أوزجان يشار
كاتب وباحث وروائي
(Ozjan Yeshar)
الحوار المتمدن-العدد: 8453 - 2025 / 9 / 2 - 20:20
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
المقدمة: الجسد كنصّ أول للحضارة
منذ أن فتح الإنسان عينيه على العالم، لم يرَ في جسده مجرد لحم ودم، بل سرًّا كونيًا يربطه بالأرض والسماء معًا. الجنس لم يكن يومًا مجرد فعل بيولوجي غريزي، بل كان دائمًا لغة الحضارة الأولى: يُقرأ في الطقوس الدينية، ويُكتب في الأساطير، ويُغنّى في الشعر، ويُشرَّع في القوانين، ويُحجب أو يُكشف في قصور الملوك.
وحين نقرأ تاريخ الجنس، فإننا في الحقيقة نقرأ تاريخ الحضارة الإنسانية كلها: من معابد بابل، إلى قصور العباسيين، إلى نقوش خاجوراهو في الهند، إلى الحريم العثماني، إلى وشم الماوري، إلى رقص الزولو، إلى رواية لوليتا في القرن العشرين. كل حضارة كتبت جسدها بطريقتها الخاصة، لكن جميعها تركت أثرًا واحدًا: أن الإنسان لا يُفهم إلا عبر رغبته.
هذه المقالة رحلة طويلة – من 9000 عام قبل الميلاد حتى العصر الحديث – نتتبع فيها الجنس بوصفه مرآة للإنسان، ننتقل من بابل إلى الأمازيغ، من الإغريق إلى الفايكينغ، من الهند إلى اليابان، ومن قصص العشق الطقسي إلى ثورات الهيبيز.
الفصل الأول: الجنس في بابل وفارس ومصر – الطقس المقدس
في حضارة بابل، كان الجنس فعلًا دينيًا، يمارَس في قلب المعبد. عُرف ما يسمى بـ الزواج المقدس حيث يتحد الملك بالكاهنة الكبرى في رأس السنة البابلية. هذا الاتحاد لم يكن متعة خاصة، بل رمزًا لاستمرار الخلق: من خلاله يبارك مردوخ الحقول والأنهار، فينبت الزرع وتتكاثر الماشية. الجسد هنا لم يكن جسدًا فرديًا بل أداة كونية لإعادة النظام إلى الكون.
في مصر الفرعونية، ارتبط الجنس بالأسطورة الخالدة: إيزيس وأوزوريس. بعد أن قتل ست أخاه أوزوريس وقطع جسده، جمعت إيزيس الأعضاء المبعثرة وصنعت له قضيبًا ذهبيًا، ثم اتحدت به لتنجب حورس. هنا يتحول الجنس إلى فعل مقاومة للموت، واستمرار للحياة رغم الفناء. المصريون جعلوا الحب والجماع رمزًا للخلود.
أما في فارس الزرادشتية، فقد ارتبطت الطقوس الجنسية بعبادات الخصب. كان الاتحاد الجسدي يُعتبر مشاركة في قوة “أهورامزدا” الخالقة. وفي نصوص فارسية قديمة، وُجدت إشارات إلى أن الزواج والجنس ليسا شأنًا فرديًا، بل عهدًا بين الإنسان والكون.
الفصل الثاني: اليونان وروما والإسكندر – الجسد والحرية
اليونان جعلت الجنس فلسفة. أفلاطون في محاورته المأدبة اعتبر الحب (إيروس) سلمًا يرتقي فيه الإنسان من عشق الجسد إلى عشق الجمال المطلق. المثلية بين الرجال لم تكن عيبًا، بل جزءًا من التربية الروحية للمحارب. سقراط نفسه تحدث عن العلاقة بين المعلم والتلميذ باعتبارها رابطة جسدية وروحية معًا.
الإلهة أفروديت جسدت الجمال الإيروسي، بينما أساطير زيوس ملأى بعلاقات جسدية مع بشر وآلهة، يختطف النساء أو يتجسد في حيوانات ليغويهن. الأسطورة هنا تكشف أن الآلهة ذاتها كانت تجسد الرغبة.
في روما، أصبح الجنس قانونًا للطبقة والسلطة. السيد الروماني له حرية ممارسة الجنس مع عبيده وجواريه، بينما العبد محروم. الجسد هنا لم يعد مجرد شهوة، بل أداة لإظهار الفحولة والسيطرة. وفي أدب الرومان، مثل قصائد أوفيد في فن الهوى، نجد احتفاءً بالجماع لكنه مشروط بالتراتبية الاجتماعي
الفصل الثالث: الجنس عند العبرانيين – بين الخطيئة والعهد
النصوص العبرية في العهد القديم مليئة بقصص الجنس، لكنها لا تقدمه كمتعة مجردة، بل كقوة تحمل بركة أو لعنة.
في سفر التكوين، حواء تغوي آدم فيسقطان في العري. الجنس يصبح مرتبطًا بالخطيئة الأولى.
قصة لوط وبناته تفضح المحرمات: حين سكرتاه ليضطجعا معه وينجبا نسلًا.
يهوذا وتامار مثال آخر: امرأة تتنكر لتنال حقها في النسل عبر حماها. الجنس هنا وسيلة بقاء لا مجرد لذة.
داود اشتهى بثشبع زوجة أوريا، فقتل زوجها وتزوجها. هنا تُظهر القصة كيف تتحول الشهوة إلى خطيئة تجر القتل
لكن على الجانب الآخر، جاء نشيد الإنشاد: قصيدة حب صريحة داخل النص المقدس، تصف جسد المرأة بتفاصيله:
“نهداك كخشفتين، شفتيك سلك من القرمز، عيناك حمامتان”.
الجسد هنا ليس خطيئة، بل شعر مقدس
الختان جعل الجسد الذكري علامة عهد بين الشعب والله، والزنا صار جريمة تهدد الجماعة. الجنس عند العبرانيين كان مزدوجًا: خطيئة إذا تجاوز الشريعة، وبركة إذا خضع لها
الفصل الرابع: الجنس في الجاهلية العربية – العرف والشعر والعار
العرب قبل الإسلام عرفوا أنماطًا متعددة من الزواج:
الاستبضاع: أن تطلب المرأة من زوجها أن يرسلها لرجل آخر لينجب منها ولدًا كريم النسب.
الرهط: أن يجتمع عدة رجال على امرأة واحدة، ثم إذا حملت تختار واحدًا منهم.
المقت: أن يتزوج الرجل امرأة أبيه.
البغاء العلني: حيث ترفع المرأة راية على بيتها ليدخلها من شاء.
لكن الشعراء لم يترددوا في وصف الجسد بأدق تفاصيله. امرؤ القيس شبّه الفخذين بالبيض المكنون، ووصف لقاءاته الليلية في الوادي والطلل. عنترة خلط البطولة بالعشق، فجعل عبلة صورة للحب والحرب معًا.
النابغة الذبياني والملكة المتجردة
النابغة الذبياني، شاعر بلاط الحيرة، ارتكب خطأ فادحًا حين مدح الملكة المتجردة زوجة النعمان بن المنذر. في بيته الشهير
“سقط النصيف ولم ترد إسقاطه … فتناولته واتقتنا باليد”
أوحى بأنه رأى فرجها، ووصف جسدها علنًا. فغضب الملك، وعدّ ذلك فضيحة سياسية تمس شرفه. اضطر النابغة للهرب إلى الشام. هنا نرى كيف يتحول الشعر الجنسي إلى سلاح سياسي يهدم العروش.
الفصل الخامس: الإسلام والقصور – بين الميثاق والمجون
جاء الإسلام ليمنح الجنس بعدًا جديدًا. لم يعد مجرد عادة أو طقس، بل صار عبادة ومعنى. قال النبي ﷺ: «وفي بضع أحدكم صدقة»، أي أن الجماع بين الزوجين يصبح عملًا مأجورًا. الزواج أصبح ميثاقًا غليظًا، لا مجونًا عابرًا ولا تجارة. الزنا حُرِّم، والعفة صارت من أركان المجتمع.
لكن التاريخ الإسلامي لم يخلُ من التناقض. في القصور العباسية، ازدهرت ثقافة المجون:
أبو نواس جعل الغلمان والخمر لغة شعرية ساخرة، تكسر المحظورات.
الجواري أصبحن قوة سياسية، فمنهن من أنجبن الخلفاء وأثرن في مسار التاريخ.
مؤلفات مثل الروض العاطر للنفزاوي ونزهة الألباب لابن حزم تناولت الجنس كعلم للحب والوصال
الإسلام في جوهره أعاد للجنس توازنه: سكن ورحمة ومودة، لكنه في القصور السياسية تحوّل أحيانًا إلى سلاح سلطة.
الفصل السادس: الأندلس والعثمانيون – الحب كفنّ والجسد كسياسة
في الأندلس، ارتفع الحب إلى مقام الفن. كتب ابن حزم كتابه الخالد طوق الحمامة، وفيه رأى الحب رابطًا إنسانيًا يتجاوز الغريزة، يجمع الروح والجسد معًا. الشاعرة ولادة بنت المستكفي جسّدت التمرد الأنثوي: كتبت على سترتها بيتًا من الشعر الجريء تعلن فيه حبها علنًا، متحدية سلطة الرجال.
لكن في الأندلس أيضًا، كان هناك مجون في قصور الأمراء، حيث الغلمان والجواري والشراب. وهكذا تجلى التناقض: الحب فنّ رفيع عند الأدباء، وشهوة سياسية عند الملوك.
أما العثمانيون، فقد جعلوا الحريم مؤسسة سياسية. لم يكن الحريم مجرد بيت للنساء، بل مدرسة للنفوذ. من داخله برزت نساء مثل روكسلان (هُرَّم سلطان) التي تزوجت السلطان سليمان القانوني، وصارت مؤثرة في قرارات الدولة. الجنس هنا صار جسرًا للسلطة، وصوتًا يحدد مصائر الإمبراطوريات.
الفصل السابع: الشرق الأقصى – الهند، اليابان، الصين، التبت
الكاماسوترا والتانترا (الملحق الأول)
في الهند، لم يُنظر إلى الجنس كغريزة، بل كـ علم وفن ودين. كتاب الكاماسوترا الذي ألّفه فاتسييانا في القرن الثالث الميلادي لم يكن دليل أوضاع جسدية فقط، بل موسوعة للحياة السعيدة. تناول فنون المغازلة، الزينة، اختيار الزوجة، ثم وصف أوضاع الجماع باعتبارها رموزًا فلسفية.
الأوضاع ليست حركات جسدية، بل معادلات للكون: وضع تعلو فيه المرأة فيرمز إلى التوازن، وضع جانبي يشير إلى وحدة الليل والنهار، أوضاع موسمية مرتبطة بدورة الطبيعة. الجنس هنا يصبح لغة فلسفية مثلما هي اللغة الدينية.
أما التانترا، فقد رأت أن الخلاص لا يتم إلا عبر العبور من خلال الرغبة، لا بقمعها. فالممارسة الجنسية تصبح طقسًا روحيًا: عبر التنفس والتأمل، يتأخر الوصول إلى النشوة حتى تتحول اللذة إلى وعي روحي. الرجل والمرأة يصبحان “إلهًا وإلهة”، واتحادهما إعادة خلق للكون.
نقوش معابد خاجوراهو وكونارك مليئة بصور جماعية وأوضاع معقدة، لكنها لم تُعتبر فاحشة، بل تعليمًا مقدسًا. هذه النقوش تقول: الجسد ليس عدوًا للروح، بل جسرٌ إليها.
الجيشا اليابانية (الملحق الثاني)
في اليابان، ظهرت صورة مختلفة تمامًا: الجيشا. الغرب ظن أنها بغيّ، لكنها في الحقيقة فنانة مدربة. تبدأ طفلة “مايكو”، تتعلم الموسيقى (الشميسن)، الرقص التقليدي، الغناء، فن تقديم الشاي، المحادثة اللبقة.
مظهر الجيشا رمز بحد ذاته: الوجه الأبيض نقاء، الكيمونو المزخرف يحمل رموز المواسم، ربط الحزام يدل على درجتها. الجسد يتحول إلى لوحة جمالية متحركة.
الجنس قد يحدث أحيانًا، لكن ليس الغاية. الغاية أن تكون الجيشا سيدة فنون، تجعل من حضورها جمالًا اجتماعيًا كاملًا. السياسة دخلت أيضًا من هذا الباب: في فترة الشوغونية، كانت لقاءات الجيشا مجالس غير رسمية حيث تلين القلوب وتُعقد الصفقات.
هكذا أثبتت اليابان أن الأنوثة ليست بيع الجسد، بل فن اجتماع، حيث يصبح الجسد شعرًا، والابتسامة موسيقى.
الفصل الثامن: إفريقيا، الفلبين، بالي، إندونيسيا – الطقس والخصوبة
إفريقيا زاخرة بالطقوس التي تجعل الجنس جزءًا من النظام الاجتماعي والطبيعي.
في قبائل الزولو بجنوب إفريقيا، تقام رقصات جماعية تُشارك فيها الفتيات العذراوات شبه عاريات، يحملن أغصانًا خضراء في طقس يُسمى “رقصة العذارى”. الغرض ليس الإثارة فحسب، بل إعلان العفة والخصوبة معًا.
في مناطق أخرى، مثل قبائل الماساي في كينيا، يرتبط البلوغ بختان الفتيان والفتيات، ويُعتبر الختان مدخلًا للزواج والجنس. هنا يتحول الألم الجسدي إلى شهادة أهلية للعبور نحو مرحلة النضج.
في الفلبين، كانت بعض الطقوس القديمة تجعل الزواج الجماعي حدثًا عامًا، حيث يجتمع عشرات الأزواج ليُمارسوا الجنس في وقت واحد ضمن احتفال خصوبة. في بالي الإندونيسية، نُظمت احتفالات “البارونغ” حيث يتحول الرقص إلى محاكاة جنسية علنية، الهدف منها استرضاء أرواح الخصب.
أما في بعض جزر إندونيسيا النائية، فقد وُجدت عادة تبادل الزوجات في المواسم الطقسية، باعتبارها وسيلة لتجديد الروابط بين القبائل وضمان السلام. الجسد هنا هدية اجتماعية قبل أن يكون ملكية فردية.
الفصل التاسع: الهنود الحمر، الإنكا، الإسكيمو، الفايكينغ – الجسد للبقاء والحرب
الهنود الحمر (أمريكا الشمالية)
في قبائل الهوبي والشيروكي، لم يكن الجنس محرمًا، بل كان جزءًا من علاقة الإنسان بالطبيعة. بعض القبائل أقرت “الزواج التجريبي”، حيث يعيش الشاب والفتاة معًا قبل الزواج الرسمي لاختبار التوافق. الجسد هنا تجربة طبيعية.
الإنكا (أمريكا الجنوبية)
في حضارة الإنكا، كان هناك طبقة تُسمى “عذارى الشمس”. هؤلاء الفتيات يعشن في المعابد لخدمة الإلهة “إنتي”، بعضهن يُختَرْن كزوجات للملك أو القرابين. لكن في الأعياد الكبرى، كان يُمارس الجنس الطقسي كجزء من احتفال بالخصوبة الزراعية. الإنكا ربطوا الجنس مباشرةً بـ سلطة الإمبراطور والآلهة.
الإسكيمو (شمال القطب)
في بيئة قاسية، أصبح الجنس وسيلة بقاء. كان من الشائع أن يعرض المضيف زوجته على الضيف كرمًا. الهدف لم يكن فقط المتعة، بل تبادل الدماء لتوسيع الروابط العائلية. هنا تصبح المشاركة الجنسية شكلًا من أشكال الضيافة وحماية المجتمع.
الفايكينغ (شمال أوروبا)
الفايكينغ جعلوا الجنس طقسًا للحرب والخصوبة.
عند العودة من الغزوات، كانوا يقيمون احتفالات جماعية تمتلئ بالشراب والممارسات الجنسية العلنية.
آلهتهم مثل “فريا” (إلهة الحب) ارتبطت بالجمال والجنس.
المرأة الفايكينغ لم تكن ضعيفة؛ بل لها الحق في اختيار الزوج أو طلب الطلاق.
الجنس عند الفايكينغ كان جزءًا من الفحولة المحاربة، كما كان وسيلة لتأكيد الانتصار.
الفصل العاشر: هونولولو، الماوري، الأبورجين – البحر والأرض والجسد
هاواي (هونولولو)
في جزر هاواي، كان هناك نظام يُسمى هوكا ماكاماكا: علاقات جنسية حرة بين الأصدقاء لتعزيز الروابط العائلية. لم يُنظر إلى الجنس كخيانة، بل كـ هدية اجتماعية.
العلاقات المثلية (Aikāne) كانت مقبولة خصوصًا بين المحاربين. أما رقص الهولا، فكان في أصله طقسًا مقدسًا يتضمن حركات إيروتيكية، هدفه الاتصال بالآلهة.
الماوري (نيوزيلندا)
الماوري جعلوا أجسادهم لوحات فنية عبر وشوم “الموكو”، التي تحمل دلالات عن القوة والجاذبية الجنسية. الأساطير الماورية مليئة بقصص حبّ عنيفة، مثل قصة “هينيموا وتوتاني”، حيث يسبح العاشق كل ليلة ليصل إلى حبيبته عبر البحيرة.
النساء لهن حرية نسبية، ويستطعن اختيار أزواجهن. الأغاني الشعبية تصف الجسد بجرأة، والرقص (هاكا) يتضمن إشارات جنسية واضحة.
الأبورجين (أستراليا)
السكان الأصليون لأستراليا يملكون ما يُعرف بـ زمن الحلم (Dreamtime)، أساطير الخلق التي تفسر الكون. الجنس عندهم ليس متعة فقط، بل إعادة تمثيل للخلق الأول.
في احتفالات البلوغ، يُمارس الجنس الطقسي بحضور الجماعة، والجماع في أماكن مقدسة (كالتلال والكهوف) يُعتبر وسيلة لإعادة إحياء الأرض.
الصين والتبت
في الصين، ارتبط الجنس بالطب والانسجام. نظرية الين واليانغ جعلت الجماع تبادلًا للطاقة: الرجل يعطي طاقته، والمرأة تحفظها وتعيدها. كتب “فن السرير” كانت تُعلّم كيف يحافظ الرجل على صحته عبر تأجيل القذف. الجنس هنا دواء.
أما في التبت، فقد وُجدت ظاهرة فريدة: تعدد الأزواج. الزوجة الواحدة تتزوج عدة إخوة، لتفادي تقسيم الأرض الزراعية على الورثة. الجنس هنا ليس شهوة بل اقتصاد بقاء.
البوذية التقليدية رأت الرغبة عائقًا، لكن التانترا البوذية جعلت الجنس طريقًا للنيرفانا، تمامًا كما في الهند.
الفصل الحادي عشر: المغول، الروس، راسبوتين – الجنس بين الفتح والفضيحة
المغول: الجنس كغنيمة حرب
حين خرج المغول بقيادة جنكيز خان من سهول منغوليا، لم يحملوا فقط السيوف، بل جعلوا الجنس جزءًا من قانون الحرب. النساء كنّ غنائم، يوزعن على المحاربين. المؤرخون يذكرون أن جنكيز خان كان له مئات الجواري، وأن نسله انتشر حتى صار ما يقارب 8٪ من سكان آسيا الوسطى اليوم يحملون جيناته.
الجنس هنا ليس علاقة شخصية، بل أداة هيمنة وانتشار، وسيلة لزرع السلالة المغولية في كل مكان تصل إليه جيوشهم.
روسيا: الأرثوذكسية والمجون
في روسيا القيصرية، فرضت الأرثوذكسية المسيحية قيودًا صارمة: الجنس فقط للإنجاب، والمتعة مشبوهة. لكن في المقابل، كانت الأرستقراطية تعيش حياة مجون في القصور: بيوت دعارة مرخصة، صالونات خفية للهو.
الأدب الروسي لم يغفل الجنس، بل قدّمه في سياق الصراع الروحي. تولستوي في آنا كارينينا صوّر الخيانة كجحيم أخلاقي. دوستويفسكي في الأخوة كارامازوف جعل الجسد ساحة صراع بين الشهوة والخطيئة والخلاص.
راسبوتين: القديس الفاجر
غريغوري راسبوتين (1869–1916) راهب صوفي سيبيري، دخل بلاط القيصر نيقولا الثاني لأنه ساعد على تهدئة مرض ولي العهد. لكنه اشتهر بقدراته الجنسية، وكان يرى أن الخلاص الروحي لا يتم إلا بعبور الجسد في الخطيئة ثم التوبة.
كان يقيم جلسات صوفية تتحول إلى حفلات جنسية مع نساء من الأرستقراطية. خصومه وصفوه بالراهب الفاجر، واعتبروه رمزًا لانحطاط البلاط. حين قُتل عام 1916، وُصفت نهايته بالأسطورية: سمّ، رصاص، وضرب، لكنه قاوم طويلًا قبل أن يُرمى في النهر.
راسبوتين جمع بين القداسة والشهوة، وتحول إلى أسطورة تجسد التناقض بين الدين والجسد.
الفصل الثاني عشر: الأمازيغ والطوارق والشلوح والشنقيط – الحرية والهوية
الأمازيغ
المرأة الأمازيغية تمتعت بمكانة عالية، حتى قادت قبائل مثل الكاهنة. الأعراس الأمازيغية مليئة بالرموز الجنسية: طقس إدخال العصا في اللبن يرمز لاختراق العذرية. الشعر الشعبي وصف الجسد بجرأة، والوشم حمل رموزًا للأعضاء التناسلية كتعويذة خصوبة.
الطوارق
المفارقة أن الرجل الطارقي يضع اللثام، بينما المرأة تكشف وجهها. المرأة هي سيدة الحرية الجنسية قبل الزواج، والعذرية ليست شرطًا صارمًا. الشعر الغزلي عندهم صريح، والمرأة قادرة على طرد الزوج بوضع متاعه خارج الخيمة.
الشلوح (الأطلس والريف المغربي)
احتفال “البوجلود” يمزج الرقص بالإيحاءات الجنسية. الأغاني الشعبية صريحة، والوشم النسائي يرمز للخصوبة والجنس.
الشنقيط (موريتانيا)
في موريتانيا، السمنة علامة جمال جنسي، لذا كان يُمارس “التبلاح” (تسمين الفتيات). الأدب الحساني مليء بالغزل الصريح، والنساء لديهن حرية نسبية في اختيار الأزواج وكتابة أشعار التبراع التي تعبر عن الرغبة بجرأة.
الجنس هنا هوية وحرية، تعكس علاقة المجتمع بالأرض وبمكانة المرأة.
الفصل الثالث عشر: أوروبا الحديثة والمعاصرة – من التنوير إلى الهيبيز
التنوير والقرن الثامن عشر
في أوروبا، القرن الثامن عشر كشف الجسد عبر شخصيات مثل كازانوفا (مذكراته مليئة بفنون الإغواء) ودو ساد (الذي جعل الجنس تمرّدًا على الدين والأخلاق في مائة وعشرون يومًا في سدوم).
القرن التاسع عشر: الفيكتورية والكبت
في العصر الفيكتوري، ارتفع شعار الطهر والعفة، لكن خلف الأبواب انتشرت البغاء والدعارة. الأدب كشف التناقض: في رواية مدام بوفاري لفلوبير، الخيانة صرخة ضد القيود.
فرويد والعلم
سيغموند فرويد جعل الجنس محرك اللاوعي. الرغبة والكبت شكّلا أساس النفس البشرية. بعده، جاء باحثون مثل كينزي وماسترز وجونسون فدرسوا الجنس علميًا، عبر الاستبيانات والتجارب المخبرية.
لوليتا (الملحق الرابع) – الأدب كفضيحة
عام 1955، نشر فلاديمير نابوكوف روايته لوليتا. القصة: رجل في منتصف العمر (هامبرت) يقع في هوس جنسي بطفلة مراهقة (دولوريس هيز). بأسلوب أدبي ساحر، يبرر نزواته ويجعل القارئ متواطئًا معه.
الرواية صدمت العالم: كيف يمكن للأدب أن يتناول البيدوفيليا بهذا الجمال؟ لكنها لم تكن تمجيدًا، بل امتحانًا أخلاقيًا: لغة ساحرة تصف جريمة قذرة. لهذا بقيت لوليتا نصًا خالدًا، لأنها كشفت أن الجنس ليس فقط متعة، بل مرآة للذنب واللغة والسلطة.
القرن العشرون: الهيبيز والتحرر
في الستينيات، ثورة الهيبيز رفعت شعار: «أطلقوا الحب لا الرصاص». الحبوب المانعة للحمل فصلت الجنس عن الإنجاب. الحركات النسوية والمثلية جعلت الجسد هوية سياسية.
الجنس هنا لم يعد مجرد فعل خاص، بل صرخة حرية.
وفي خلاصة الأمر كان ولايزال الجنس مرآة الحضارات
حين نتأمل هذا السفر الطويل، ندرك أن الجنس لم يكن يومًا “تابو مكسورًا”، بل النص الأول الذي كتبته كل حضارة:
في بابل كان طقسًا كونيًا.
في مصر كان خلودًا.
في اليونان فلسفة.
في العبرانيين عهدًا.
في الإسلام ميثاقًا.
في الأندلس شعرًا.
في العثمانيين سياسة.
في الهند واليابان فنًا.
في إفريقيا طقسًا.
في الإنكا والإسكيمو اقتصادًا للبقاء.
في أوروبا الحديثة هوية وحرية.
الجنس كان دومًا: طقسًا، قانونًا، سلطة، فنًا، بقاء، وهوية. بعض النصوص تزول لأنها تصف الجسد بسطحية، بينما تبقى نصوص مثل طوق الحمامة أو الكاماسوترا أو لوليتا لأنها تعكس رؤية كاملة للإنسان.
الجسد لا يكذب؛ إنه يروي القصة كلها: كيف أحب الإنسان، كيف حكم، كيف آمن، كيف ثار. الجنس هو المرآة الكبرى للحضارات.
#أوزجان_يشار (هاشتاغ)
Ozjan_Yeshar#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟