أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني - أوزجان يشار - الجزائر المحروسة بالله: حينما نزلت السماء إلى ساحة المعركة















المزيد.....

الجزائر المحروسة بالله: حينما نزلت السماء إلى ساحة المعركة


أوزجان يشار

الحوار المتمدن-العدد: 8428 - 2025 / 8 / 8 - 21:30
المحور: الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني
    


كانت المدينة بلا جيش ولكن السماء كانت بلا حدود..

في أواخر أكتوبر من عام 1541م، كانت الجزائر مدينة صغيرة على حافة المتوسط، لكنها كانت تحمل في قلبها ذاكرة مقاومة متراكمة منذ الفتح الإسلامي، وموقعًا استراتيجيًا جعلها في عين العاصفة بين قوتين عالميتين: الإمبراطورية الإسبانية المسيحية من الغرب، والدولة العثمانية المسلمة من الشرق.

كانت المدينة، عشية المعركة، شبه خالية من حاميتها العثمانية الرئيسية، إذ كان أمير البحر خير الدين بربروس بعيدًا في البحر الأدرياتيكي، يقود حملة ضد البنادقة وحلفائهم. لم يتبق في الجزائر سوى بضع مئات من الجند، وأسلحة محدودة، وأسوار قديمة لا تقارن بحصون إسبانيا. ومع ذلك، كانت روحها مشبعة بإيمان لا يتزعزع، وإحساس غامض بأن السماء لن تتركها فريسة لمخالب شارلوكان.

هذه ليست مجرد مواجهة عسكرية بين جيوش، بل قصة تحالف بين الأرض والسماء، بين إرادة البشر وقدَر الغيب، بين ضعف ظاهر وقوة خفية، أسقطت إمبراطورًا كان يحكم من فيينا إلى العالم الجديد.



الفصل الأول: شارلوكان.. الإمبراطور الذي أراد أن يعيد رسم خريطة المتوسط

في القرن السادس عشر، كان شارل الخامس – أو كارلوس الأول في التاريخ الإسباني – واحدًا من أقوى حكام أوروبا، يجمع بين تاج الإمبراطورية الرومانية المقدسة وتاج إسبانيا، ويتحكم في مستعمرات تمتد من أمريكا اللاتينية إلى الفلبين. كان يؤمن أنه الوريث الشرعي للمشروع الصليبي الذي بدأ مع الملوك الكاثوليك فرديناند وإيزابيلا، وأن مهمته التاريخية هي محاصرة الدولة العثمانية من الشرق والغرب، و”تطهير” المتوسط من المسلمين.

غير أن عقبة كبرى وقفت في طريقه: خير الدين بربروس، القائد الذي صار أمير بحر عثماني، وحوّل الجزائر إلى قاعدة بحرية تتحكم في طرق التجارة، وتشن غارات على السواحل الإسبانية لفك أسر الأفارقه المختطفين من سفن العبيد الأوروبية.

بعد فشل حملته على تونس عام 1534م أمام العثمانيين، قرر شارلوكان أن الجزائر هي الهدف التالي، وأن تدميرها سيكسر شوكة العثمانيين في الغرب، ويفتح الطريق لهيمنة أوروبية كاملة على شمال إفريقيا.



الفصل الثاني: حملة صليبية جديدة لم يشهد لها المتوسط مثيلًا منذ الحروب السابقة

في صيف عام 1541م، بدأ شارلوكان في تجهيز أسطول هائل:
• 500 سفينة بين حربية ونقل، جمعت من موانئ برشلونة، جنوة، نابولي، وإشبيلية.
• 65 ألف مقاتل، بينهم فرسان إسبان، مشاة ألمان مدججون بالأسلحة النارية، مدفعية ثقيلة من إيطاليا، ومتطوعون من الكنيسة الكاثوليكية تحت راية البابا بولس الثالث.
• الإمدادات شملت مؤنًا تكفي لشهور، وخيولًا، ومدافع ضخمة، وأدوات حصار متقدمة.

كانت الخطة واضحة: النزول في وادي الحراش شرق الجزائر العاصمة، التقدم بسرعة نحو المدينة قبل عودة بربروس، نصب المدافع، واقتحام الأسوار في أيام قليلة. كان شارلوكان يعتقد أن الحامية الضعيفة لن تصمد، وأن النصر سيكون مسألة وقت.



الفصل الثالث: الجزائر بلا جيش.. لكن بروح مدينة بأكملها

حين وصلت الأخبار عن اقتراب الأسطول الإسباني، عمّت حالة استنفار غير مسبوقة. لم يكن في المدينة سوى بضع مئات من الجنود العثمانيين والمجندين المحليين، وبعض المتطوعين من القبائل المجاورة. البقية كانوا تجارًا، حرفيين، علماء، نساء، وأطفال.

الشيء الوحيد الذي اتفق عليه الجميع: لن تُسلَّم المدينة. ارتفعت صيحات الأذان من المآذن: “الله أكبر.. لا غالب إلا الله”. خرج العلماء يحثون الناس على الصبر، وتضرع النساء في المساجد، وخرج الأطفال في دعواتهم البريئة يطلبون النصر.

حتى التفاصيل الصغيرة حملت معنى المقاومة: أُخرجت المواشي والحيوانات من المدينة خوفًا من المجازر، وخُبئت المؤن في أماكن سرية، وتحصنت النساء والأطفال في الأحياء الداخلية.



الفصل الرابع: العاصفة التي قلبت البحر إلى مقبرة

في مساء 24 أكتوبر، بينما كانت القوات الإسبانية تستعد للهجوم، بدأت السماء تتغير. ظهرت غيوم كثيفة من جهة الغرب، تلاها برق ورعد، ثم أمطار لم يعرف لها أهل المنطقة مثيلًا منذ عقود.

الرياح العاتية قلبت السفن في الميناء والمياه المفتوحة، الأمواج ارتفعت حتى غمرت المعسكرات على الشاطئ، ووادي الحراش انفجر بمياه جارفة أغرقت الخيام، وجرفت الجنود والخيول والمدافع.

في ساعات قليلة، تحولت الحملة المهيبة إلى كارثة:
• 150 سفينة تحطمت أو غرقت.
• 12 ألف قتيل بين غرق وبرد وأمراض.
• المدافع الثقيلة غاصت في الوحل أو ابتلعها البحر.
• شارلوكان نفسه فقد درعه، وهرب في زورق صغير، ليصل إلى الساحل الإسباني منهكًا ومهزومًا.



الفصل الخامس: أوروبا بين الصدمة والإنكار

الخبر نزل على أوروبا كالصاعقة. في روما، أعلن البابا بولس الثالث الحداد، وفي فرنسا لم يُخف الملك فرانسيس الأول سعادته بسقوط منافسه، بل سخر منه في مجالسه. المؤرخون الأوروبيون وصفوا ما جرى بأنه أسوأ هزيمة بحرية منذ العصور الوسطى، وبعضهم شبّهها بكارثة نابليون في روسيا بعد قرون.

في الجزائر، تحولت الواقعة إلى رمز، وأُطلق على المدينة لقب “المحروسة بالله”، ليس لأن جنودها دافعوا عنها فحسب، بل لأن السماء تدخلت بطريقة لا يفسرها إلا المؤمنون بالقدر.



الفصل السادس: أسباب الهزيمة من منظور التاريخ والمناخ والسياسة

رغم الطابع الإيماني الذي أضفاه الجزائريون على الحادثة، فإن قراءة معمقة تكشف شبكة معقدة من الأسباب:
• الغرور العسكري: شارلوكان تجاهل تحذيرات قادته بشأن تقلبات الطقس في الخريف بالمتوسط.
• سوء التوقيت: الحملة انطلقت في موسم معروف بالعواصف، ما جعل الأسطول عرضة للمناخ قبل أن يواجه العدو.
• ضعف الدعم اللوجستي: الاعتماد الكلي على الإمدادات البحرية جعل القوات عاجزة حين فقدت سفنها.
• المعنويات: أهل الجزائر كانوا يقاتلون من أجل بيوتهم وعائلاتهم، بينما كان جنود شارلوكان يقاتلون من أجل مجد إمبراطوري بعيد عنهم.



الجزائر.. الأرض التي إذا حمتها السماء لا تسقط

استمرت الجزائر بعد تلك المعركة ثلاثة قرون دون أن تخضع للسيطرة الأوروبية المباشرة، وظل لقب “المحروسة بالله” يتردد في وجدان أهلها.

“إذا انتصرت فبنصر الله، وإذا هُزمت فبذنوبك، لكن الأرض التي تحرسها السماء لا تسقطها المدافع.”

لقد علّمت معركة 1541م درسًا خالدًا: قد تخلو المدينة من جيش، لكن إذا امتلأت قلوب أهلها بالإيمان، فإن التاريخ قد يكتب بمداد المطر ورياح القدر، لا بمدافع الحديد.



الملحق التوثيقي والمراجع والمصادر:

• دييغو دي هايدو (Diego de Haedo)، القس الإسباني الذي كتب عن الجزائر في كتابه Topographia e Historia General de Argel (1612)، يصف العاصفة بأنها “عمل إلهي قلب كل الحسابات”.
• المؤرخ الفرنسي بيير دوفال (Pierre Duval) أشار في مخطوطاته إلى أن “كارثة الجزائر أذلت أكبر قوة مسيحية في أوروبا دون أن تطلق الجزائر قذيفة واحدة”.
• المؤرخ العثماني خليل إينالجك في كتابه The Ottoman Empire: The Classical Age يؤكد أن غياب بربروس عن الجزائر كان ليكون كارثة لولا العاصفة.
• أرشيف الديوان الملكي الإسباني يحتوي على مراسلات شارلوكان بعد الهزيمة، حيث يبرر ما حدث بعبارة: “لقد خانتنا السماء”.
• الرحالة الإنجليزي تشارلز هنري ديفيس، في مذكراته عن الجزائر (1845)، يصف كيف ظل أهل المدينة يروون القصة باعتبارها “دليلًا على أن المدينة محروسة بالله”.



#أوزجان_يشار (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بين براءة التفاؤل وجحيم الآخر: دع الحياة تمر، لا تتعثر في أر ...
- الذكاء الاصطناعي ينهش الوظائف التقليدية… والتعليم لا يزال في ...
- كين نورتون: المارينز الذي هزَمَ العمالقة.. وقهره النسيان
- ست ساعات في أديس أبابا: عبورٌ في شرايين القارة القديمة
- المجتمع والحضارة: عشرة محاور تصنع مصير الأمم
- تلقين الدم والتفوق: كيف تصنع المدارس الإسرائيلية جيلًا يؤمن ...
- الرومانسية الخالدة للكلمات: تأمل في الحب وإرث برونتي عبر آفا ...
- زلزال روسيا المهيب يقرع جرس الخطر: العالم على موعد مع موجات ...
- حين تعبت من مطاردة الكمال… وجدت الطريق في الداخل
- حين تُبتر الساق وتُبتر الذكرى: قراءة فلسفية ونفسية في رسالة ...
- الجدل العقائدي بين النقد أم الشيطنة؟ حين نرى العالم بعين واح ...
- حين يُصبح الصمتُ العالمي شريكًا في الإبادة
- الهوية الأمازيغية بين وهم النقاء وخديعة الجينات: صراع الانتم ...
- حين تعشق أجنحة الطائر أسلاك القفص
- شخصية الضحية المزمنة: بين قناع الضعف وحقيقة الاستنزاف المقدس ...
- ومضات من حياة ديكنز (الجزء الثاني): عبقريةٌ مزدوجة وظلالُ زو ...
- إبادة غزة تسقط الهولوكوست من كافة المعايير الانسانية ومن الا ...
- السيخية بين الروح والتاريخ: تأملات رحّالة بين المعابد
- عندما يضيء عقلك عتمة حياتك: أربعون درسًا من قلب الطريق
- الابتسامة التي تُبنى عليها الإمبراطوريات


المزيد.....




- -توتر خلف الكواليس- بين روسيا وإيران.. ومصادر تكشف لـCNN علا ...
- رغد صدام حسين تثير تفاعلا بمنشور عن إيران وحرب 1988
- رد السعودية على خطة نتنياهو في غزة وتحذيرها يثير تفاعلا
- ترامب وبوتين يلتقيان في ألاسكا: هل سيكون هناك اتفاق سلام؟
- روسيا تعلق على اختيار ألاسكا كمكان انعقاد قمة بوتين وترامب
- تحليل لـCNN: إسرائيل تختبر صبر ألمانيا -حليفتها الرئيسية- بت ...
- لقاء مرتقب بين ترامب وبوتين في ألاسكا لإنهاء الحرب في أوكران ...
- -اجتماع لتوحيد المواقف- بشأن تسوية ملف حرب أوكرانيا
- قيادة الجيش الإسرائيلي تفضّل وقفا جديدا لإطلاق النار في غزة ...
- فوائد صحية لتناول القرفة لا يعرفها كثيرون


المزيد.....

- علاقة السيد - التابع مع الغرب / مازن كم الماز
- روايات ما بعد الاستعمار وشتات جزر الكاريبي/ جزر الهند الغربي ... / أشرف إبراهيم زيدان
- روايات المهاجرين من جنوب آسيا إلي انجلترا في زمن ما بعد الاس ... / أشرف إبراهيم زيدان
- انتفاضة أفريل 1938 في تونس ضدّ الاحتلال الفرنسي / فاروق الصيّاحي
- بين التحرر من الاستعمار والتحرر من الاستبداد. بحث في المصطلح / محمد علي مقلد
- حرب التحرير في البانيا / محمد شيخو
- التدخل الأوربي بإفريقيا جنوب الصحراء / خالد الكزولي
- عن حدتو واليسار والحركة الوطنية بمصر / أحمد القصير
- الأممية الثانية و المستعمرات .هنري لوزراي ترجمة معز الراجحي / معز الراجحي
- البلشفية وقضايا الثورة الصينية / ستالين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني - أوزجان يشار - الجزائر المحروسة بالله: حينما نزلت السماء إلى ساحة المعركة