مظهر محمد صالح
الحوار المتمدن-العدد: 8415 - 2025 / 7 / 26 - 02:50
المحور:
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم
في قصر الشعب الصيني، ذلك المبنى الرمزي الذي يمثل السيادة والحكمة العريقة، اجتمعنا في عشاء دولة رسمي State dinner تزينه الدبلوماسية الهادئة وتفاصيل تقاليد تمتد لآلاف السنين. كانت بلاد الرافدين حاضرة، لا بصفتها ضيفًا فقط، بل كواحدة من أولى الدول التي أقامت علاقات دبلوماسية وصداقة مع جمهورية الصين الشعبية بعد نجاح ثورتها في العام 1949.
و في أجواء احتفالية ، ألقى رئيس الوزراء الصيني كلمته الترحيبية ، تحدث الرجل بصدق عاطفي ، كانت كلماته أشبه باعتراف ناعم بأوجاع الماضي وعظمة الحاضر التي لا تُقال كثيراً ، وكادت نبرته تبكينا، وهو يروي سردية عن تاريخ مجاعات الصين ، بصفته أحد الشهود على مأساة تلك المرحلة. فقد جاءت المجاعة نتيجة مباشرة لسياسات “القفزة الكبرى إلى الأمام” التي أطلقها الزعيم ماو تسي تونغ عام 1958 ، وكان الهدف منها تسريع التحول من اقتصاد زراعي إلى صناعي اشتراكي، عبر دمج المزارع في “كومونات شعبية”، وإجبار الفلاحين على العمل القسري في مشاريع جماعية، كما تشير كتب الاقتصاد السياسي.
حيث فرضت الدولة حصصًا إنتاجية غير واقعية، وتم تصدير الحبوب رغم النقص الداخلي. ومع التقارير الكاذبة التي رفعتها الإدارات المحلية عن الإنتاج الزراعي، ظنّت القيادة المركزية الصينية أن هناك فائضًا غذائيًا ، وهكذا ، تُرك الشعب لجوعه.
فقد استعرض الرجل بمرارة، مشيرًا إلى مآسي تلكً المجاعة الكبرى التي عصفت بالصين بين عامي 1959 و1960.
فتذكرت بنفسي حين أكل ملايين الفقراء الطين تحت سياسات القفزة الكبرى إلى الأمام، وهي المجاعة التي خلفت ما بين 15 إلى 45 مليون ضحية نتيجة الانغلاق الزراعي في سياسة الكومونات و العمل بسخرة بعد نزع الملكيات .
هذه الشهادة بآلامها جاءت لتُذكّر الضيوف بأن صعود الصين لم يكن هبة من أحد، بل خلاصة مشقة هائلة.
كما لم يكن ذلك الطرح مفصولًا حتى عن ما عرف في الادب الاستعماري بـ”قرن الإذلال” (1839–1949)، حين فُرضت على الصين معاهدات مهينة من الغرب واليابان، وقُسمت أراضيها، وتم تقويض كبريائها التاريخي.
ان ذلك الماضي، لا يزال يحكم سلوك بكين المعاصر ويجعلها شديدة الحساسية تجاه أي وصف يُذكّر بالهيمنة أو التوسع.
وفي لحظة تأمل على مائدة الطعام، بدا أن القائد الصيني يلوّح -دون أن يصرّح- بمفهوم “فخ ثوكيديدس”، وهي الفرضية التي تقول إن صعود قوة جديدة (كأثينا في الماضي أو الصين اليوم) يُشعل خوف القوة المهيمنة (إسبرطة، أو الولايات المتحدة حاليًا) مما يجعل الحرب شبه حتمية. ففي كتاب مهم “محكومون بالحرب؟” (2017)، يوضح غراهام أليسون أن من أصل 16 حالة تاريخية لصعود قوة جديدة، انتهت 12 منها إلى حرب طاحنة .
لهذا، تحرص الصين على خطاب استراتيجي لا يعلن العظمة، بل يلتف عليها.
يقول دينغ شياو بينغ : الزعيم الصيني السابق ، حكمة بالغة “اخفِ قوتك، وكن غامضًا بشأن طموحاتك”، وهي عقيدة ما تزال تحكم سلوك الصين الخارجي حتى اليوم ،كما قال كذلك (لايهم لون القطة سوداء ام بيضاء طالما تاكل الفئران…!!) وهو يشير الى بلوغ الصين نظام سياسي واحد باقتصادين - السوق والدولة. فالصين لا تنكر صعودها، لكنها ترفض “الاحتفاء المسبق” به، وتحرص على عدم استفزاز الغرب وخصوصًا الولايات المتحدة.
هذه السياسة واضحة في خطاب بكين حول مبادرة الحزام والطريق، والتوسع الاقتصادي في إفريقيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط، والتطور التكنولوجي السريع الذي جعلها مصنع العالم.
لكن رغم هذا كله، ترفض بكين أن تُوصف بـ”القوة العظمى”، وتفضل توصيفات مثل “قوة مسؤولة” أو “دولة نامية كبرى”.
ليس ذلك مجرد تواضع ثقافي، بل استراتيجية متقنة تقوم على التقدم دون استفزاز. فالصين تعرف أن الكلمات اليوم ليست مجازًا بل ذريعة: ذريعة للهيمنة، أو للحصار، أو للمواجهة.
وبينما كنت أتناول طبق البط الصيني الشهي المقدم في إناء تقليدي رائع، استرجعت كيف أن هذا العشاء السياسي ليس مجرد مناسبة بروتوكولية، بل عرض ناعم لفلسفة القوة الصينية. فالصين تتمدد لا لتواجه، بل لتثبت حضورها دون أن ترفع صوتها.
لكن هذه القوة الصامتة لا تُطمئن الجميع. فواشنطن، على سبيل المثال، ترى في كل صعود صيني تهديدًا مستترًا . ولذا، تسعى لتطويقها من خلال تحالفات المحيطين الهندي والهادئ، وتفرض قيودًا على صادرات التكنولوجيا المتقدمة، وتستهدف شركات مثل هواوي، وتخوض معها حربًا تجارية، وإن كانت بصيغة ناعمة.
فالقيادة الصينية تُدرك أن لحظة الإعلان عن العظمة قد تكون لحظة بداية الحصار. ولذلك، تُبقي أوراقها قيد الصمت، مفضلة اللعب في مساحة “الصعود بلا إعلان”. إنها إمبريالية حمراء red imperialism بملامح حضارية ناعمة كما تصفها الادبيات الاقتصادية الغربية ، لا ترفع شعار المواجهة، بل التداخل الذكي في الأسواق والبنى التحتية العالمية.
فمنذ إعلان الرئيس الحالي شي جين بينغ عن “الحلم الصيني” عام 2013، وبدء تنفيذ مبادرة “الحزام والطريق”، بات من الواضح أن الصين تتمدد لا لتواجه، بل لتُثبّت حضورها الحضاري والاقتصادي والجيوسياسي، مستفيدة من تفوقها التكنولوجي والتجاري، خصوصًا في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي، والاتصالات ، والتموضع العالمي في إفريقيا وأميركا اللاتينية والشرق الأوسط.
مع ذلك، تظل القيادة الصينية تزن كلماتها بدقة. فالعالم في قراءتها، لم يعد يتعامل مع الخطاب بوصفه مجازًا، بل كذريعة للمواجهة أو الهيمنة. ولهذا ، فإن كل خطوة تُحسب، وكل كلمة تُقاس، وكل مبادرة تُغلف بـ”التواضع السياسي”، حتى لا يُستعجل تطويق الصين كما حدث سابقًا مع قوى صاعدة.
فهنا وعلى مائدة الدولة، عاد كلٌّ منا إلى ذاكرته الخاصة، متأملًا في خطاب الرئيس الصيني، الذي دار بعفوية (غير مباشرة ) حول فخ ثوكيديدس (دون أن يسميه ) اذ أُعيد إحياء هذا المفهوم الاستراتيجي مؤخرًا (كما ذكرنا اعلاه) في كتاب غراهام أليسون ،محكمون بالحرب “Destined for War: Can America and China Escape Thucydides’s Trap?”، الصادر في نيويورك العام 2017، والذي خلص فيه الكاتب الاميركي كما ذكرنا آنفاً ، إلى أن من بين 16 حالة صعود لقوى جديدة تاريخيًا، انتهت 12 منها بحروب كبرى، ذلك ما لم تُدار بحكمة فائقة.
وقد قدّمت الصين، بالفعل، ما يكفي من الإشارات لتجنّب ذلك المصير، بدءًا من امتناعها عن استخدام مفردة “العظمة”، وصولًا إلى مشاركتها في مبادرات متعددة الأطراف، وتجنّبها للخطاب العدائي أو الشعارات القومية المنفلتة.
ورغم تصاعد التوترات مؤخرًا – في ملف تايوان، وفي حرب التعريفات الكمركية التي بدأها الرئيس ترامب، وفي التضييق الأمريكي على تصدير الرقائق الإلكترونية والتكنولوجيا العالية – تبقى الصين، في خطابها الخارجي، حذرة، مُتجنّبة أي تصريح قد يُستغل كمبرر استراتيجي ضدها.
إنها قوة ناعمة، لكنها بصلابة جيوسياسية متأنية.
وهيمنة بلا إعلان، لكنها محسوبة بدقة.
وصعود يتحدث عن نفسه دون أن يرفع صوته.
إنها الصين الجديدة: دولة عظمى لا تقول إنها كذلك، لكنها تتصرف على هذا الأساس.
فالعظمة، في وجدانها السياسي، ليست لقبًا يُمنح، بل موقع يُنتزع في النظام الدولي، بالصبر والنَّفَس الطويل.
واخيرا، وبينما العالم ينزلق نحو استقطاب جديد بين قطبين أحدهما يصعد بهدوء والآخر يحاول الدفاع عن إرثه القيادي، تبقى الصين متحسسة من وصفها “بالدولة العظمى”، ليس خشية من الحسد، بل خوفًا من التوقيت. ففي السياسة، كما في الشِعر، للكلمات أحيانًا تكلفة استراتيجية.
ختاما،في عالم تتغير فيه موازين القوة الاقتصادية والتكنولوجية، يقف الشرق الأوسط، في موقع حساس: بين قطبين أحدهما يصعد بهدوء والآخر يحاول الدفاع عن موقعه القيادي المهيمن .
في حين انه في ظل صعود الصين خلال العقود الأخيرة، بات من المألوف في الخطاب الدولي توصيفها بـ”القوة العظمى القادمة” أو “الندّ الأكبر للولايات المتحدة”،غير أن هذا التصنيف يثير حساسية واضحة لدى القيادة الصينية، التي ترفض علنًا تبنّي لقب “دولة عظمى”، مفضّلة عبارات مثل “قوة مسؤولة”، أو “دولة نامية كبيرة”. إن تواضع الصين، بهذا المعنى، ليس ضعفًا ولا خداعًا، بل أسلوب من أساليب القوة الذكية. إنها تُمارس سلطتها الناعمة بحذر، مدركةً أن العالم، وخاصة العالم الغربي، يراقب تعابير وجهها أكثر مما يراقب خطوات أقدامها.إنه تواضع الدبلوماسية حين تتحدث بلغة ناعمة عن نهوض لا يمكن إخفاؤه، وعن قوة لم تعد بحاجة إلى الصراخ لإثبات وجودها، ولكن يبقى التساؤل
هل التواضع هو عقيدة؟ والى متى يستمر ذلك لا ندري؟
انتهى //
#مظهر_محمد_صالح (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟