الثورة الاشتراكية - نضال من أجل مجتمع حر وعادل
منظمة سياسية
(Socialist Revolution - Struggle For A Free And Just Society)
الحوار المتمدن-العدد: 8433 - 2025 / 8 / 13 - 00:32
المحور:
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية
مصطفى سامح
كانت الساعة تشير إلى الرابعة والنصف بعد ظهر مدينة من مدن العالم الآخر، حين دوى رنين هاتفي الذي كنت قد ضبطته من أجل غفوة قصيرة في منتصف النهار. اغلقت المنبه، ونهضت بخطى مثقلة إلى مقعد مكتبي، وفي صدري انقباض غامض كأنه يتهيأ لنبأ ثقيل يوشك أن يقتحم ما تبقى من ساعات يومي.
فتحت هاتفي وبدأت أتنقل بين صفحات الإنترنت، وما أن لمحت أولى العناوين حتى انقض علي الخبر كالصاعقة: استشهاد الصحفي الشريف أنس الشريف. كل المنشورات كانت وليدة اللحظة، بفارق دقيقة أو دقيقتين لا أكثر، وكأن العالم الآخر – الذي أنا جزء منه – قد تلقى النبأ في التو حين لفظ الشهيد آخر أنفاسه.
شعرت بعيني تذرفان الدموع قبل أن أستوعب ما قرأته، وبدأ لساني يتمتم بأدعية للشهيد بصوت متهدج، بينما عيني تراقب عن كثب تفاعلات الأصدقاء والمعارف على حسابي الشخصي، وهم يتجرعون الصدمة نفسها التي ارتطمت بي قبل لحظات. ومع تتابع ردود الأفعال المذهولة، أخذ الحزن العميق الذي اعتراني يتبدد شيئاً فشيئاً ليتحول لغضب مكتوم، غضب لم يشتعل فقط لأن الاحتلال اغتال صحفياً عربياً فلسطينياً غزاوياً آخر، بل من ملامح ردود أفعال أبناء “العالم الآخر” التي بدت لي وكأننا من حيث لا ندري انحدرنا من صفوف المناصرين وحملة القضية والمدافعين عنها بدمائنا، إلى هيئة جمهور يقف على المدرّجات يراقب مباراة لكرة القدم.
كان يكتب إلينا، لا مستنجدًا، بل كان يفضحنا أمام الله، يفضح عجزنا، ونذالتنا، وحقارتنا، ويضع أسماءنا في قائمة خزي ستُقرأ يوم الحساب. كل تغريدة كتبها الشهيد الشريف أنس كانت صفعة على وجوهنا، وصك إدانة مختوم بدمه، ونحن بلا خجل نقرأها ونزينها بأدعية أو رمز قلب مكسور.
كان يختصم الله فينا، يرفع قضيته وقضية شعبة ضدنا، ونحن نراه، ونسمعه، ونشارك كلماته. كم مرة وضع الحقيقة أمام أعيننا ولم نحرك ساكنًا؟ كم مرة مد إلينا صوته فتركناه يسقط في قاع النسيان؟
كنا نشاهده وهو يحترق حيّا، ونوثّق احتراقه بالرموز التعبيرية، كأننا نوقع على شهادة موته بابتسامة رقمية. لم يكن أنس يختصم قاتله وحده، كان يختصمنا جميعًا، لأننا بصمتنا، بجبننا، ببلادتنا شركاء في خذلانه.
كيف أصبحنا في خانة المتفرج الذي يتلقى أخبار أهله، من دمه ولحمه، عبر شاشة باردة لا تنبض؟ كيف تجرّدنا من فطرتنا في أن نكون حيث ينبغي أن نكون، بجوارهم وفي صفهم، لا خلف زجاج يبعدنا عنهم آلاف الأميال؟ إنني أرى، بوضوح يثير الغثيان، أن تفاعلنا مع فواجعهم صار نسخة طبق الأصل من تفاعلنا مع نتائج المباريات وأخبار الدوريات: مباراة تنتهي، نغضب أو نفرح لساعتين، ثم نمسح كل شيء من ذاكرتنا وننتظر الجولة القادمة.
شهيد يسقط مضرجًا بدمه، فنكتفي بالانحناء لالتقاط صورة دموعنا لننشرها على مواقع التواصل، كما نفعل حين يرحل لاعب مفضل عن فريقه؛ مقاوم يوفق في إصابة قلب العدو، فنقفز في منازلنا ونكتب التعليقات الحماسية، تمامًا كما نقفز ونهتف إذا سدد مهاجم ضربة حاسمة في الدقيقة الأخيرة. كل شيء عندنا أصبح “مباراة” أخرى، لها مدرج، ولها جمهور، ولها موجة فرح أو حزن مؤقتة، حتى دماء الشهداء صارت عندنا أهدافًا أو خسائر على لوحة نتائج افتراضية.
والأدهى، أننا نحمل هذا الوهم في صدورنا ونظن أننا قد أدّينا أقصى ما يمكننا القيام به، بينما الحقيقة أننا لم نخطُ خطوة واحدة خارج مقاعدنا، ولم نمد يدًا واحدة لإنقاذ جريح أو إطعام جائع، ولم نغير شيئًا في موازين المعركة. نحن ببساطة نمارس التشجيع، لكن دون حتى دفع ثمن تذكرة الدخول… مجرد مشجعين بخلاء، نستهلك البطولة مجانًا، ونغادرها عند انتهاء العرض.
كيف تدحرجنا من الفطرة إلى هذا الحضيض الموحل، حتى صرنا مسوخًا مشوهة تجلس خلف الشاشات، تحدّق بعينين زجاجيتين في أخبار أهلها، كما يحدّق سفيه عاطل في صحيفة صفراء، كيف استبدلنا حرارة الدم في العروق ببرودة الضوء الأزرق، حتى باتت أيدينا أنشط في التمرير على الشاشات من قبض السلاح أو شدّ يد جريح أو انتشال طفل من تحت الركام؟ أي لعنة جعلتنا نساوي بين شهيد يسقط مضرجًا بدمه، وبين لاعب يترك ناديه؟ بين مقاوم أطلق سلاحهُ ورصاصهُ على قلب العدو، وبين مهاجم سدد كرة في شباك خصمه؟ كيف أصبح صراخ أمهات الشهداء لا يختلف في وقعه علينا عن صيحات جمهور يصفق لهدف في مباراة؟
صرنا اليوم أشبه بجمهور يتزاحم على مدرجات وهمية، نهتف ونصفق ونتقاذف التعليقات، بينما هناك، على مسافة أمتار أو أميال، أحبتنا وأشرف من فينا يواجهون الموت والحصار والجوع بصدور عارية وأيدٍ عزلاء. ومع ذلك، نحن باقون في مقاعدنا الوثيرة، نؤدي دور “المشجع” بامتياز.
لن أطلب منك أن تتقبل ما سأقوله، ولن أعتذر عن صراحتي، فالكلمات هنا ليست إلا لفضح قبحنا كما هو، لسنا سوى قرود في قفص سيرك، تتسلى بصراخها وضحكاتها أنظار المحتل. بل إنّ القرود أشرف منّا، لأنها ما زالت تحفظ فطرتها، وتذود عن صغارها، ولا تتخلّى عن بعضها حين الخطر. أما نحن، فقد انسلخنا حتى من تلك الفطرة البدائية، وصرنا كائنات مفرغة من المعنى، مسلوبة الشرف، مشلولة الإرادة، نستحق أن يُبصق علينا قبل أن يُذكر اسمنا، ونستحق أن نُدفن في مقابر النسيان أحياءً قبل أن نلوث الأرض بخطواتنا أكثر. إننا عارٌ على قضايانا، عارٌ على دمائنا، وعارٌ على كل شهيد غادر الدنيا وهو يظن أن خلفه من سيحمل الراية.
القدس عروس عروبتكم؟؟
فلماذا أدخلتم كل زناة الليل حجرتها
ووقفتم تسترقون السمع وراء الابواب لصرخات بكارتها
وسحبتم كل خناجركم، وتنافختم شرفًا
وصرختم فيها أن تسكت صونًا للعرض؟؟؟
فما أشرفكم!
أولاد القحبة هل تسكت مغتصبة؟؟؟
أولاد القحبة
لست خجولًا حين أصارحكم بحقيقتكم
إن حظيرة خنزير اطهر من اطهركم
تتحرك دكة غسل الموتى
أما أنتم
لا تهتز لكم قصبة!
الآن أعريكم
في كل عواصم هذا الوطن العربي
قتلتم فرحي
في كل زقاق أجد الأزلام أمامي
أصبحت أحاذر حتى الهاتف
حتى الحيطان وحتى الأطفال
أقيء لهذا الأسلوب الفج
وفي بلد عربي كان مجرد مكتوب من أمّي
يتأخر في أروقة الدولة شهرين قمريين
تعالوا نتحاكم قدام الصحراء العربية كي تحكم فينا
أعترف الآن أمام الصحراء
بأني مبتذل وبذيء وحزين
كهزيمتكم يا شرفاء مهزومين
ويا حكامًا مهزومين
ويا جمهورًا مهزومًا
ما أوسخنا …ما أوسخنا …ما أوسخنا
ونكابر
ما أوسخنا
لا استثني احدا
مظفر النواب “وتريات ليلية”
وإن كان هذا حالنا اليوم، حتى في هذا العار المطبق، فليس القصد من قول ذلك أن نغرق في جلد الذات حتى نصير أسرى لليأس، ولا أن نحول الغضب إلى مجرد بكاء طويل على الأطلال. الاعتراف بالعار لا يكون غاية بحد ذاته، بل وسيلة لخلع هذا الثوب القذر عن أكتافنا. تجارب الماضي علمتنا كلنا أن الغضب وحده لا يغير واقعًا، وأن الانفجار العفوي بلا رؤية يتحول سريعًا إلى فوضى تلتهم نفسها قبل أن تمس العدو، لقد دفعنا في الماضي ثمن دخول إلى معارك صيغت قواعدها على مقاس خصمنا، فخسرنا قبل أن تبدأ حتى الجولات الأولى، كل صرخة خرجت بلا تنظيم، كل حراك اندفع بلا خطة، كان كمن يسير طوعًا إلى كمين مفتوح.
إذا أردنا هذه المرة أن ننتصر، فعلينا أن نتجاوز ردود الأفعال العفوية، وأن ننتقل من دائرة الانفعال اللحظي إلى بناء فعل جماعي مشترك ومحسوب، وهذا يعني أن نغادر مقاعد المشاهدة لا ركضًا نحو أول شارع نراه، بل نحو صفوف مرتبة، يعرف فيها كل فرد موضعه، ويدرك دوره، ويتحرك ضمن خطة أكبر منه، خطة لا تترك للمصادفة فرصة، ولا تمنح للعدو ميزة المبادرة. الخروج من هذا المستنقع لا يكون بالقفز في الشوارع عشوائيًا، ولا بدخول معركة كتب العدو قواعدها سلفًا، الدخول إلى ساحة صاغوا قوانينها هو هزيمة قبل أن تبدأ. نحن بحاجة إلى ما هو أبعد من الغضب، وأقوى من الانفعال، نحن بحاجة إلى أن نعيد صياغة أنفسنا كجسد منظم، يعرف متى يضرب وأين، ويعرف كيف يتحرك كوحدة واحدة.
علينا أن نصنع قواعدنا نحن، أن نحدد نحن الميدان والزمن وأدوات المواجهة، وأن نغلق كل باب تسللوا منه في الماضي. لا مكان للارتجال، ولا للمغامرات الفردية التي تستهلك الدماء قبل أن تغير شيئًا. المطلوب أن نكون شبكة حية، تحمي نفسها وتضاعف قوتها، وتعمل بخطة يعرف كل فرد فيها دوره.
إن فطرتنا لن تعود بمظاهرات بائسة، ببيانات شجب، ولا بصور رمزية، ولا بشعارات خاوية، بل بخطة متماسكة، تنقل المعركة إلى أرض لم يختارها العدو.
وختاماً، سلامٌ عليك يا أنس، وأنت تغادر هذه الأرض على الطريق الذي اخترته بوعي وقلب ثابت. لم تساوم، ولم تنحنِ، ولم تتخل عن الميكروفون حين كانت الرصاصة أقرب من صدرك. وقفت حيث يتساقط الآخرون، فصرت أنت الخبر والصوت، وصرتَ شاهدًا وشهيدًا في آن.
نم قرير العين يا أنس، فأنت لم تغادر وحدك؛ كل كلمة نطقتها، كل خبر نقلته، كل مشهد فضحت فيه العدو، باق فينا كسلاح لا يصدأ. أنت لست جثمانًا يوارى الثرى، بل ذخيرة في وجدان أمة، ذخيرة في قلب كل من بقي له شرف وكرامة.
قتلاك أو جرحاك فيك ذخيرة…
فاضرب بها عدوك
فاضرب بها عدوك
فاضرب بها عدوك
soc-rev-egy.org
#الثورة_الاشتراكية_-_نضال_من_أجل_مجتمع_حر_وعادل (هاشتاغ)
Socialist_Revolution_-_Struggle_For_A_Free_And_Just_Society#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟