أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أوزجان يشار - ومضات من حياة فيرجينيا وولف















المزيد.....

ومضات من حياة فيرجينيا وولف


أوزجان يشار
كاتب وباحث وروائي

(Ozjan Yeshar)


الحوار المتمدن-العدد: 8435 - 2025 / 8 / 15 - 00:07
المحور: الادب والفن
    


مدخل فلسفي: بين العزلة والصوت الداخلي

“في هذه اللحظة، لم يكن عليها أن تفكّر في أيّ أحد. كان يمكنها أن تكون هي نفسها، بنفسها. وهذا ما كانت كثيرًا ما تشعر الآن بحاجة إليه – أن تفكّر؛ بل لا، حتى دون أن تفكّر. أن تلتزم الصمت؛ أن تكون وحيدة.”
هكذا دوّنت فيرجينيا وولف في إحدى أكثر لحظات روايتها إلى المنارة صفاءً، جملة تبدو للوهلة الأولى بسيطة، لكنها تختزن فلسفتها الكاملة عن الحياة والكتابة. العزلة هنا ليست هروبًا من العالم، بل مساحة أصيلة للقاء الذات، وفرصة للإصغاء إلى الصوت الداخلي بعيدًا عن ضجيج الخارج.

في عصرها، حيث كانت أوروبا تهتز على وقع الحرب العالمية الأولى، وتتحول المجتمعات تحت ضغط التغيرات السياسية والاجتماعية، كانت وولف تدرك أن هذه المسافة مع العالم ضرورية للحفاظ على كيانها الإبداعي والنفسي. لم يكن الصمت بالنسبة لها فراغًا، بل فضاءً ممتلئًا بالمعنى، وكانت الوحدة شرطًا لالتقاط ما يفلت من الوعي في لحظاته العابرة.

لقد لخّصت في مقالها الرواية الحديثة (1919) هذه الرؤية بقولها:
“الحياة ليست سلسلة من مصابيح مرتبة في صف واحد؛ بل هي هالة، نصف شفافة، تحيط بنا من لحظة الوعي إلى نهايته.”
ومن هنا انطلقت نحو كتابة نصوص تتجاوز الخطية التقليدية للسرد، معتمدة على تيار الوعي كمرآة لحركة الفكر والشعور في لحظتهما الآنية.



النشأة والتكوين الفكري والنفسي

ولدت أدالاين فيرجينيا ستيفن في 25 يناير 1882، في لندن، داخل بيت فيكتوري يجمع بين الامتياز الثقافي والتقاليد الصارمة. كان والدها، السير ليزلي ستيفن، مؤرخًا وناقدًا أدبيًا موسوعيًا، وصاحب مؤلفات نقدية وفكرية رفيعة. أما والدتها، جوليا جاكسون، فكانت عارضة فنية وممرضة، وقد ورثت عنها فيرجينيا حساسية جمالية ستنعكس لاحقًا في وصفها للمشاهد والوجوه والألوان.

لكن خلف هذه الواجهة الراقية، كان ثمة خلل عميق. حصل إخوتها الذكور على تعليم جامعي في أفضل المؤسسات، بينما اقتصر تعليمها على دروس منزلية في الأدب الكلاسيكي واللغات، تحت إشراف والدها. هذا التمييز المبكر بين الجنسين أيقظ في داخلها وعيًا نسويًا سيظل يتبلور حتى يثمر لاحقًا في كتابها الأشهر غرفة تخص المرء وحده (1929).

طفولتها كانت محفوفة بالفقد: وفاة الأم عام 1895، ثم الأخت غير الشقيقة ستيلا بعد عامين، وأخيرًا وفاة الأب عام 1904. كل هذه الضربات تركت ندوبًا نفسية قادتها إلى أول انهيار عصبي وهي في سن الثالثة عشرة. كشفت لاحقًا في مذكراتها عن تعرضها للتحرش على يد إخوتها غير الأشقاء جورج وجيرالد داكورث، ووصفت ذلك بأنه “ظل لا يغيب” يرافقها في كل تجربة شخصية أو إبداعية.

في رسالة إلى فيتا ساكفيل-ويست عام 1926 كتبت:
“كنت أشعر أنني غريبة في عالم يُعامل النساء كأجساد، لا كعقول.”
هذه الجملة ليست مجرد شكوى شخصية، بل بيان فكري عن معركة طويلة مع البنية الذكورية للمجتمع.



بلومزبري ومسار الحداثة الأدبية

بعد وفاة والدها، انتقلت فيرجينيا وإخوتها إلى حي بلومزبري في قلب لندن، حيث بدأ يتشكل ما عُرف لاحقًا بـ“مجموعة بلومزبري” – دائرة فكرية وفنية ضمّت أسماء بارزة مثل جون ماينارد كينز، ليتون ستراتشي، وروجر فراي. هنا وجدت وولف نفسها وسط مناخ من التجريب، حيث تُناقش الفلسفة والفن بحرية، وحيث لا مكان لقيود الأخلاق الفيكتورية الثقيلة.

في هذا الوسط، صاغت وولف أسلوبها الحداثي الفريد. كانت روايتها السيدة دالاوي (1925) مثالًا على ذلك: يوم واحد من حياة كلاريسا، لكنه يتسع ليشمل تاريخًا داخليًا كاملًا، ومقابلة بين حياة اجتماعية أرستقراطية وجندي مكسور بفعل الحرب.

إلى المنارة (1927) كانت بمثابة لوحة تأملية عن الزمن والفقد والفن، مقسّمة إلى ثلاثة أجزاء، حيث يأتي القسم الأوسط الزمن يمر كفجوة عابرة تُلخص عقدًا كاملًا في ومضات. أما أورلاندو (1928)، التي أهدتها لعشيقتها فيتا ساكفيل-ويست، فهي رواية تحتفي بالتحولات، إذ ينتقل البطل/البطلة من رجل إلى امرأة عبر أربعة قرون، في نقد ساخر للتاريخ والجندر معًا.



العزلة والكتابة: فلسفة ومساحة حرية

في غرفة تخص المرء وحده وضعت وولف أطروحتها الأيقونية:
“المرأة تحتاج إلى مال وغرفة خاصة بها إذا أرادت أن تكتب رواية.”
لم يكن هذا مجرد مطلب نسوي موجه للنساء، بل رؤية عامة للإبداع كفعل يحتاج إلى شروط مادية ونفسية مستقلة.

العزلة عندها لم تكن انسحابًا سلبيًا، بل إعادة شحن للروح، ومختبرًا للتأمل العميق. كتبت في إحدى رسائلها:
“في العزلة أسمع نفسي، وفي الضوضاء أفقدها.”
وهكذا، كانت وحدتها شرطًا لالتقاط التفاصيل الدقيقة التي تصنع مشهدًا أو شخصية أو جملة تبقى في الذاكرة.



اللغة كتيار تأملي وجمالية الحداثة

أسلوب وولف يشبه تيار الماء: ينحني ويلتف ويتوقف ليستأنف. الجملة عندها ليست مجرد أداة للتواصل، بل فضاء للتجربة الحسية والفكرية. في الأمواج (1931)، تخلت عن البنية الروائية التقليدية تمامًا، وجعلت ست شخصيات تتبادل المونولوجات الداخلية في شكل أقرب إلى الشعر، حيث تتقاطع الأصوات لتشكل سيمفونية عن دورة الحياة.

كانت التفاصيل اليومية – ضوء نافذة، موجة تتكسر، صوت في الشارع – تتحول في كتابتها إلى نوافذ على الذاكرة والوعي، وكأنها تحفر المعنى من قلب العابر والهامشي.



الصراع النفسي والحياة الشخصية

عانت وولف من اضطراب ثنائي القطب، وكانت تمر بدورات من النشاط الإبداعي المحموم يتبعها انهيار عميق. الهلوسات السمعية والبصرية كانت جزءًا من تجربتها، لكنها في الوقت نفسه منحت كتابتها حساسية فائقة لاهتزازات النفس البشرية.

زواجها من ليونارد وولف عام 1912 كان شراكة عقلية وروحية استثنائية، أسسا خلالها دار هوغارث بريس التي نشرت أعمال تي. إس. إليوت، وكاثرين مانسفيلد، وفرويد. علاقتها مع فيتا ساكفيل-ويست أظهرت بعدًا آخر لشخصيتها، حيث امتزج الحب بالإلهام الأدبي في رسائل مليئة بالجرأة والشعرية.



الحرب العالمية وظلال التاريخ

الحربان العالميتان كانتا بالنسبة لوولف تجربة زلزالية. في ثلاث غينيات (1938)، هاجمت الفاشية والنزعة الوطنية التي تحوّلت إلى آلة قتل، وكتبت:
“كامرأة، ليس لي وطن. كامرأة، وطني هو العالم.”
الحرب مزّقت فكرة الاستمرارية التي كان السرد الكلاسيكي يعتمد عليها، وأكدت لها هشاشة الزمن وخضوعه للانقطاع المفاجئ.



النهاية والإرث الممتد

في 28 مارس 1941، كتبت لزوجها ليونارد رسالة وداع مؤثرة، ثم خرجت إلى نهر أوس في ساسكس، ووضعت الحجارة في معطفها وسارت إلى الماء. كان انتحارها تتويجًا لصراع طويل مع الألم النفسي، لكنه أيضًا فعل نهائي من التحكم في مصيرها.

إرثها اليوم يتجاوز أعمالها الروائية إلى أثرها في النقد النسوي، والتحليل النفسي للأدب، وتجديد شكل الرواية. أعادت تعريف ما يمكن للسرد أن يلتقطه، وأثبتت أن التجربة الداخلية تستحق أن تكون في مركز النص.



خاتمة مفتوحة على الزمن

كلماتها في إلى المنارة تظل صالحة كوصية وجودية: أن تكون وحيدًا مع نفسك قد يكون فعل شجاعة بقدر ما هو فعل تأمل. في زمننا المزدحم، تبقى وولف دليلًا على أن الإصغاء الداخلي هو أساس كل إبداع، وأن العزلة ليست غيابًا، بل حضورًا من نوع آخر.



المصادر:
1. Virginia Woolf, A Room of One’s Own, 1929
2. Virginia Woolf, To the Lighthouse, 1927
3. Virginia Woolf, Mrs Dalloway, 1925
4. Virginia Woolf, The Waves, 1931
5. Nigel Nicolson, Virginia Woolf, 2000
6. Hermione Lee, Virginia Woolf: A Biography, 1996



#أوزجان_يشار (هاشتاغ)       Ozjan_Yeshar#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ومضلات من حياة كافكا وهل كان يكتب عن العبث الإنساني… أم عن ا ...
- نظرية باريتو: من حقول البازلاء إلى قانون عمل وفلسفة اقتصاد
- كائنات صغيرة، كوابيس صناعية: عندما تُهدِّد الأحياء الغازية أ ...
- ثلاثة أرواح أثمرت إبداعًا فوق شجرة المعاناة .. حين يصبح الجر ...
- فاسكو دي جاما: الوجه الدموي وراء أسطورة “مكتشف” رأس الرجاء ا ...
- الجزائر المحروسة بالله: حينما نزلت السماء إلى ساحة المعركة
- بين براءة التفاؤل وجحيم الآخر: دع الحياة تمر، لا تتعثر في أر ...
- الذكاء الاصطناعي ينهش الوظائف التقليدية… والتعليم لا يزال في ...
- كين نورتون: المارينز الذي هزَمَ العمالقة.. وقهره النسيان
- ست ساعات في أديس أبابا: عبورٌ في شرايين القارة القديمة
- المجتمع والحضارة: عشرة محاور تصنع مصير الأمم
- تلقين الدم والتفوق: كيف تصنع المدارس الإسرائيلية جيلًا يؤمن ...
- الرومانسية الخالدة للكلمات: تأمل في الحب وإرث برونتي عبر آفا ...
- زلزال روسيا المهيب يقرع جرس الخطر: العالم على موعد مع موجات ...
- حين تعبت من مطاردة الكمال… وجدت الطريق في الداخل
- حين تُبتر الساق وتُبتر الذكرى: قراءة فلسفية ونفسية في رسالة ...
- الجدل العقائدي بين النقد أم الشيطنة؟ حين نرى العالم بعين واح ...
- حين يُصبح الصمتُ العالمي شريكًا في الإبادة
- الهوية الأمازيغية بين وهم النقاء وخديعة الجينات: صراع الانتم ...
- حين تعشق أجنحة الطائر أسلاك القفص


المزيد.....




- شاهين تتسلم أوراق اعتماد رئيسة الممثلية الألمانية الجديدة لد ...
- الموسيقى.. ذراع المقاومة الإريترية وحنجرة الثورة
- فنانون يتضامنون مع حياة الفهد في أزمتها الصحية برسائل مؤثرة ...
- طبول الـ-ستيل بان-.. موسيقى برميل الزيت التي أدهشت البريطاني ...
- بين الذاكرة وما لم يروَ عن الثورة والانقسامات المجتمعية.. أي ...
- كيف نجح فيلم -فانتاستيك فور- في إعادة عالم -مارفل- إلى سكة ا ...
- مهرجان تورونتو يتراجع عن استبعاد فيلم إسرائيلي حول هجوم 7 أك ...
- بين رواندا وكمبوديا وغزة.. 4 أفلام عالمية وثقت المجاعة والحص ...
- المعمار الصحراوي.. هوية بصرية تروي ذاكرة المغرب العميق
- خطه بالمعتقل.. أسير فلسطيني محرر يشهر -مصحف الحفاظ- بمعرض إس ...


المزيد.....

- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أوزجان يشار - ومضات من حياة فيرجينيا وولف