أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - حازم كويي - قبل 125 عاماً رحل فريدريش نيتشه «عداء الجماهير»















المزيد.....


قبل 125 عاماً رحل فريدريش نيتشه «عداء الجماهير»


حازم كويي

الحوار المتمدن-العدد: 8447 - 2025 / 8 / 27 - 16:22
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


قبل 125 عاماً رحل فريدريش نيتشه
«عداء الجماهير»
بين حماسة الحرب التي تنبع من إرهاق الحضارة، ونقد الأيديولوجيا على أسس التنوير.

(الجزء الأول).
بقلم إنغار سولتي*
ترجمة: حازم كويي

عادةً ما يجد الاشتراكيون سنداً في المثقفين الاشتراكيين، والليبراليون في المفكرين الليبراليين، فيما يستطيع المحافظون والفاشيون أن يعتمدوا على التيارات اليمينية المختلفة. لكن اللافت أن المُحافظة، ومعها الفاشية باعتبارها الوجه المتطرف لها، تعاني من فقر نظري، فهي في جوهرها ليست رؤية متكاملة بقدر ما هي رد فعل، أولاً ضد المساواة الليبرالية ـ الديمقراطية الراديكالية، ثم لاحقاً ضد المساواة الاشتراكية. ولهذا فإنها تضطر في كثير من الأحيان إلى استعارة أدواتها النظرية من خصومها أنفسهم.
هكذا قرأ المحافظون واليمينيون ماركس في إطار ما سُمّي بـ"الثورة من اليمين" (هانس فراير)، واستلهموا غرامشي لإطلاق "ثورة ثقافية من اليمين" (ألان دو بونوإست)، ثم عادوا مرة أخرى إلى "ماركس من اليمين" في محاولاتهم للتخلص من ما يسمونه "الليبرالية اليسارية المستيقظة" (بينيديكت كايزر).
لم تكن الحركة الاشتراكية، ولسنوات طويلة، مضطرة إلى استعارة عناصر من نظريات خصومها البرجوازيين أو دمجها في فكرها. بالعكس، كانت العلوم البرجوازية هي التي وجدت نفسها مجبرة على التفاعل مع الماركسية، في محاولة لدحضها أو الرد عليها، لا العكس.
صحيح أن هناك دائماً اشتراكيات واشتراكيين درسوا عند مثقفين يمينيين، وأخذوا عنهم بعض انتقاداتهم لليبرالية. فالشاب فالتر بنيامين، مثلاً، توجّه بحماسة نحو كارل شميت، ومن خلال فرانز نيومان وأوتو كيرشهايمر نشأت مدرسة كاملة مرتبطة بالحركة العمالية، عُرفت لاحقاً باسم "الشميتية اليسارية". حتى هربرت ماركوز نفسه، في تطويره لنظرية نقدية للمجتمع وفلسفة للتحرر، استند جزئياً إلى نيتشه وهايدغر – إلى درجة أن ثيودور ف. أدورنو هاجمه ساخراً، واصفاً إياه بأنه ليس أكثر من "فاشي مُجهَض بفعل يهوديته".
لم تتغير الأمور إلا بعد عام 1945، عندما ظهر اليسار الجديد في الغرب تحت تأثير الانحدار البطيء للحركة العمالية القديمة. بدأ اليسار ما بعد الحداثة الآن بشكل منهجي في استيعاب وتحويل مؤلفات المؤلفين المحافظين وما قبل الفاشيين والفاشيين.
ففي حالة ميشيل فوكو، حصل التحول عن الشيوعية في أوائل خمسينيات القرن الماضي بالتوازي مع توجهه نحو نيتشه. أما جوديث باتلر، فقد ارتبطت أيضاً من خلال فوكو بصلات قوية مع نيتشه وهايدغر. ولا يمكن تصور الحداثة الفرنسية دون هذين المفكرين.
مع صعود النيوليبرالية وما أُعلن في الغرب في أواخر السبعينيات مرة أخرى عن "أزمة الماركسية"، حدث قفز نوعي: فقد حلّ اليسار ما بعد الحداثة إلى حد كبير محل الماركسية في الأوساط الأكاديمية.
كان اليمين الفقير نظرياً يقرأ خصومه لتصبح أقوى، لكن هل أصبح اليسار الغني نظرياً أيضاً أقوى من خلال قراءة خصومه؟ هذا هو السؤال المحوري، ويجب مناقشته استناداً إلى أعمال نيتشه.
مهمة الماركسيين
مباشرة بعد عام 1945 كان الحكم واضحاً: فكر نيتشه قد مهّد الطريق إلى الفاشية. ففي عرض لوكاتش عن "طريق ألمانيا إلى هتلر في مجال الفلسفة"، يحتل نيتشه موقعاً مركزياً. ويرتبط ذلك بأطروحة لوكاتش الأساسية، التي تقول إن الصعوبات المتزايدة التي واجهتها البرجوازية في تبرير المجتمع الطبقي أمام صعود الحركة العمالية، قد دفعت مثقفيها إلى تبنّي موقف معادٍ للتقدّم اتخذ شكل اللاعقلانية. وكان نيتشه، "اللاعقلاني الحاسم"، الركيزة الأساسية لهذا التوجّه.
لا جدال في أهمية نيتشه على الطريق نحو "قرن الكوارث". ففي عام 1914 اندفع عدد لا يحصى من أبناء الأسر البرجوازية، المسحورين بفلسفته حتى الثمالة، بحماسة إلى الحرب العالمية الأولى. ومن لم يخرج منهم معطوباً أو وقد تحوّل إلى معارض للحرب، أصبح في كثير من الأحيان فاعلاً رئيسياً في الثورة المضادة بعد 1918/1919. ويبدو من الصعب إنكار حضور الروح النيتشوية في تشكيلات قوات الـ SS وفي حركة "ينبوع الحياة".
كما أن الحماسة الطقوسية المشتركة لنيتشه وهتلر تجاه ريشارد فاغنر، والدور المتحمس لورثة فاغنر في خدمة "الاشتراكية القومية"، لم تكن مصادفة أبداً. وقد علّق إيمانويل ليفيناس قائلاً: "يمكن للمرء أن يجد حتى هتلر نفسه في نيتشه"، حتى وإن كان موسوليني قارئاً للفيلسوف الألماني بإمعان أكبر من "الفوهرر".
مع ذلك، هناك استقبال نيتشوي من اليسار. وفي هذا السياق، صاغ لارس لامبريشت في 1988 ضمن ندوة "كيف يجب أن يكون تصور ماركسي لنيتشه اليوم؟" قائلاً: "تكمن المهمة في تفسير الجاذبية التي لا يمكن إنكارها للمثقفين اليساريين، بدلاً من شجبها". وهذا المقال محاولة للقيام بذلك.
وكان الماركسي بيرتولت بريشت قد أجاب على سؤال "من سيغير العالم؟" قائلاً: "أولئك الذين لا يعجبهم". ومن المؤكد أن نيتشه لم يكن راضياً عن العالم كما هو، وكان يرغب في تغييره. فقد كان بلا شك متمرداً، ثائراً ضد السلطات. لكن الأسئلة الجوهرية هي: ما الذي لم يعجبه؟ وفي أي اتجاه أراد تغييره؟ ومع من وبأية وسائل؟
لقد كان تمرده طوال حياته موجّهاً أساساً ضد الأخلاق السائدة، بل والأخلاق نفسها، وبالتالي ضد المسيحية. وقد أعلن: "الله مات". ومع ذلك، لم يكن إلا ناقلاً ومضاعفاً لحقيقة كانت قد تأسست منذ زمن بعيد على يد فويرباخ وشوبنهاور، "الملحد العنيد" الذي أكد على "عدم ألوهية الوجود".
كان العالم من حوله يبدو له عدائياً. لكن نيتشه كان أيضاً عدائياً تجاه بيئته. هذين الجانبين يتشابكان ويتبادلان التأثير. كما غنّى فريق Tocotronic مرة: من السهل أن تقول "كل ما أريده هو ألا يكون لي علاقة بكم"، إذا كنت على أي حال خارج الانتماء. وهذا ينطبق على نيتشه. فقد ارتقى ذهنياً فوق زملائه الذين كانوا يتنمرون عليه.
وقد غدا الوهم بأنه يمكن تتبع نسبه إلى النبلاء البولنديين، بينما كانت في الحقيقة أصوله تعود في القرن السابع عشر إلى عائلة بسيطة، وجزار من منطقة أوبرلاوزيتز، ثم لاحقاً ظهر كاتب عدل وموظف ضرائب ساكسوني. وتتجمع هذه الفروع بعد ذلك ضمن "تقليد منازل القساوسة البروتستانتية".
لكن نيتشه ورث عن والده، الذي كان ملكياً متعصباً وأطلق عليه أسماء ملوك بروسيا (فريدريش فيلهلم)، ميلاً للملابس المختارة وآداب البلاط. وقد تشكل هذا الأسلوب بشكل أكبر خلال سنوات دراسته: كتب نيتشه في سن العشرين، كطالب في الفيلولوجيا في بون، أنه يشعر بعدم ارتياح شديد تجاه الرفقة في أمسيات الحانات لدرجة أنه يكاد لا يحتمل بعض الأفراد بسبب ماديّتهم تجاه الجعة.
ظل نيتشه منعزلاً، مع عدد قليل من الأصدقاء اعتبرهم "ضرورة"، وبقية الأصدقاء كـ "زيادة"، وباقي العالم بالنسبة له "عديم الأهمية".
لم يكن نيتشه الوحيد ولا الأخير الذي يبحث عن خلاصه الروحي عبر شعور بالتفوق العقلي، مدفوعاً بـ النرجسية الناشئة عن شعور بالنقص. وربما كانت أمراضه المستمرة ذات أصل نفسي- جسدي.
أما وفاة والده المبكرة، الموصوف بأنه "مريض المزاج"، فكانت نتيجة "تلين في الدماغ". لكن نيتشه أوهم المحيطين به أنه توفي حزناً على ثورة 1848. وقد ظل مرض والده العقلي كظل يطارده، لأن الطفل المريض شعر منذ وقت مبكر أنه محكوم على النهاية.
لاحقاً، في كتابه "Ecce Homo"، عندما كان قد بدأ يسير في طريق جنون العظمة النفسي الخاص به، كتب أن وفاة والده كانت السبب في كونه "حكيماً جداً" و**"ذكياً جداً"، و"لماذا أكتب كتباً جيدة جداً". ويعد "Ecce Homo" الوثيقة الأكثر تطرفاً لعظمة الذات عند نيتشه، قبل أن يسقط عام 1889 في حالة من الجنون العقلي التي استمرت حتى وفاته في 25 أغسطس 1900.
لغة الشعور
كان مدخل نيتشه إلى العالم أيضاً من خلال الموسيقى. فقد كان يعزف بنفسه، ويؤلف، وكان يفتتن في عصر ما قبل السينما الصوتية بـ العمل الفني الكلي للأوبرا – مثل شومان، هاندل، هايدن، ومن أغسطس 1868 فصاعداً، فاغنر. وقد رأى أن "مهمته" تكمن في "رؤية العلم من منظور الفنان، والفن من منظور الحياة".
لقد كان «الكمال الموضوعي للعمل الموسيقي» بالنسبة لنيتشه، الذي كان يتجنب الممارسات الجنسية والكحول، وسيلة للنشوة والتجربة الروحية وملاذاً للهروب. وهو يكتب أن الموسيقى، من خلال «ارتباطها القديم بالشعر»، هي «بهذا القدر من الأهمية لداخلنا، مثيرة بعمق، (…) لغة مباشرة للشعور». إنها، من خلال التجربة الحسية، تمثل طريقاً تطهيرياً نحو الحياة الأصيلة، وتؤدي إلى «حالة غريبة من الاطمئنان، (…) وإحساس جديد بالأمان، كما لو أننا قد وجدنا الآن الطريق للعودة من أعظم المخاطر والتجاوزات والنشوات إلى ما هو محدود وأليف: إلى هناك، حيث يمكن للمرء أن يتواصل بتسامح متفوق، وعلى أية حال بمقام أرفع مما كان عليه من قبل».
ليس كل فن هو فن
مع ذلك، الفن ليس فناً واحداً. فقد رأى نيتشه أن مهمته هي: "التبلّد أو النشوة! التنويم أو التخدير!". وكان فاغنر بالنسبة له "مُضيء الفن الحقيقي والنشوي"، الذي شغل مكانة مركزية في عبادة نيتشه للعبقرية. وقد عبّر عن إعجابه قائلاً:
"الناظر الذي يقف أمام طبيعة مثل طبيعة فاغنر، يجب أن يُعاد تلقائياً (…) إلى صغر حجمه وضعفه"، ويصبح "سائلاً: ماذا تفعل لك؟ لماذا أنت موجود أصلاً؟"
في بون أصبح نيتشه فوراً عضواً في جمعية الطلبة فرانكونيا. في البداية كان متحمساً: «من يريد، كطالب، أن يتعرف إلى عصره وشعبه، فعليه أن يصبح طالباً حاملاً للألوان» (أي منتمياً إلى جمعية طلابية). لكن بعد توترات مع زملائه تغيّرت الصورة. فقد انزعج من الإلزام بالاختلاط الاجتماعي، ومن ضعف «الحكم السياسي»، ومن «المظاهر الخارجية» التي بدت له «سوقية ومنفّرة». وقد أصبح غير محبوب لأنه لم يكن «متحفظاً بما يكفي في أحكامي الحاقدة». كما استغرب أن صديقه هيرمان موشاكه كان يقدّره، رغم «تمزقي المتعدد»، وكان يتساءل «في لحظات ينفي فيها العقل كل شئ » عمّا إذا كان هذا الصديق «لا يعرفني إلا قليلاً». فقد كانت نوعاً من الصداقة ذات الطابع النرجسي: «إنه يحب»، كما يكتب يانتس، «إذن يحب نفسه في الصديق وتأكيد ذاته. أما الآخر فلا يمسه».
كان نيتشه يتلقى الرعاية من والدته وأخته وغيرهن من النساء. في بون سكن عند مضيفة كريمة ودائمة اللطف، حيث كان يعيش «بمنتهى الراحة، يتناول طعاماً جيداً، ويتلقى خدمة نظيفة ومنتظمة». غير أن «الإنسان الأعلى» كان في الواقع «غير قادر على الحياة العملية»، إذ إنه، وهو في الثالثة والعشرين من عمره، أراد أن يرسل صندوقاً من العنب بالبريد، لكن «البريد التعيس» أجابه بأنهم «لا يستطيعون قبول الطرد (…) لأن العنب سيصل فقط كعصير».
كان نيتشه، مثل إرنست يونغر، أدولف هتلر، وكارل شميت، في البداية رومانسياً. باحثاً عن ذاته، واعتبر أن "أعظم مكسب" في عامه الدراسي الأول هو "أنني تعلمت الكثير لفهم نفسي".
وكان يبحث عن الحرية الفردية والحياة الصحيحة بعيداً عن التقاليد. أراد نيتشه أن يشعر، وكان حساساً جداً تجاه "الروتين"، الذي اعتبره "قوة هائلة".
النشوة
كـرومانسي، كان نيتشه يبحث عن الأصالة، في النشوة، وفي تجربة تجاوز الحدود، التي وفرها له فاغنر، كما وفّر LSD للهيبيين(LSD هو اختصار لمادة حمض (Lysergic Acid Diethylamide)، وهو مخدر مهلوس يُغيّر الإدراك والحواس والمزاج.). وكان يقصد بالرومانسية: "كل فن، وكل فلسفة يمكن النظر إليها كوسيلة للشفاء والعون في خدمة الحياة النامية والكفاحية".
وفيما بعد، ربط النشوة بمبدأ ديونيسوس، إله "الفن غير التصويري للموسيقى" و"عالم الفن (…) للنشوة". وكان يرى نفسه "المعرفة (…) المطّلع والمتابع لهذا الإله"، و"تابع الفن البعيد عن الموت"، وسمى شخصية زاراثوسترا بـ "المخلوق الديونيسوسي".
في سعيه وراء النشوة، لم يكن هدفه الخير أو الحقيقة أو الجمال. بل كان يسعى إلى رومانسية الموت، والتشاؤم، والعمق المظلم. فالنشوة الفنية والفلسفية تفترض دائماً المعاناة والمُعانين.
وقد انقلب نيتشه على الأخلاق السُقراطية، والمنطق الجدلي، والاكتفاء والبهجة، واعتبرها أساس انحدار الثقافة اليونانية. ودافع عن التشاؤم، متسائلاً:
"هل التشاؤم بالضرورة علامة على الانحدار، والتحلل، والفشل، وضعف الغرائز؟"
أم هناك "تشاؤم القوة"، الذي يتميز بـ ميل فكري نحو القاسي والمروع والشرير والمشكوك في الوجود، نابع من العافية، والصحة الزائدة، وغنى الحياة".
وبهذا، شكّل هذ النقد الحضاري في كتابه الأول "ميلاد المأساة" موضوع حياته، رغم كل تحولات أفكاره.
رجال المحاربين
ليس من المُستغرب أن بعض المثقفين البرجوازيين لاحقاً، مثل إرنست يونغر، ذهبوا إلى الحرب العالمية وهم يحملون أفكار نيتشه في حقيبتهم. نيتشه نفسه كان يتصرف هكذا، رغم بعض الميل نحو السلام العرضي. كانت تلك حقبة حروب توحيد الإمبراطورية الألمانية بقيادة بسمارك، الذي أشاد نيتشه بـ "حزمه بلا رحمة" و"مكيافليته".
كان نيتشه يريد الخدمة العسكرية، وكتب أن الجلوس في المنزل حين يبدأ الوطن كفاحاً بين الحياة والموت يُعد غير شريف. وحتى قبل الحرب البروسية- النمساوية، كتب عن الروح العسكرية: "كنت أتمنى أن يُخرجني أكثر من عملي الرتيب". وعندما انضم متطوعاً في أكتوبر 1867، شعر "نيتشه كمحارب"، كما لو أنه يضع نفسه في وضعية بطولية. ومع ذلك، كانت خدمته العسكرية قليلة الفروسية، فقد سقط عن الحصان وشعر بوحدة شديدة. أما في الحرب الفرنسية- الألمانية، فكان صالحاً فقط كمُسعف. لكنه كتب: "أنا بطبعي محارب".
كان نيتشه في الواقع مفكراً ذكورياً. فالـ "الإنسان الأعلى" هو في الحقيقة الرجل الأعلى. وكتب أن "الأعلى" ذكوري. والأخلاق التي أراد التغلب عليها، والفضائل التي تحث على عدم الانجراف وراء رغبات الآخرين، بدت له "أنثوية وطفولية".
كان نيتشه يريد أن يكون محارباً، أن يُحاور بالمطرقة، وكتب في نقده الذاتي أن "ميلادالمأساة" كان عاطفياً، ومزخرفاً أحياناً بشكل أنثوي.
كان ينظر إلى الجنسانية الثنائية الصارمة، حيث يكون الصراع مستمراً بين الرجل والمرأة، مع فترات محدودة من المصالحة. وكان يرى أن الحديث عن المرأة يجب أن يكون موجهاً للرجال فقط، وأن كل شئ في المرأة حلو له الحمل، وأن الرجل الحقيقي يريد من المرأة شيئين فقط: الخطر واللعب.وكانت المرأة، التي تقوم بالعمل العاطفي، بمثابة خادمة مهتمة:
"يجب تربية الرجل للحرب، والمرأة لراحة المحارب، وكل شئ آخر غباء"، وأن "شرف المرأة" هو أن تُحب أكثر مما تُحب نفسها.
أما سعادة الرجل فهي: "أريد أنا"، وسعادة المرأة فهي: "هو يريد".
كان نيتشه هو من ألهم ثيودور داوبلر بهذه الذكورة السامة لكتابة ملحمته الشعرية عن صراع الجنسين، والتي بدورها أبهرت كارل شميت.
وكانت الذكورة عند نيتشه تعني دائماًالحرب، ولذلك قد يُفهم الحماس العسكري البرجوازي لعام 1914 ربما بدون نيتشه، لكن نيتشه نفسه لا يمكن فهمه بدون هذا الحماس العسكري البرجوازي.
كتب عن إيمانه بـ "تأنيث أوروبا": كان يجب شُكر نابليون لأنه أنشأ القومية التحررية، التي تتجاوز فكرة "الأخوة من شعب إلى شعب والتبادل القلبي العام"، وبفضله يمكن الآن، شكراً لله، أن تتتابع عدة قرون حربية، "ليس لها مثيل في التاريخ، باختصار، لقد دخلنا العصر الكلاسيكي للحرب"، ولهذا السبب ستنظر جميع القرون القادمة إلى هذا الوقت، القرن العشرون والحادي والعشرون، بالحسد والتقدير كما لو كان قطعة من الكمال.
ومن الحركة الوطنية تنشأ هذه "مجد الحرب"، وربط نيتشه بذلك الأمل في أن يصبح الرجل في أوروبا مرة أخرى سيداً على التاجر والبرجوازي الضيق الأفق، وربما حتى على المرأة، التي دللتها المسيحية والروح المتحمسة للقرن الثامن عشر، وأكثر من ذلك "الأفكار الحديثة".
في الوقت نفسه، توجد دائماً مقاطع تُظهر أن نيتشه لم يكن قومياً ألمانياً متعصباً: فقد كانت "الوطنية" (كما أسماها، وما يُسمى في فرنسا الشوفينية، وفي ألمانيا "الألمانية") مُستهجنة لديه، بوصفها تعبيراً عن "المؤمنين" الذين لديهم "حاجة للإيمان"، والذين يضيعون في هذه الزوايا الضيقة والبائسة".
إن ما يهم نيتشه هو الطبقة الأرستقراطية التي تأتي أحياناً قبل الشوفينية، وازدراؤه للطبقة الدونية هو ما يُقيه من السقوط في القومية الضيقة.
لكن هذا لا يجعله أفضل كثيراً، فقد كان أوروبياً. ومع ذلك، فإن "تفجير الحدود الوطنية"، أي الفكرة الأوروبية، كان يخدم، كما فسر الفيلسوف برنارد هـ. إف. تورك بشكل صحيح، غرض إنشاء طبقة حاكمة سياسية جديدة على مستوى أوروبا كلها أو عالمياً، أي نظام جديد للطبقات والمكانة من خلال تربية طبقة سادة شاملة لأوروبا أو للعالم.
الإرهاق الحضاري
كان نيتشه متشائماً ثقافياً، مُشبعاً بـ «كراهية عميقة لـ ‹الزمن الحاضر›، ‹الواقع› و‹الأفكار الحديثة›». وقد ارتبط شعوره بالإرهاق من الحضارة بازدراء الجماهير الذي تعلّمه مبكراً، والذي يظهر في التمييز بين «الرفاق الأرفع» و«القطيع النابح»، وبين «الثقافة العليا» و«الثقافة الدنيا»، وبين «أخلاق السادة» و«أخلاق العبيد». لقد كتب في مواجهة كل ما هو ديمقراطي ومساواتي، «رغم كل ‹الأفكار الحديثة› وأحكام الذوق الديمقراطي المسبقة». وكان يرى نفسه مضطراً، في تعامله مع الناس، إلى أن «يرتدي قناع التعلّم» الذي «لا أمتلكه»، وكان في الوقت نفسه مقتنعاً: «الطلاب أغبياء، والأساتذة أكثر غباءاً!»
لقد كان الإيمان بعبقريته الخاصة مرتبطاً أيضاً برفضه المنهجي للنسق الفلسفي على طريقة كانط وهيغل – فهو يكتب في شذرات ممتعة – وكذلك رفضه لمبدأ «الوقوف على أكتاف العمالقة»: إذ كان يسخر من الفيلسوف الذي يقضي «بضع سنوات» في الإطار الضيق للعلم المعترف به ليطوّر «نظاماً مُفكَّراً فيه بعناء». فليس بوسع المرء «أن يسير في مساراته الخاصة باستقلالية كافية». والحقيقة، كما يقول نيتشه،.«نادراً ما تكون الحقيقة موجودة في الأماكن التي تُؤسَّس لها مؤسسات ويُعيَّن لها أوصياء.»
يرى نيتشه نفسه "مثيراً للشغب في العلم"، ويشبه إلى حد ما شخصية "المتمرد بلا سبب" الحرّية، الذي لا يقبل أن يملي عليه أحد أي شئ، ويريد فقط أن يفعل ما يُمتع نفسه، وأن لا يُسلم للأشياء والناس أكثر من اللازم حتى يعرفها.
كان نيتشه يريد حياة أصيلة وصدقاً. فقد كتب لأخته:
"هل نبحث في بحثنا عن الراحة، والسلام، والسعادة؟"
وكان جوابه: "لا، فقط عن الحقيقة، ولو كانت بشعة ومقززة للغاية".
وكان هدفه: "أن نعاني الجوع للروح من أجل الحقيقة"، و"أن نكون مرضى ونطرد المعزيين"، و"أن نغوص في الماء القذر، إذا كانت ماء الحقيقة".
ولو كان نيتشه كاتباً في خمسينيات القرن العشرين، لكتب كتباً مثل "الحارس في حقل الشوفان" (The Catcher in the Rye). وبالعكس، يمكن القول إن ازدراء ج. د. سالينكر لـ "المدّعين" – الأشخاص المنافقين والمتقوقعين – يحمل شيئاً من روح نيتشه.
النقد الأيديولوجي
هنا يظهر نيتشه المُستنير، بل وفي بعض الجوانب التقدمي أيضاً. فانفصاله عن التقاليد كان محرراً للأفكار ونقدياً للأيديولوجيات القائمة، ويمكن أن يمنح الإنسان "إحساساً بحرية الطائر، ورؤية الطائر، وجرأة الطائر".
فـ "العقل الحر" عند المتمرد على التقاليد يرتفع فوق "العقل المُقيّد" بالتقاليد. وكتب نيتشه عن أربعة أنواع من الأشياء، والتي يقول عنها العقول المُقيّدة إنها صحيحة أو في الحق:
كل الأشياء التي تدوم، هي صحيحة.
كل الأشياء التي لا تزعجنا، هي صحيحة.
كل الأشياء التي تجلب لنا منفعة، هي صحيحة.
كل الأشياء التي ضحّينا من أجلها، هي صحيحة.
أما العقول الحرة، التي يحتفي بها نيتشه، فهي تلك التي تقف ضد الامتثال والتقليد، التي تعزل نفسها، ويصبح عقلها في أقصى وحدة كصحراء منعزلة "أسداً"، يسعى لانتزاع الحرية والسيطرة في صحراءه الخاصة. هؤلاء الأفراد يردون على "ينبغي أن تفعل" الاجتماعي بـ "أريد أنا" الفردي، ويجسدون بذلك "الإرادة إلى الحقيقة" و"الإرادة إلى القوة".
والأهمية الحقيقية للعقل الحر ليست في امتلاكه لآراء أدق أو أصح، بل في انفصاله عن التقليدي، سواءاً نجح أم فشل. ومع ذلك، غالباً ما يكون على صواب أو على الأقل يسعى إلى البحث عن الحقيقة: فهو يطالب بأسباب يمكن للآخرين الإيمان بها.
العقل المقيّد والإيمان
يأخذ "العقل المقيّد" مواقفه ليس لأسباب عقلية، بل من باب العادة. فهو، على سبيل المثال، يكون مسيحياً ليس لأنه درس الأديان المختلفة واختار بينها، ويكون إنكليزياً ليس لأنه قرر الانتماء لإنجلترا، بل لأنه وجد المسيحية والإنكليزية موجودتين وتَقبلهما بلا أسباب، كما يفعل الشخص الذي يولد في منطقة إنتاج النبيذ فيصبح شارباً للنبيذ.
وفي وقت لاحق، قد يجد الشخص أسباباً لتبرير عاداته، لكن تكييف المبادئ العقلية بالعادة دون أسباب يُسمى الإيمان.
ويعتبر نيتشه أن كل إيمان، حتى لو كان صحيحاً عند المؤمن نفسه، فهو يؤدي الوظائف التي يتوقعها المؤمن منه، لكنه لا يقدم أي أساس لإثبات حقيقة موضوعية.
وهنا تنقسم طرق البشر:
إذا أردت راحة النفس والسعادة، فآمن بما شئت.
أما إذا أردت أن تكون تابعاً للحقيقة، فابحث وابحث بعقل حر.
نيتشه كان يحتفي بالاضطراب الداخلي و"المغامر ومستكشف العالم الداخلي الذي يسمى الإنسان"، باعتباره المقياس لكل ما هو أعلى وأسمى، والذي يسمى أيضاً الإنسان.
كما مدح "مزايا الملاحظة النفسية"، التي تستطيع أن تستخلص عبراتها من أكثر الجوانب المؤلمة والمزعجة في حياة الإنسان، وفي الوقت نفسه تشعر ببعض الراحة.
وكتب في كتابه "إنساني، جداً إنساني": "يجب أن تصبح سيد نفسك". وهنا يبدو نيتشه مثل مدرب في ورشة تطوير ذاتي: "اكتشف ذاتك الداخلية"، "كن دائماً نفسك"، "استمع إلى صوتك الداخلي".
كما قدم مادة مناسبة لأي مقولة تقليدية عن الفردية: "يجب أن يكون لديك بعض الفوضى بداخلك، حتى تستطيع أن تلد نجمة راقصة".

إنغار سولتي*: كاتب ألماني ،يُذكر أنه كتب في هذه النقطة آخر مرة في 18 يوليو 2025 عن كتاب هتلر "كفاحي" الذي صدر قبل 100 عام، واصفاً إياه بأنه "وجود فاشل".



#حازم_كويي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حركة -اجعلوا أميركا عظيمة مجدداً- ((MAGA
- حرب إسرائيل في غزة هي من أكبر الجرائم في التاريخ.
- من يملك الكون؟
- هتلر:سيرة إنهيار
- الجامعات الصينية في صدارة العالم
- حزب في مرحلة تحول
- -تراجع العولمة الحالي لا يخدم قضايانا-
- إيلون ماسك:هل هو عبقري طموح أم رجل يفتقر للروح؟
- التصنيع بدلاً من التسلّح
- -تعدد الأقطاب؟ احتمال قائم في المستقبل-
- -رئيسة المكسيك تُظهر كيف يمكن التصدي لترامب-
- الهجوم الأمريكي على إيران: أصبح الآن اندلاع حرب نووية أكثر ا ...
- عصر التراجع
- -في الرأسمالية لا يوجد تنافس حرـ النيوليبرالية ليست نظام أسو ...
- الشرق الأوسط يشهد تصعيدًا دراماتيكيًا في الأوضاع.
- هل نعيش في زمن الفاشية المتأخرة؟
- الرأسمالية تتغير – لكنها لا تتحول إلى -إقطاعية جديدة-
- العولمة انتهت، لكن النيوليبرالية ما زالت حيّة
- عن سبل الخروج من أزمة المناخ
- الحزب الشيوعي النمساوي.. حزب لا مثيل له؟


المزيد.....




- حيفا: الشرطة الإسرائيلية تعتقل 6 متظاهرين في وقفة منددة بالح ...
- أسطول الحرية ينطلق إلى غزة الأحد المقبل
- حضور قوي للشبكة الدولية للجنة من أجل إلغاء الديون غير المشرو ...
- جنايات بدر تجدد حبس محبوسين احتياطيًا دون حضورهم
- بيان للمكتب الوطني للجامعة الوطنية للتعليم- التوجه الديمقراط ...
- محمد نبيل بنعبد الله، الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية ي ...
- هل أُعدّت السجون في تونس لاستقبال النقابيين؟
- الضفة.. إصابة 25 فلسطينيا بمواجهات مع الجيش الإسرائيلي في نا ...
- مناورة خاسرة.. البوليساريو في قمة طوكيو بـ-حيلة بروتوكولية- ...
- قيادي بـ-التقدمي الاشتراكي-: حصر السلاح بلبنان مرهون بوقف اع ...


المزيد.....

- علم الاعصاب الكمي: الماركسية (المبتذلة) والحرية! / طلال الربيعي
- مقال (الاستجواب الدائم لكورنيليوس كاستورياديس) بقلم: خوان ما ... / عبدالرؤوف بطيخ
- الإمبريالية والاستعمار الاستيطاني الأبيض في النظرية الماركسي ... / مسعد عربيد
- أوهام الديمقراطية الليبرالية: الإمبريالية والعسكرة في باكستا ... / بندر نوري
- كراسات شيوعية [ Manual no: 46] الرياضة والرأسمالية والقومية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- طوفان الأقصى و تحرير فلسطين : نظرة شيوعيّة ثوريّة / شادي الشماوي
- الذكاء الاصطناعي الرأسمالي، تحديات اليسار والبدائل الممكنة: ... / رزكار عقراوي
- متابعات عالميّة و عربية : نظرة شيوعيّة ثوريّة (5) 2023-2024 / شادي الشماوي
- الماركسية الغربية والإمبريالية: حوار / حسين علوان حسين
- ماركس حول الجندر والعرق وإعادة الانتاج: مقاربة نسوية / سيلفيا فيديريتشي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - حازم كويي - قبل 125 عاماً رحل فريدريش نيتشه «عداء الجماهير»