عبد المجيد إسماعيل الشهاوي
الحوار المتمدن-العدد: 8412 - 2025 / 7 / 23 - 16:29
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في إحدى خطبه الساخرة بخفة دم على كثرتها أمام الحشود من أنصاره، حكى عبد الناصر أن المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين حينها طلب منه، بصفته أصبح ولي الأمر على المصريين، أن يأمر المصريات اللاتي قدرهن ناصر بعشرة ملايين بارتداء الحجاب. ولما كانت الكاريزمية لا تأتي من فراغ، تعمد الزعيم خلال حديثه الساخر استبدال لفظة "الطرحة" محل "الحجاب" بالنظر إلى تاريخ الأولى ومغزاها الاجتماعي المتوغل في نفوس المصريين مقابلة بالأخيرة ذات النشأة الدينية المستجدة عليهم آنذاك. الطرحة مثلها مثل الحجاب هي غطاء للرأس ترتديه المرأة لتغطية شعرها، من منطلق العرف والتقليد الاجتماعي أكثر من الأمر الديني. من هنا نشأ ارتباط مفهوم الطرحة بالمرأة تحديداً في الثقافة المصرية، بحيث أصبحت عبارة "أُلبسك طرحة" التي تُقال للرجل حين يحتد الجدل تعنى "سأجعل منك امرأة". وكما جرت العادة، من العار أن تجعل من الرجل وسط الرجال "امرأة". هذه إهانة جارحة لرجولته وسمعته وكرامته وكبريائه وسط معارفه ومجتمعه الصغير قد تُشعل دائرة بغيضة من الأخذ بالثأر وانتهاك الحرمات وهدر الدم لفترات طويلة. بهذا المغزى تحديداً، الخزي الاجتماعي الذكوري، أراد الزعيم استغلال دعوة المرشد لفرض الحجاب. هل كان الزعيم بذلك يُقَلِّب الوعي الشعبي السائد لدى المصريين ضد الإخوان؟ إذا كان، هل في ذلك شبهة إساءة استخدام لسلطة المنصب والمنبر من قِبل الزعيم؟
إن الفلسفة السياسية لجماعة الإخوان المسلمين لا يمكن أبداً أن تكون، أو تصبح، ديمقراطية؛ لأنها مبنية حول المبدأ الحاكم: الحاكمية لله، لا للبشر. مع ذلك، إذا ما سنحت الفرصة، يمكن استخدام الديمقراطية كوسيلة لإنشاء وتوطيد هذه الحاكمية الإلهية، كما حدث خلال انتفاضات الربيع العربي. إذا كانت أغلبيتنا مسلمين، مؤمنين بأن إرادة الله خيراً لهم من إراداتهم (أهوائهم) أنفسهم، هل سيمانعون أن نُحَكِّم إرادة الله فينا جميعاً؟! طالما كانت تلك هي قناعاتهم الراسخة، بالطبع سينتخبوننا لأننا الممثلين لإرادة الله من خلال تطبيق شريعته. وهنا تتحقق المفارقة الديمقراطية، أن يشتري المقترعون بإراداتهم الفردية الحرة الإرادة الإلهية المطلقة التي ستضمن لهم خير الدنيا والآخرة معاً، الذي لا يمانعون التمتع به كعبيد طالما كانت عبوديتهم تلك لله وحده. بهذا الشكل ربما يفكر الإخوان المسلمون وتيار الإسلام السياسي عامةً.
بالتأكيد ما كان يخفى على الزعيم المُحنك مثل هذا الخُبث الإخواني حين لفت مستغرباً إلى رغبة المرشد في أن يُترك الحكم لله، لا البشر. كيف، والله لا يعيش بيننا ورسوله قد غادر حياتنا؟! بالطبع سيكون المرشد، بصفته يتبوأ قمة الهرم الديني/السياسي حسب الفقه الإخواني. هكذا، في نظر الزعيم، أصبحت لعبة المرشد مفضوحة: هو يريد، من خلال ادعائه بحراسة وحفظ الشريعة الإلهية وعزمه على تطبيقها، أن يحتكر لنفسه وجماعته الحكم في نهاية المطاف.
لكن لفت انتباهي أن الزعيم كلما خاطب الجالسين كان يردد ما معناه: ’احنا عملنا كذا وكذا، وعايزين ننجز كذا وكذا. لكن هُما مش عاجبهم، عايزنا نعود إلى الوراء‘. من يكون هؤلاء "نحن"، وهؤلاء "هم"؟ تخيلت للحظات نفسي ضمن الحاضرين وتجرأت على طلب الكلمة لكي أتوجه بسؤالي مباشرة إلى الزعيم: "تُقصد احنا مين يا ريس؟". بالطبع، كعادته المحببة، كان سيغمرني بابتسامته الساحرة التي لا تخلو من سخرية وتعالي: "بس أنا مش هقولك احنا مين. خليهم هما يعرفوك احنا مين إن كنت لا تعرف". لحظتها، في حكم اليقين، كانت القاعة ستدوي برد مزلزل ينزف ضحكاً وسخرية: "احنا المصريين يا عبيط!"
كانت انتخابات عبد الناصر تعطيه دائماً 99.9% من أصوات المصريين. أنا لست شاطراً في الحساب كي أعرف تحديداً كم تساوي نسبة الـ 00.1% المتبقية إذا حسبناها بعدد الأفراد، لكنها بالتأكيد تعبر عن عدد محدود للغاية من المعارضين لحكم الزعيم. وتشمل هذه النسبة الضئيلة الإخوان المسلمين، الاقطاعيين والرأسماليين، أعوان الاستعمار، الرجعيين...إلى آخر قائمة طويلة بلا نهاية من الأعداء في الداخل والخارج. لا يهم. المهم أننا أصبحنا نعرف الآن من هؤلاء "هم" الذين لا يكل ولا يمل الزعيم من مهاجمتهم وتحميلهم كل مصائب وبلاوي البلاد والعباد في خطبه كافة بلا استثناء. هذه الـ "نحن" تساوي 99.9% من المصريين بينما الـ"هم" لا تساوى أكثر من 00.1% من جملة المصريين. وغني عن القول أن عبد الناصر يتحدث باسم هؤلاء الـ99.9% من المصريين المؤيدين له، أو بذلك يتحدث باسم المصريين جميعاً باستثناء شرذمة من أعداء الوطن لا تتعدى نسبتها 00.1% من جملة المصريين.
إذا كان عبد الناصر كريماً وترك نسبة 00.1% لخصومه للتنفس والحياة فيها، المرشد ليس أبداً بهذا السخاء. المرشد لا يرضى بأقل من 100% من المصريين، لأن الانشقاق والعداء في دولة المرشد سيكون موجهاً ليس ضد المرشد بل ضد الله ذاته جل علاه. هنا الانشقاق ليس جريمة يعاقب عليها القانون، بل كفر بالله وإفساد في الأرض يستوجب من ولي الأمر إقامة الحد على مرتكبه.
دعونا من كل هذا الهراء وهيا ندخل في صلب المسألة مباشرة. كلا الرجلين يعلم علم اليقين أن لهما خصوم ومنافسين كُثر، وأن لا دخل لمصر أو لله في الموضوع. حقيقة الأمر أن الأول قد تغلب بقوة جيشه والآخر بتنظيم جماعته، كما اتضح بعد 25 يناير 2011. الأول يضع مصر وراء ظهره وينطق باسمها، والآخر يضع شريعة الله وراء ظهره وينطق باسمها أيضاً. كليهما يُنصب نفسه المتحدث الرسمي باسم كيان لم يختاره أصلاً لذلك. حتى لو كان الجيش قد اختار عبد الناصر تحديداً، يبقى أن الجيش ليس مصر؛ وحتى لو كانت جماعة الإخوان المسلمين قد اختارت المرشد تحديداً، يبقى أن هذه الجماعة ليست هي الإسلام، الإسلام المصري على وجه التحديد. كل هذا غير مهم.
المُصيبة أن ينقسم المصريون إلى معسكرين معاديين بين هذا وذاك. فريق يهتف بحماسة غريبة: "بالروح، بالدم نفديك يا زعيم!"؛ والآخر يهتف بحماس أشد غرابة "إسلامية، إسلامية. الإسلام هو الحل!". لكن المُصيبة الأكبر تبقى أن شيئاً واحداً لم يختلف عليه المصريون واتفقوا عليه فيما يشبه الإجماع الوطني: ليس من العار أن نلبس نحن رجال مصر مع نسائها الطُرح طالما كانت عبوديتنا السياسية تلك لزعيمنا أو مرشدنا وحده. هكذا يكون الزعيم والمرشد قد تبوئا في مخيلة المصريين السياسية نفس المكانة الدينية التي يشغلها الله.
#عبد_المجيد_إسماعيل_الشهاوي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟