نشأت الفاشية الإيطالية برؤية إيجابية جداً تجاه الليبرالية الاقتصادية. عند موسوليني، يعني ذلك: استخدام القوة الحكومية لتحرير الأسواق. بالطبع، هذا المفهوم مرّ لاحقاً بتحولات عديدة، وأصبح في النهاية شعار "كل شئ من أجل الدولة". ولكن هذا ليس جوهر الفاشية، ولا هو الرؤية الأصلية لها.
في تحليلك تجمع بين التقاليد النظرية الراديكالية السوداء ومدرسة فرانكفورت، وهما تقليدان تحليليان يدرسان العنصرية ومعاداة السامية. هل يمكن أن تساعدنا هذه العلاقة في فهم كيفية استغلال مكافحة معاداة السامية، خاصة في ظل الإبادة الجماعية في غزة، والتي نلاحظها على الصعيد العالمي، وبالأخص هنا في ألمانيا؟
بسبب الضغوط المنسقة التي مارسها الاحتلال الإسرائيلي على مدار عقود، وأيضاً بسبب الكثير من الأشخاص الذين يرتبطون ارتباطاً قوياً بالصهيونية، أصبح من الصعب جداً صياغة نظرية حديثة لمعنى معاداة السامية في وقتنا الراهن. تظهر المشكلة بشكل غريب وساخر: فقد انعقد مؤخراً في إسرائيل مؤتمر حول معاداة السامية، دُعي إليه "بقائمة من هو من" في اليمين المتطرف الأوروبي – جميعهم أشخاص يشاركون بشكل كبير في نشر نظريات المؤامرة المعادية للسامية. في المقابل، تعرض اليسار التقدمي في حزب العمال تحت قيادة كوربين لهجوم من خلال فضيحة معاداة السامية التي تم تأجيجها عمداً. ويمكن ملاحظة ظاهرة مماثلة في قمع حركة التضامن مع فلسطين، من ألمانيا وحتى الجامعات في الولايات المتحدة. بالنسبة لي، من المهم التفكير في العلاقة بين الرأسمالية العرقية ومعاداة السامية. في هذا السياق، تثير بعض أعمال مدرسة فرانكفورت اهتماماً، مثل «مشروع البحث حول معاداة السامية» عام 1941، وأيضاً العمل الذي أنجزه في نفس الفترة المقاوم التروتسكي أبراهام ليون، الذي قُتل في أوشفيتز(معسكر إعتقال.المترجم) عام 1944، بعنوان «مسألة اليهود والرأسمالية». كلاهما محاولتان لفهم كيف تؤثر الآليات الكامنة في الرأسمالية، والتي تعتمد على تصنيف اجتماعي عرقي للطبقات والاستغلال، على مفهوم معاداة السامية. معاداة السامية ليست مجرد مرض نفسي أو اضطراب ذهني، بل يجب علينا التفكير في شروطها التاريخية، والطريقة التي تسقط بها الصراعات الاجتماعية الواقعية وتحرفها. كما يجب أن نكسر الانعكاس المثالي الذي يفترض وجود شكلين مختلفين تماماً وغير قابلين للمقارنة من العنصرية – أي العنصرية ضد السود ومعاداة السامية – والتي لا يوجد بينهما أي علاقة أو توتر. في إسرائيل، هناك منذ زمن طويل نقاش داخل اليسار المناهض للصهيونية واليسار الليبرالي الصهيوني حول مفهوم الفاشية. كان هذا موضوعاً مطروحاً حتى في وقت تأسيس إسرائيل والنكبة، وقد أوضح ذلك بجلاء نُقاد يهود مثل حنه أرندت الذين انتقدوا الصهيونية الإسرائيلية. وعندما عادت هذه المناقشة في أواخر السبعينيات، خلال حكومة مناحيم بيغن، صدرت بعض المقالات المهمة عن مجموعة "متسبين" التي تضم ناشطين إسرائيليين ماركسيين مناهضين للصهيونية. كانوا ينتقدون خطاب الفاشية لأنه يخفي دراسة مادية للاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي وعلاقته بالإمبريالية الأمريكية. كانوا يقولون: عندما يُقال "الدولة تصبح فاشية"، هناك خطر في تجاهل أن الظاهرة الفاشية تنشأ من الدولة القائمة أصلاً. وهناك خطر في تمجيد النظام الذي تنبع منه الفاشية باعتباره نقيضه أو حتى علاجه. منذ عام 2000، يكرر بعض المُعلقين الإسرائيليين القول، إن الفاشية على الأبواب، لكن هذه التعليقات غالباً ما تتجاهل تماماً وضع الفلسطينيين، بما في ذلك المواطنين الفلسطينيين داخل إسرائيل.
أحدى الجوانب المقلقة للغاية للفاشية المعاصرة هو تفاعلها العنيف مع الكارثة البيئية. كيف تنظر أنت إلى هذه الظروف التاريخية؟
هذا سؤال كبير، لكن هناك رابطاً أشار إليه الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو في خطاب ملحوظ. فقد ربط بين الإبادة الجماعية في غزة وتواطؤ القوى الأوروبية مع النزاعات والعنف الذي تثيره أزمة المناخ المتصاعدة بلا هوادة. يقول إن ما نراه في غزة هو تجربة لما سيأتي في المستقبل ـ نحن مدعوون إلى التصلب، وإلى المشاركة في الجريمة العنيفة التي تُمارس ضد مجموعات سكانية تُصنف على أنها بلا قيمة أو فائضة عن الحاجة. بشكل عام، تقوم الفاشية دائماً على تحديد بعض الأشخاص كـ "زائدين عن الحاجة"، مُستخدماً الخطابات والسياسات والعنف الحكومي لتحقيق هذه التصورات. بهذا المعنى، كان "الفيروس الفاشي"، كما عبّر عنه كارل بولاني عام 1934، موجوداً منذ البداية. فالرأسمالية تُنتج سكاناً فائضين وتصنف مجموعات كاملة على أنها زائدة أو دون قيمة أو غير جديرة بالكرامة. الفاشية هي مشروع عنيف وواعٍ لتأكيد هذه الهياكل وفرضها. يمكن القول إن الرأسمالية تكون دائماً عنصرية، لكن هناك لحظات يبرز فيها العنصري كمشروع سياسي تأكيدي. في هذه اللحظات، لا يكون الأمر مجرد قبول لهرمية الكرامة والامتيازات والزيادة، بل يتعلق بتثبيت هذه الهرمية وإنتاجها، وإتباع منطقها حتى مرحلة الإبادة. لا يقتصر العنف والتمييز الفاشي على العنصرية فقط. يمكن أن نفكر، مثلاً، في (علم تحسين النسل) والمئات من آلاف الأشخاص ذوي الإعاقات أو التنوع العصبي أو الهوية الجنسية المختلفة، الذين قُتلوا في ألمانيا في ثلاثينيات القرن العشرين، قبل أن تبدأ الحرب.
ما هي أهمية التقليل من قيمة ما كان النازيون يسمونه «الحياة غير المُستحقة بالعيش» بالنسبة لليمين المتطرف اليوم؟ وهل يرتبط ذلك بأزمة المناخ؟
أفكر في النقاش المزعج حول التوحد في الولايات المتحدة. قال روبرت ف. كينيدي الابن في خطاب مرة: «هؤلاء الأطفال لن يلعبوا أبداً ولن يدفعوا الضرائب أبداً.» هذا يتماشى مع الفكرة النيوليبرالية التي ترى الإنسان كمالك وحيد لجسده، ولقوته على البقاء، وحتى خلوده المحتمل. هذا يتخذ شكل سياسة مناهضة للدولة تضع علامات على أشخاص آخرين بأنهم طفيليون وعديمو القيمة. ويمكن رؤية هذا أيضاً في الأبعاد اليومية البسيطة في مجتمع منظم حول رأس المال والملكية والمنافسة. ومن اللافت أنه على المستوى العالمي أصبحت شخصية المهاجر والشخص المتحول جنسياً نقاط ارتكاز في شبكة دولية فاشية. إنها تهديدات من الخارج ومن الداخل في الوقت ذاته. في كتابه «دراسات في الشخصية السلطوية» يصف أدورنو، نمطين من التوجهات الرجعية في العالم: التعميم النمطي (التصنيف النمطي) والتشخيص الشخصي. وكلاهما يرتبط اليوم في نواحٍ عديدة بالتقشف وآثار الركود والأزمة المالية، لكنهما ينموان أيضاً على أرضية من الخوف والضياع في مواجهة ظاهرة الاحتباس الحراري وانهيار المناخ. إن إنكار التغير المناخي من قبل اليمين المتطرف هو في مستوى معين شكل من أشكال الواقعية المناخية. لأنه يستند إلى رؤية لعالم تسوده النُدرة، حيث تُمارس عنف هائل ضد من يُنظر إليهم كمهددين لثروتهم ورفاهيتهم المتناقصة. وراء هذا يوجد تشاؤم عميق. هذا الشعور بالانحلال والفساد والتحلل كان حاضراً بالفعل في الفاشيات التاريخية. اليوم نجد صدى لهذا في لغة علمية متخصصة عندما يُتحدث عن انخفاض مستويات (التستوستيرون )أو عدد الحيوانات المنوية أو معدلات الولادة. هناك حالة من التشاؤم التي، رغم إحتوائها على خيالات عبثية، إلا أنها مرتبطة بظواهر واقعية. السؤال المهم جداً للتيار اليساري هو: كيف يمكن إستيعاب هذا الشعور الحقيقي بالكارثة والتعبير عنه، وفي الوقت نفسه حماية الذات والآخرين من الانجراف نحو الحلول المفترضة التي تقوم على الإقصاء والإبادة.
هذا يقودني مباشرة إلى سؤالي الأخير: ما هي الاستنتاجات التي تستخلصها من تأملاتك بالنسبة للسياسة المناهضة للفاشية؟
المسألة تكمن في فهم مكافحة الفاشية كسعي لتفكيك الهياكل والذاتيات التي تمكّن الفاشية من الظهور. وكرد فعلٍ على الحركات الفاشية، فإن مكافحة الفاشية تكون ضرورية في كل المواقف الممكنة. لكنها تصبح سياسة حقيقية فقط عندما تتعامل مع هياكل السلطة الحكومية والرأسمالية التي توفر للفاشية ساحة نشاطها، وأساسها، ومواردها البشرية. لذلك، أود أن أقول إن العمل المناهض للفاشية يتطلب الدفاع عن سياسات الإلغاء، وعن تحرير الأشخاص المثليين والمتحولين جنسياً، وعن الحد من قوة الشركات والقضاء عليها، وخاصة مكافحة الأنظمة القمعية والعنصرية الخاصة بالهجرة. ومن وجهة نظري، فإن التنسيق بين هذه المجالات هو مستقبل السياسة المناهضة للفاشية في الحاضر والمستقبل.
ألبيرتو توسكانو* مُدرّس في جامعة سيمون فريزر الكندية وكلية غولدسميث في لندن. وهو مؤلف كتاب «الفاشية المتأخرة: العنصرية، الرأسمالية وسياسة الأزمات السلطوية» و«خرائط المطلق». كما أنه محرر مشارك لكتاب راث ويلسون جيلمور «جغرافيا الإلغاء: مقالات في التحرر» و«مقالات نقدية» لجورج باتاي ، وقد ترجم أعمال أنطونيو نغري وآلان باديو إلى اللغة الإنجليزية.
#حازم_كويي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الرأسمالية تتغير – لكنها لا تتحول إلى -إقطاعية جديدة-
-
العولمة انتهت، لكن النيوليبرالية ما زالت حيّة
-
عن سبل الخروج من أزمة المناخ
-
الحزب الشيوعي النمساوي.. حزب لا مثيل له؟
-
كيف يُعرض ترامب الدولار للخطر؟
-
أميركا أولاً،مهما كان الثمن،إلى أين؟
-
إلى أين يتجه اليسار الجديد؟
-
ترامب وأزمة المناخ
-
مقارنات الحقبة النازية وإستمراريتها
-
أميركا تستعد لتأثيرات ترامب في فترة رئاسته الثانية
-
دكتاتورية الليبراليون الجُدد
-
الرجعيات العالمية والشبكات اليمينية في أنحاء العالم
-
كيف سيتصدى حزب اليسار الألماني أمام صعود اليمين المتطرف
-
البدايات الأولى للتيارات الاشتراكية اليابانية
-
عودة حزب اليسار الألماني
-
تزايد المشاكل التي تواجه جورجيا ميلوني
-
هل هذه هي الفاشية الآن؟
-
اليسار يواجه ثورة ثقافية حقيقية
-
رياح منعشة تهب داخل حزب اليسار الألماني
-
-الاتحاد الأوروبي يواجه الإنكسار-
المزيد.....
-
عمدة نيويورك يحذر المتظاهرين المناهضين لهيئة الهجرة والجمارك
...
-
يا له من سؤال غبي.. المتحدثة باسم البيت الأبيض تنتقد سؤالا ح
...
-
اشتباكات بين المتظاهرين والشرطة في لوس أنجلوس
-
دموع تماسيح الليبرالية المُحتضَرة
-
إيرلندا الشمالية: اشتباكات بين الشرطة ومتظاهرين خلال احتجاج
...
-
نعي: حزب النهج الديمقراطي العمالي يودع الرفيق محمد الموساوي
...
-
انتفاضة شعبية ضد وكالة الهجرة الأمريكية
-
من المساندة الرمزية إلى الفعل: هل يجري تنظيم تضامن الحركة ال
...
-
هل تهز اتهامات التزوير شرعية قيادة حزب الشعب الجمهوري؟
-
بعد إعلان حل حزب العمال الكردستاني… هل تنتهي معاناة سنجار أخ
...
المزيد.....
-
الإمبريالية والاستعمار الاستيطاني الأبيض في النظرية الماركسي
...
/ مسعد عربيد
-
أوهام الديمقراطية الليبرالية: الإمبريالية والعسكرة في باكستا
...
/ بندر نوري
-
كراسات شيوعية [ Manual no: 46] الرياضة والرأسمالية والقومية
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
طوفان الأقصى و تحرير فلسطين : نظرة شيوعيّة ثوريّة
/ شادي الشماوي
-
الذكاء الاصطناعي الرأسمالي، تحديات اليسار والبدائل الممكنة:
...
/ رزكار عقراوي
-
متابعات عالميّة و عربية : نظرة شيوعيّة ثوريّة (5) 2023-2024
/ شادي الشماوي
-
الماركسية الغربية والإمبريالية: حوار
/ حسين علوان حسين
-
ماركس حول الجندر والعرق وإعادة الانتاج: مقاربة نسوية
/ سيلفيا فيديريتشي
-
البدايات الأولى للتيارات الاشتراكية اليابانية
/ حازم كويي
-
لينين والبلاشفة ومجالس الشغيلة (السوفييتات)
/ مارسيل ليبمان
المزيد.....
|