أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رياض الشرايطي - الكتابة فعل نضال














المزيد.....

الكتابة فعل نضال


رياض الشرايطي

الحوار المتمدن-العدد: 8415 - 2025 / 7 / 26 - 00:20
المحور: الادب والفن
    


للكلمة مخالب حين تصير موقفا، وللحبر سلاح حين يُسائل الواقع.
الكتابة ليست زخرفة لغوية ولا ترفا فكريا، بل هي في جوهرها مقاومة. حين تضيق الحياة وتكشر الأنظمة عن أنيابها، يصبح القلم متراسا، والعبارة شحنة مشتعلة في وجه الرداءة والظلم. لذلك، فكل كتابة ترفض الصمت، وتقول "لا"، هي في حد ذاتها شكل من أشكال النضال.
لقد وعى المثقفون العضويون، كما سماهم أنطونيو غرامشي، أن دور الكاتب لا يكتمل في العزلة الجمالية، بل في الانغماس في قضايا مجتمعه. إنهم من جعلوا من الكلمة ساحة اشتباك: ضد الاستبداد، ضد الجهل، ضد القهر الطبقي والجنسي والعرقي. فالكاتب المناضل لا يصف العالم، بل يطمح إلى تغييره. كما يقول سارتر: "على الكاتب أن يُجبر القارئ على أن يرى ما لا يريد أن يراه."
الكتابة الملتزمة لا تعني التحوّل إلى أبواق إيديولوجية، بل هي مقاومة للسطحية، للحياد الزائف، وللانخراط في ثقافة النسيان. إنها تقف على الجرح، وتضع الأصبع في العصب العاري. ولذلك، كانت السلطة دائما تخشى الكتّاب الأحرار أكثر من خصومها السياسيين، لأن ما يفعله نص صادق في ضمير الناس، قد لا تفعله كل الخطب المسيّسة.
من لوركا إلى مهدي عامل، ومن غسان كنفاني إلى فرج فودة، ظلّت الكتابة فعلا استشهاديا أحيانا، ومقاومة رمزية دائما. لقد فهموا أن الكلمات، حين تُكتب بصدق، تهدد صرح الأكاذيب الرسميّة. فالكلمة الحرة تكشف، تفضح، تعرّي، تبني وعيا جمعيا لا يمكن قمعه بالرقابة أو السجون.
وفي زمن الرداءة وتطبيع الخنوع، تصبح الكتابة الحرة فعل تمرّد. فالكاتب الذي لا يُزعج، لا يُحرّض، لا يُقلق السلطة أو السوق أو الجمهور، هو كاتب لا يُسهم في التغيير بل في التواطؤ مع الركود.
الكتابة فعل نضال، لأنها تفتح أسئلة محرجة، وتعيد تشكيل الذاكرة، وتعيد للناس قدرتهم على الحلم. ومن يكتب ضد التيار، لا يجيد الصراخ فقط، بل يجيد الإصغاء إلى آهات المهمّشين، والفقراء، والنساء المنسيات، وكل من لا صوت له.
"في زمن الخوف، تكون الكلمة الجريئة عملا ثوريا." — جورج أورويل.
في قلب كل كتابة صادقة تنبض مقاومة ما. ليست كل مقاومة صاخبة، ولا كل نضال يعلن عن نفسه بالشعارات. فبعض القصائد، حين تقال، تحدث في وعي الناس ما لا تفعله الخطابات. وبعض الروايات، حين تروى، تقوّض النظام القائم من جذوره دون أن تطلق رصاصة واحدة. هنا، في هذا التماس بين الجمال والمعنى، يتحوّل الأدب إلى فعل نضال.

■الالتزام الأدبي: موقف لا شعار .

حين تحدّث جان بول سارتر عن "الأدب الملتزم"، لم يكن يقصد أن يتحوّل الكاتب إلى منظّر حزبي أو موظف إيديولوجي، بل أن يتحمّل مسؤوليته التاريخية في تسمية الأشياء بأسمائها، وأن لا يختبئ خلف ستار "الحياد الجمالي" الذي طالما استُخدم كذريعة للتواطؤ مع السائد. يقول سارتر: "كل كتابة هي عمل موجه، وكل صمت هو نوع من أنواع الموافقة."
فالأدب، في لحظة تاريخية معيّنة، يصبح طرفا في الصراع، لا شاهدا عليه فقط. من هنا نفهم كيف تحوّلت قصيدة درويش إلى نشيد، ورواية الطيب صالح إلى محاكمة استعمارية، ونصوص فرجينيا وولف إلى ثورة نسوية مبكرة. الأدب الملتزم لا يرفع شعارا فقط، بل يُعبّر عن وعي طبقي، جنسي، ثقافي، يقارع السردية المهيمنة.

■الأدب النخبوي: ترف الجمال وحياد الوهم .

على الضفة الأخرى، يقف الأدب النخبوي الذي يُعلي من شأن اللغة على حساب المعنى، ويستغرق في تجريب لغوي لا يُقلق سلطة ولا يزعج واقعا. هذا الأدب، وإن كان فنيا راقيا أحيانا، يُنتج خطابا مُعقّما، مسلوخا عن الناس. إنه أدب الصالونات، لا الساحات. أدب يُكتب ليُقرأ في ندوات مغلقة، لا في المقاهي الشعبية أو المعتقلات أو الأحياء المنسية.
مثل هذا الأدب، مهما ادّعى الحياد، يظل متواطئا: لأنه يصمت حين يجب أن يتكلم، ويجمّل القبح، ويمدّ جسورا من البلاغة فوق أنقاض الحقيقة.

■من المهمّش إلى الكاتب: من يروي من؟ .

هنا تبرز قضية مركزية: من يملك حقّ السرد؟ من يتكلم؟ ومن يُقصى من الكتابة؟ حين يكتب أبناء النخبة عن الفقر، قد يسقطون في الفولكلور. لكن حين يكتب الفقراء عن أنفسهم، يولد أدب مقاوم حقيقي. حين تكتب النساء عن أجسادهن، يضطرب النظام الأبوي. حين يكتب اللاجئ عن أرضه، يُفضَح منفى العالم. هذا التحوّل من الكتابة عن المهمّشين إلى الكتابة بأقلامهم هو لحظة انعتاق أدبي وأخلاقي.

■الأدب كذاكرة مضادة .

الأدب لا يُغيّر العالم مباشرة، لكنه يغيّر الوعي الذي يُنتج العالم. حين تكتب الرواية عن مذبحة، فهي لا تردّ الضحايا إلى الحياة، لكنها تمنع موتهم الرمزي. حين تروي قصيدة عن المنفى، فهي ترسّخ الوطن في الذاكرة. من هنا تأتي قوّة الأدب كذاكرة مضادة، تفضح النسيان الرسمي وتُخلّد ما يُراد دفنه.
في روايته "حفلة التيس"، لا يكتفي ماريو فارغاس يوسا بسرد تاريخ ديكتاتور دومينيكاني، بل يُفكّك آليات الاستبداد. وفي "الخبز الحافي"، يكتب محمد شكري سيرة الجوع والعنف لتكون مرآة لجيل مسحوق. وفي "أولاد حارتنا"، يضع نجيب محفوظ الإنسان العادي في قلب الأسطورة ليُسائل المقدّس الاجتماعي والسياسي.

■في زمن الرداءة، الكتابة مقاومة .

اليوم، حيث تتحوّل الثقافة إلى سلعة، وتُختزل الكتابة في المحتوى السريع، يصبح الإصرار على كتابة أدب صادق، أدب بطيء، أدب لا يُجامل ولا يُساير، شكلا من أشكال النضال. فحين ترفض التبسيط، وتكتب ضد الاستهلاك، فأنت تُنقذ الأدب من الابتذال، وتُعيد له معناه كفعل وجود، لا كمنتج للبيع.

الكتابة ليست مرآة فقط، بل مطرقة. لا تكتفي بتوصيف الجرح، بل تغوص فيه، تقترح معنى، وتترك وراءها أثرا. الأدب الذي لا يُقلق، لا يُفيد. والكتابة التي لا تُربك، لا تُحرّك. لذلك، فحين يكتب الكاتب من موقع الصدق، من موقع الانحياز للضعفاء، للمنسيين، للمقموعين، فهو لا يكتب نصا فقط، بل يُشعل شرارة في ليل طويل.
"أكتبُ كي لا أختنق." — كافكا
"أكتبُ لأنني لا أستطيع أن أكون حياديا." — كنفاني.

رياض الشرايطي / تونس



#رياض_الشرايطي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جنوب يخرج من ظلّ الأمم المتّحدة: مقترحات للفكاك من نظام الغل ...
- الحرف ساحة صراع طبقيّ: تفكيك الخطاب وتحرير اللغة من الهيمنة.
- بيان نواة مجموعة يسارية متمرّدة
- الرّأس
- الى الرفيق جورج ابراهيم عبدالله مباشرة
- اليسار المتحزّب واليسار المستقل: بين البيروقراطية والمقاومة. ...
- عالم متعدد الأقطاب الإمبريالية: خرافة التوازن وخطر التجزئة.
- صدى النازية في قلب الحداثة.
- قراءة سريعة في كتاب معذّبو الأرض لفرانز فانون
- ردّ على تفاعل نقدي من رفيق مع مقال- هل لا يزال لليسار معنى ف ...
- هل لا يزال لليسار معنى في ظل العولمة النيوليبرالية؟ .
- من اضغاث حقيقة متّهمة بالحلم. من المجتمع المدني إلى الجبهة ا ...
- الرّئيس العربي : حين يتحوّل الصندوق الانتخابي إلى بوّابة للع ...
- الإمبريالية في جسد جديد صراع الغاز، والمضائق، والعقول...
- الحرب التي تعيد ترتيب الجحيم: حين لا يكون الاصطفاف كافيا.
- قراءة لرواية -1984- لجورج أورويل. رواية ضدّ الزّمن ومركّبة ع ...
- قراءة تفكيكية في رواية - ورقات من دفاتر ناظم العربي - لبشير ...
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي.
- قراءة في قصّة “رحاب” من المجموعة القصصية - بلايك - للشاعر و ...
- -منتصر السعيد المنسي-: حفر في منطوق شهادة ذاتية ضد نسيان الط ...


المزيد.....




- إطلاق خطة شاملة لإحياء السينما المصرية.. ما تفاصيلها؟
- رضوان لفلاحي: -لا شيء ممهَّد لشباب الضواحي في فرنسا كي يدخلو ...
- غاليري 54.. بورتريهات من ضوء، ألوان تتسابق وذاكرة تتمهل الزم ...
- رحيل فنان لبناني كبير والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين تنعاه!
- احتجاجًا على الرقابة... فنانة أمريكية تُلغي معرضها في المتحف ...
- نصف قرن من الإبداع - وفاة الفنان اللبناني زياد الرحباني
- البشر يتبنون لغة الذكاء الاصطناعي دون أن يشعروا
- وفاة الفنان اللبناني زياد الرحباني ...ظاهرة فنية فريدة
- المغنّي والمسرحي والمؤلف الموسيقي ونجل فيروز.. رحيل الفنان ا ...
- بانكوك تستضيف مؤتمرا دوليا لتعزيز مكانة اللغة العربية


المزيد.....

- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رياض الشرايطي - الكتابة فعل نضال