أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - حازم كويي - -نيتشه والتمرد: بين النقد الثقافي والتقدّم بعد 125 عاماً-















المزيد.....


-نيتشه والتمرد: بين النقد الثقافي والتقدّم بعد 125 عاماً-


حازم كويي

الحوار المتمدن-العدد: 8451 - 2025 / 8 / 31 - 13:46
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


"أفيون المثقفين"
الجزء الثاني
إنغار سولتي*

يمكن قراءة نيتشه على أنه دعوة للتشكيك في كل شئ. بالنسبة للملتزمين بالتقاليد، فإن "الشكّ خطيئة"، وبذلك يمنعون، كما رأى نيتشه، أي تقدّم أو ارتقاء ثقافي وفكري.
وكان سؤاله: كيف يمكن أن يولد "العقل من اللاعقل، والشعور من الجماد، والمنطق من اللامنطق، والنظر الخالي من المصلحة من الإرادة الطامحة، والحياة للآخرين من الأنانية، والحقيقة من الأخطاء"، أي بشكل مختصر "شئ ينشأ من نقيضه"؟
وكانت إجابته: من خلال "العقول الحرة".
وظيفة هذه العقول عند نيتشه هي "التنقية عبر الانحراف".
فالمجتمع يعمل أفضل عندما يخضع الفرد للنظام الجماعي، لكن هذه التوافقية تؤدي إلى زيادة الغباء.
والتقدّم العقلي يعتمد على الأفراد غير المقيدين، الأكثر تردداً وتجريباً، الذين يحاولون الجديد والمتنوع.
كون المرء مبتكراً هو، بالنسبة لنيتشه، وظيفة المفكرين المستقلين، العباقرة الأصليين، والرجال الأعلى.
حيثما يجب أن يحدث تقدّم، يجب أن تستفز الطبائع المنحرفة، وأن تُلحق جروحاً بين الحين والآخر بالعنصر المستقر في المجتمع، لأنه من خلال هذه الجروح يمكن حقن شئ جديد ورفيع.
كما يمكن فهم نيتشه كدعوة لاستخدام العقل الشخصي، وكأنه فيلسوف تنويري.
بلا شك، فإن رفض النظامية جزء أساسي من "تدمير العقل" على طريق الفاشية،وفي الوقت نفسه، هو مؤيد قوي لعصر النهضة، ليس فقط كإحياء للتقاليد الهيلينية، بل كتحفيز لـ العقل الحر والعصر الذهبي لهذه الألفية.
القرن العشرون عند نيتشه
رغم أن نيتشه يظهر بمظهر المستنير والمنفتح فكرياً، إلا أن ما يميزه حقاً هو توجهه الحاد نحو إلغاء تحرير الجنس البشري ككل، وهو توجه مُتجذر في تشاؤمه الثقافي النخبوي وكرهِه للآخرين، ويظهر في نزعتِه لإنشاء "نظام طبقي سياسي" في إطار عقلانية تفوقت على التنوير نفسه.
بهذه الطريقة من التفكير، أثر نيتشه بعد وفاته على ملايين الشباب الذين، وهم غريبون عن أنفسهم ويبحثون عن هويتهم، وجدوا أنفسهم في تناقض مع الواقع القائم.
وقد يجد هؤلاء الشباب أنفسهم في كتابه "هكذا تكلم زرادشت"، حيث كتب:
«الإنسان حبل، مشدود بين الحيوان والإنسان الأعلى – حبل فوق هاوية (...). ما يمكن أن يُحَبّ في الإنسان، هو أنّه انتقال وزوال. إنني أحب الذين لا يعرفون أن يعيشوا إلا كزائلين، لأنهم هم العابرون. أحب المحتقرين العظام، لأنهم الموقِّرون العظام، وسهام الشوق إلى الضفة الأخرى.»
كان لنظريات نيتشه أثر كبير في الحركة الشبابية والطلابية، التي انقسمت لاحقاً بين النازيين (حركة "القوة من خلال الفرح") والمعارضين للنازية (مثل "قراصنة إيدل فايس"). (إيدل فايس: هم جماعات شبابية ألمانية معارضة للنظام النازي خلال الحقبة الهتلرية، خاصة في أواخر ثلاثينيات وأثناء أربعينيات القرن العشرين).
وكانت أعمال هيرمان هيسه متأثرة تماماً بفكر نيتشه، مثل كتابه: "فقط للمجنون"، الذي يعكس روح الفردية والتمرد.
كما أن مدرسة فرانكفورت للفكر النقدي، التي مثلت الذكاء غير التقليدي (كما يقول أليكس ديميروفيتش)، وارتباطها بـ"الحنين إلى المختلف تماماً" (ماكس هوركهايمر)، وتقديرها للفردية البورجوازية في القرن التاسع عشر، لا يمكن تصورها دون نيتشه.
وجود نيتشه يمكن رصده أيضاً في تمرد الفلسفة الوجودية – من فكر جان بول سارتر الفلسفي إلى الأعمال الأدبية لألفريد أندرش – وفي بحثهم عن حرية الإرادة والسيادة على الذات.
كما أن انتصار علم النفس في المجتمع الحديث والقرن العشرين، وظهور علم النفس كعلم ضروري لا يمكن للعلوم الأخرى تجاوزه، ليس مجرد إسهام فرويد، بل أيضاً نتاج تأثير نيتشه.
حتى في الأعمال الأدبية والموسيقية لبرتولت بريشت وفرانز جوزيف ديكنهارت، يظهر أثر نيتشه، مثلما يغني ديكنهارت في أغنية "الأحد الألماني" أنه يشعر بـ"البرودة من الرتابة"، على غرار زرادشت الذي يهاجم الراحة البائسة ويعتبرها جديرة بـ"الازدراء".
يظهر نيتشه في بعض المواضع قريباً من جان جاك روسو في عمله التربوي «إميل»، حيث يُدرَك المجتمع بوصفه قوةً قمعية، في حين يُنظر إلى الطفل باعتباره تجسيداً للبراءة والإبداع اللذين ينبغي تحريرهما. كما يتقاطع مع فرويد في تصوره للمجتمع الذي يفرض على الـ «هو» جهاز الـ «الأنا الأعلى» المتمثل في الأعراف والتقاليد، ومن خلال ذلك تتأسس الحضارة – وهي الفكرة التي رفضها نيتشه رفضاً قاطعاً.
إن النقطة الحاسمة عند نيتشه هي مسألة المساواة، التي أعاد صياغتها باتجاه اللامساواة: إذ إن التحرر من التقاليد ليس متاحاً إلا للعباقرة، أي «الإنسان الأعلى»، الذي يملك الحق في تسخير «الجماهير المحتقرة» ضمن إطار «إرادة القوة».
ومع ذلك، بالنسبة لنيتشه، المتمرد الأرستقراطي (دومينيكو لوسوردو)، بقي التناقض قائماً: فتحرير "الهو" يولّد ما رفضه من الطبقات الدنيا. لكنه حاول حل هذا التناقض من خلال "الإنسان الأعلى الحيواني":
"لولا الأخطاء الكامنة في الافتراضات الأخلاقية، لظل الإنسان حيواناً"، كما جادل بشكل مشابه لفرويد.
ومن هنا تنشأ الكراهية تجاه المستويات الأقرب للطبيعة الحيوانية، ومن خلالها يمكن تفسير الازدراء السابق للعبيد باعتبارهم ليسوا بشراً، بل أشياءاً.
ومع ذلك، كان هدف نيتشه هو تحرير الحيوان الداخلي كحيوان مفترس من قيوده:
"كانت النفس تنظر بازدراء إلى الجسد، أما الآن، فالمسألة تتعلق بإعطاء الأولوية للجسد، لإرادة الذات."
مناهضة الرأسمالية؟
لم يقتصر نيتشه على النقد الثقافي أو الإشادة بالتمرد الشخصي أو تقديم نصائح للحياة، بل كان تفكيره مرتبطاً بسياق المجتمع البورجوازي.
يمكن قراءة أعماله أيضاً على أنها نقد للرأسمالية، تحتوي على يوتوبيا للحرية.
هذا النقد يستند إلى المثل الأعلى الهلنستي، أي الإنسان الذي يطور جميع قدراته الإبداعية – الفكرية، الموسيقية، الشعرية، الرياضية وغيرها.
وكان يرى أن الإغريق، وبالطبع يقصد أصحاب الرق وليس العبيد، يمثلون أجمل وأكمل وأغبط نوع بشري ظهر على الإطلاق، وأكثره جاذبية للحياة.
الإنسان الحر والكامل وغير المغترب هو شامل ومتكامل:
"الإغريق لم يكونوا علماء فحسب، ولم يكونوا أيضاً مجرد لاعبي جمباز بلا روح. هل علينا فعلاً" – يتساءل نيتشه – "اختيار جانب على حساب الآخر؟ أم أن هناك شقاً في الطبيعة البشرية حَدثَ بسبب المسيحية لم يعرفه شعب الانسجام؟"
وقد استلهم كارل كاوتسكي، في إطار حركة العمال، هذا المثل الأعلى.وكانت التهمة البورجوازية بأن الاشتراكية ستلغي "الحرية في العمل" سخيفة، لأن الرأسمالية نفسها، بسعيها نحو الإنتاج الضخم، تفعل ذلك بالفعل.وعصر الآلة خلق إمكانات "تحرر الإنسان من العمل".
على عكس اليونان القديمة، حيث كانت حياة العبيد غير الحرة شرطاً لحياة الأسياد الحرة، أصبحت هذه الحرية ممكنة للجميع:
"تلك التربية المتناغمة والسعيدة، التي ظهرت مرة واحدة فقط في تاريخ البشرية كامتياز لقلة مختارة من الأرستقراطيين"
سيصبح هذا المثُل الأعلى "ملكية مشتركة لجميع شعوب الحضارة"؛ ما كان يفعله العبيد في الماضي، ستقوم به الآن الآلات.
"سعيد كل من قُدّر له أن يضع قوته في خدمة تحقيق هذا المثال الرائع!"
نيتشه، الذي كان يكتب في نفس الفترة، كان يمكنه أيضاً الوصول إلى يوتوبيا كاوتسكي الواقعية.بلا شك، هناك أيضاً لديه تصريحات نقدية للرأسمالية:
"في الماضي، كان يُنظر بوقار صادق إلى من يتعاملون بالمال، حتى لو كانوا ضروريين، وكان يعترف بأن كل مجتمع يحتاج إلى نخب معينة."
لكن الآن، أصبح المال والسلطة هي المسيطرة على روح الإنسان الحديث.
هذه المناهضة الظاهرية للرأسمالية تبقى، مع ذلك، محصورة ضمن التشاؤم الثقافي، الذي يقتصر للأسف على سيطرة المال البغيض.
ومن خلال رثاء نيتشه، يحدث فقط استياء شخص يظن نفسه ملكاً فيلسوفاً أفلاطونياً، لكنه ليس في القمة كما يراه حقه الطبيعي بصفته عبقرياً و"روحاً حرة".
أخلاق العبيد والسادة
الطريقة التي فكر بها نيتشه حول "الإنسان الأعلى" تشير إلى أن العالم الذي يتحقق فيه هذا الإنسان ليس في عالم آخر بعيد، بل في هذا العالم وبين حدود الرأسمالية.كانت رؤية كاوتسكي تقوم على فكرة:
"الإنسان الأعلى ليس استثناءاً بل قاعدة، إنسان متفوق على أسلافه، لكنه ليس متفوقاً على أقرانه، إنسان سامٍ يبحث عن عظمته بين العظماء، وسعيد بين السعداء، لا بين الأقزام المشوهين."
بالنسبة لنيتشه، لم يكن المثل اليوناني قابلاً للتحقيق للجميع، ليس لأنه غير قابل للتحقيق، بل لأنه كان يكره أي فكرة عن المساواة بشدة.
صورة "الإنسان الأعلى" لا يمكن أن توجد دون صورتها المقابلة: "الإنسان الأدنى"، الذي تمكن أعماله والقيمة الزائدة التي يخلقها من توفير نمط حياة "الإنسان الأعلى".
أخلاق السادة عند نيتشه لا وجود لها إذا لم تكن أخلاق العبيد هي صورتها المقابلة.
نيتشه يعتمد على "الإنسان الأدنى" مادياً وفكرياً.
أما بالنسبة لكاوتسكي، فبفضل زيادة قوى الإنتاج يمكن أن يكون كل الناس بشراً حقيقيين،أي شخصيات اشتراكية.لكن هذا السيناريو كان مصدر خوف نيتشه الأكبر، لأنه رآه تهديداً من طراز شمولي مساواتي، كان يجب – وفق نيتشه – التصدي له من خلال سياسة القضاء عليه مُسبقاً.
كتب نيتشه عن هذا الموضوع في تأملاته حول العبقرية، التي كان يراها في مقابل "الدولة المثالية":
"الاشتراكيون يطمحون إلى توفير حياة جيدة لأكبر عدد ممكن من الناس."ولكن، وفق نيتشه:
"إذا تحققت حقاً الدولة الكاملة، فإن هذه الحياة الجيدة ستدمر الأرض التي ينمو منها الفكر الكبير، وبشكل عام الفرد القوي."هذه هي عالم "الإنسان الأخير"، الذي يعيش في عالم الدفء، والثقة، والتعامل الحذر مع الآخرين.في هذا العالم:
"لن يكون هناك فقير أو غني بعد الآن، فكلاهما مرهق للغاية. (...) الجميع يريد الشئ نفسه، الجميع متساوٍ، من يشعر بشئ مختلف يذهب طواعية إلى المصحة العقلية."
ما يُعتبر يوتوبيا للعبيد (العاملين بأجر)، هو ديستوبيا للفيلسوف صاحب أخلاق السادة.
ما يُعتبر دولتهم الشعبية "أمناً ضد السوق"، هو بالنسبة لنيتشه ملل وملل مميت.
وما يُفترض أن يرتقي بثقافة العبيد إلى مستوى أعلى، هو بالنسبة لنيتشه نهاية الثقافة العليا.
وَجَهَ نيتشه نقده للإنسانوية البحتة، وللرحمة التي كان يعتبرها ضعفاً مسيحياً. فـ"القلب الدافئ والمتعاطف" يريد القضاء على الطبيعة العنيفة والوحشية. بالنسبة له، أعلى درجات الذكاء وأدفأ القلوب لا يمكن أن تتجسد في شخص واحد، و"المسيح (…) الذي نتصوره أحياناً كأدفأ قلب" ساهم في تجهيل البشر ودعم الضعفاء عقلياً وعرقل نمو العباقرة.
أما الدولة، وفقاً لنيتشه وبالاستناد إلى هوبز، فهي "تنظيم ذكي لحماية الأفراد من بعضهم البعض"، ولكن إذا أسرف الإنسان في تحسينها، فإنها في النهاية تضعف الفرد بل وتفككه.
سياسياً، يدافع نيتشه عن تعزيز النخبة بدل التعليم للجميع، ويظل حتى اليوم مرجعاً في الصراع الثقافي اليميني ضد "أصحاب القلوب الطيبة" و"المساواة القسرية" و"الاستيقاظ". وباختصار: كما قال وولفغانغ فريتز هاوك، سياسياً هو رجعي.
في رفضه لمطالب المساواة من قبل الطبقات الأدنى، أصبح نيتشه سلطوياً. وعلى الرغم من نقده للمسيحية، كانت حركته الفكرية ديناً متزامناً متنكراً في شكل معادٍ للمسيحية.
وصف نيتشه نفسه بأنه "حيوان موقر". كان مفهوم "التلميذية" مألوفاً لديه، كما كتب بي فيرنر روس. نشأ نيتشه تحت سلطة أب صارمة، وتعلم التكيف مع القوانين والأنظمة منذ الطفولة، حتى أنه استسلم لسلطة النساء في ناوم بورغ بدون اعتراض، وامتثل لتأديب مدرسة بفرط، ثم لأستاذه الأكاديمي الذي فتح له طريق الحياة الأكاديمية في بازل.
خلال حياته، كان نيتشه تلميذاً لثلاث: لشوبنهاور، ثم لفاكنر، وأخيراً تلميذ نفسه فقط. وفي نهايته، صور نفسه كـ"المصلوب" وانفصل عن الحياة في وهمٍ كونهِ إلهاً.
حاول توحيد الممالك الأوروبية في "رابطة مناهضة لألمانيا" لإجبار ألمانيا على خوض "حرب يأس"، وكتب إلى الملك الإيطالي باعتباره كابن له، مستخدماً قصر كويرينال في روما كعنوان له.
وكمؤسس وحيد لدينهِ الخاص، كان نيتشه يسعى إلى تجنيد أتباع، ليقودهم إلى طرق سرية وأماكن للرقص، وأن يكونوا أتباع إله "مجهول" – إله من إختراعه.
ظهرت السلطوية لدى نيتشه أيضاً في ميله إلى التفكير الصارم والثنائي، وفي استخدامه للتعبيرات المُبالغ فيها، ورغبته في القضاء على مشاكله بوحشية. كما لاحظ أدورنو، الخضوع السلطوي لأنظمة المعتقدات يقترن دائماً بعدوانية سلطوية تجاه غير المطلعين، الذين "لا يعرفون معنى أفضل للحياة سوى النوم الجيد بلا أحلام".
في نرجسية نيتشه كانت رغبة في العقاب تجاه المرضى والموتى، وهي نفس العدوانية السلطوية لدى المتدينين المتطرفين المسيحيين الذين يهددون الكفار بالعذاب الأبدي.
النيتشويون ما بعد الحداثة
كيف أمكن لهذا المفكر السلطوي، المعادي للديمقراطية، والمعادي للاشتراكية، واللامساواتي، والمعادي للنسوية – أي نيتشه – أن يتحول إلى منظّر مرجعي لليسار؟
هل كانت هناك حاجة إليه من أجل تجاوز الدين؟ كلا، فقد كان إرنست بلوخ يعلم مسبقاً أن «المسيح الدجّال النيتشوي» غير ضروري. كما أنه لا يشكل أيضاً نقطة الدخول الرئيسة بالنسبة للمفكر اليساري-النيتشوي الأبرز: ميشيل فوكو، الذي مثّلت لديه «الحماسة المكتشفة حديثًا تجاه نيتشه» نقطة البداية لمشروعه الفكري.
كان اهتمام فوكو، المثليّ، مُنصبّاً على إ نعطافة نيتشه ضد الأخلاق السائدة، تلك التي انطلقت من أسئلة «الفضول الخطر»: «ألا يمكن قلب جميع القيم؟» وقد ارتبط ذلك بادعاء نيتشه أنه ابتكر «قيمة مضادّة للحياة، ذات طابع جمالي صرف، مناهِضة للمسيحية» و«ديونيسية».(ديونيس هوإله الخمر والخصوبة اليوناني ـالمترجم ـ).
لقد نظر نيتشه إلى عمله بوصفه «تاريخ الانفصال الكبير»، و«إرادة الإرادة الحرة»، التي تجلت له في النهاية باعتبارها «إرادة القوة».
تأكيد الذات والمنظور النيتشوي
هذا التأكيد على الذات، إلى جانب تأكيد نيتشه أن "الإنسان"، بل "كل شئ أصبح"، وأنه لا توجد حقائق أبدية أو "حقائق مطلقة"، وإنما فقط وجهات نظر وتفسيرات ذاتية"، يمكن تحويلها إلى نوع من الإرادة الرومانسية للفعل أو العمل الإنساني الفاعل.
هذا الفعل يمكن أن يكون يمينياً، إذا اعتبر الأفراد البطوليين – مثل "الإنسان العنيف" أو "طبائع مثل فاكنر" – هم الجهات الفاعلة العظيمة وراء الأحداث، ويمكن أن يكون يسارياً إذا وضع بدلاً من ذلك الحركات الشعبية من الأسفل.
ومع ذلك، فإن هذا التوجه، بما يتضمنه من مثالية وتجريد عن الواقع المادي والروح الطليعية – كما في مفهوم "العالم كإرادة وتمثل" – يحمل دائماً إمكانية الانزلاق نحو التطرف.
هنا تتصل النيتشيانية اليسارية بعد الحداثة (جان ريمان) بالمفهوم. إذا كانت أيديولوجية المجتمع، أو الأخلاق المترسخة تاريخياً مجرد خطاب مُصنع، يعبر عن "خداع، وهم، خطأ، تفسير، تبرير، فن"، فإن ذلك يفتح المجال لـ إرادة خلق "أخلاق جديدة".
فما كانت البيئة التربوية التي تسعى لـ "تقييد حرية كل فرد من خلال تقليص خياراته"، يضع نيتشه في المقابل العديد من الإمكانيات والاتجاهات للفعل.
وينطبق هذا أيضاً على مناهضة الأخلاق للأقليات: إذا كانت المجتمعات تعتبر المثلية جريمة، أو تصنف بعض الممارسات الجنسية على أنها شاذة، بينما الحياة نفسها "شيئاً جوهرياً غير أخلاقي"، فإن الهدف يكون اللا-أخلاقية وإعادة تقييم القيم.
لهذا السبب كان على فوكو أن يشعر بمتعة سماعية لقول نيتشه:
"ماذا تعني الأخلاق عند النظر إليها من منظور الحياة؟" –
"في السابق كانت لديك شهوات واعتبرتها شريرة. أما الآن، فلم يتبقَ لديك سوى فضائلك: فقد نشأت من شهواتك."
معنى فكر نيتشه للتيار اليساري والمعارضات الجنسية. تتجلى أهمية فكر نيتشه مع تأكيده على الرغبة المنزوعة من القيود الأخلاقية بالنسبة لفوكو وحركة المثليين، وكذلك بالنسبة لجوديث بتلر وحركة المثليات:
"الجسد هو أنا بالكامل، ولا شئ غيره."
و"الأعظم هو جسدك وعقله الكبير، الذي لا يقول "أنا"، لكنه يفعل "أنا"."
"الذات تقول للـ"أنا": هنا أشعر باللذة!"
في هذا تكمن الجاذبية السحرية لنيتشه اليميني على أتباعه اليساريين: التحرر من الأخلاق يفتح المجال لتجربة الحياة كإحساس مباشر، كإبداع للفرد في الجسد والرغبة.
المرض كطريق للتغيير
وهذا يجيب أيضاً عن سؤال: من يغير العالم؟
بالنسبة لنيتشه، هم العباقرة.
بالنسبة لـ"النيتشيانية اليسارية"، هم ضحايا هؤلاء العباقرة، الذين يحملون في ذاتهم شيئاً من العبقرية.
ظهرت النيتيشية اليسارية في حقبة محددة، "العصر الذهبي للرأسمالية"، حين ارتفعت الأرباح والأجور الحقيقية معاً. بالنسبة للتيار الأكاديمي لليسار الجديد، كانت الطبقة العاملة مدمجة في النظام، بل حتى متراجعة أحياناً.وبالتالي، فإن التغيير الاجتماعي الضروري أصبح ممكناً فقط عبر الجماعات الهامشية:
عند فوكو، هم المثليون، المرضى النفسيون، والسجناء.عند بيير باولو بازوليني، هم المثليون والمجرمون الصغار.عند هربرت ماركوز، هي البوهيمية الجديدة، الهيبيز، الذين يقوضون أخلاقيات العمل البروتستانتية.وأخيراً، تحل محل الطبقة العاملة كفاعل ثوري، المثقفون غير التقليديين أنفسهم.
سياسة الفردية والنخبوية في فكر نيتشه
نيتشه يرى تحولاً رائعاً في التاريخ لأولئك الهامشيين والمُهمشين: السياسة بصيغة الفاعل الأول المفرد.تتجلّى قوة تأثير نصوصه المخدرة في أن القارئ، بمجرد قراءته للرؤى والكشف عن "حقائق غامضة" عن قصد، يشعر أنه من بين المختارين.
يتعزز هذا التأثير أيضاً من خلال احتفاء نيتشه بالمعاناة النفسية كعلامة على العبقرية، أي "المرض كطريق". بلا شك، يمكن أن تكون المعاناة قوة دافعة هائلة.
لكن ما تحمله هذه الفكرة من صواب داخلي يصبح مدمراً حين يتم تجسيد السياسة فقط من خلال الفرد المتألم والمتميز، ليصبح بعد ذلك العُزَل عاجزين تماماً ويُستدعى في النهاية الجماهير بلا طبقات كـ"تعددية بلا صفوف".
نيتشه والسياسة الفردية للنخبة
بالنسبة لنيتشه، تكمن العبقرية في "احترام الجسد" و"الازدراء لمن يزدري الجسد"، وهذه هي الجسر نحو "الإنسان الأعلى". هنا يصبح الخاص سياسياً، لأن ما هو شخصي يتحوّل إلى سياسة بحد ذاته، العناية بالذات تصبح ثورة.
أسلوب الحياة الملذّاتية يتحوّل إلى فعل تحرر، وقدوة للأشخاص "العاديين". عوضاً عن سياسة تحرير الطبقة العاملة، تأتي سياسة التحرر الذاتي للفرد المثقف المهمش. هذه العودة تعيد اليسار إلى "النقد النقدي"، الذي ينتهي بالقول: نحن "الأرواح الحرة" نحن الطليعة التي تمهد الطريق، اجتمعوا خلفنا.
لكن إذا غاب الأتباع، يتحوّل هذا المنهج إلى تشاؤم تاريخي وازدراء للجماهير، كما عند برونو باور القديم.
لغة نيتشه كأداة للتغيير: فجأة تبدو اللغة وسيلة للتغيير، كونها أداة المثقفين، بينما كان الإضراب أداة العمال. هذا النهج المثالي، الذي يعتقد أنه يمكن تغيير الواقع من خلال اللغة، مثل اعتماد لغة منصفة للجندر أو إعادة كتابة أعمال كاري ماي وأستريد لينكرين، مستوحى من أهمية اللغة لتطوير الثقافة عند نيتشه، حيث أنها تمنح الإنسان عالماً خاصاً به إلى جانب العالم الواقعي.
تمرد المغامرة
الفيلسوف الماركسي هانز هاينز هولتز وصف ذلك بـ "تمرد مغامر". يرى هولتز أن نيتشه جزء من سلسلة حركات الاحتجاج البرجوازية في الفلسفة، بدءاً من الأناركية الفردية المتطرفة لماكس شتيرنر، مروراً بـ نيتشه، سارتر وماركوزة، وصولاً إلى اليسار الجديد.
هذا التمرد البرجوازي ينشأ من ميل رأس المال للتركيز والاحتكار. ومن فقدان "الحرية في العمل" التي كانت تشكّل الصغار البرجوازيين في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ينشأ رفض الوضع القائم، مستنداً إلى مفاهيم فردية فارغة سياسياً عن الحرية والذات، مأخوذة من مرحلة صعود البرجوازية.
إذا كان الدين "أفيون الشعب" عند ماركس، فإن فلسفة نيتشه هي أفيون المثقفين. نظامه العقائدي يعمل كدواء ومصدر عزاء للعزلة، لكنه في الوقت نفسه يُعمّق العزلة من خلال ازدراء الأغلبية. فالاعتقاد يعطي الفرد قيمة ذاتية حيث تزدريه الأغلبية، لكنه يفعل ذلك عبر ازدراء الأغلبية نفسها.
بهذا، يغرق المتابعون في الوحدة النفسية تحت وهم أن "العزلة المرضية هي خطوة نحو نضج الحرية العقلية". وعد نيتشه يشبه وعد التعاليم المسيحية التي ثار ضدها: الدنيا وادي من الشقاء، لكن وراء الأفق هناك "الفجر"، إلا أنه يبقى بعيد المنال أو يتحقق فقط للنخبة النقدية كـ"جماعة مغلقة" (إلياس كانيتي.)
في النهاية يبقى السؤال مفتوحاً:
هل الوحدة تقود إلى نيتشه أم نيتشه يقود إلى الوحدة؟
هل الشعور بالدونية يقود إليه أم أنه يقود إلى الشعور بالتفوق؟
كل شئ متشابك جدلياً. مثلما كان نيتشه سكراناً بفلسفة شوبنهاور وفاكنر ونفسه، فإنه يُسكر الآخرين. يمكن التعرف على المُسكر بنيتشه من مسافة 100 كيلومتر. من الأفضل الابتعاد عنه، ولن يكون مفيداً لك، خصوصاً إذا كُنتِ امرأة.

إنغار سولتي*: كاتب ألماني ،يُذكر أنه كتب في هذه النقطة آخر مرة في 18 يوليو 2025 عن كتاب هتلر "كفاحي" الذي صدر قبل 100 عام، واصفاً إياه بأنه "وجود فاشل".



#حازم_كويي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قبل 125 عاماً رحل فريدريش نيتشه «عداء الجماهير»
- حركة -اجعلوا أميركا عظيمة مجدداً- ((MAGA
- حرب إسرائيل في غزة هي من أكبر الجرائم في التاريخ.
- من يملك الكون؟
- هتلر:سيرة إنهيار
- الجامعات الصينية في صدارة العالم
- حزب في مرحلة تحول
- -تراجع العولمة الحالي لا يخدم قضايانا-
- إيلون ماسك:هل هو عبقري طموح أم رجل يفتقر للروح؟
- التصنيع بدلاً من التسلّح
- -تعدد الأقطاب؟ احتمال قائم في المستقبل-
- -رئيسة المكسيك تُظهر كيف يمكن التصدي لترامب-
- الهجوم الأمريكي على إيران: أصبح الآن اندلاع حرب نووية أكثر ا ...
- عصر التراجع
- -في الرأسمالية لا يوجد تنافس حرـ النيوليبرالية ليست نظام أسو ...
- الشرق الأوسط يشهد تصعيدًا دراماتيكيًا في الأوضاع.
- هل نعيش في زمن الفاشية المتأخرة؟
- الرأسمالية تتغير – لكنها لا تتحول إلى -إقطاعية جديدة-
- العولمة انتهت، لكن النيوليبرالية ما زالت حيّة
- عن سبل الخروج من أزمة المناخ


المزيد.....




- احتجاجات تعم إندونيسيا بعد مقتل عامل توصيل تحت مدرعة شرطة
- احتجاجات حاشدة تهز إندونيسيا
- رسالة جديدة لأوجلان من سجنه في تركيا: دعوتنا للسلام ليست مجر ...
- فلسطين والسودان ولا مبالاة الشمال العالمي
- رائد فهمي يلتقي الشخصية اليسارية البريطانية البارزة جيريمي ك ...
- آلاف الأستراليين يتظاهرون ضد الهجرة وسط تحذيرات من صعود اليم ...
- حزب العمال: اليمن يدفع فاتورة الدم مع فلسطين ولكنه لا يساوم ...
- بمناسبة اليوم العالمي لضحايا الإخفاء القسري: جريمة الإخفاء ا ...
- قوة تشكلت في الكهوف.. كيف قاد الحزب الشيوعي الصيني حرب المقا ...
- بيان عائلات المختطفين مجهولي المصير وضحايا الاختفاء القسري ب ...


المزيد.....

- كراسات شيوعية (المغرب العربي: الشعوب هى من تواجه الإمبريالية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- علم الاعصاب الكمي: الماركسية (المبتذلة) والحرية! / طلال الربيعي
- مقال (الاستجواب الدائم لكورنيليوس كاستورياديس) بقلم: خوان ما ... / عبدالرؤوف بطيخ
- الإمبريالية والاستعمار الاستيطاني الأبيض في النظرية الماركسي ... / مسعد عربيد
- أوهام الديمقراطية الليبرالية: الإمبريالية والعسكرة في باكستا ... / بندر نوري
- كراسات شيوعية [ Manual no: 46] الرياضة والرأسمالية والقومية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- طوفان الأقصى و تحرير فلسطين : نظرة شيوعيّة ثوريّة / شادي الشماوي
- الذكاء الاصطناعي الرأسمالي، تحديات اليسار والبدائل الممكنة: ... / رزكار عقراوي
- متابعات عالميّة و عربية : نظرة شيوعيّة ثوريّة (5) 2023-2024 / شادي الشماوي
- الماركسية الغربية والإمبريالية: حوار / حسين علوان حسين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - حازم كويي - -نيتشه والتمرد: بين النقد الثقافي والتقدّم بعد 125 عاماً-