عماد حسب الرسول الطيب
(Imad H. El Tayeb)
الحوار المتمدن-العدد: 8405 - 2025 / 7 / 16 - 07:11
المحور:
حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات
ظهرت البلابل في سبعينيات القرن الماضي كظاهرة فريدة في المشهد الفني السوداني، محمولات على أمواج تناقضات عصر نميري الذي جمع بين الانفتاح الشكلي والقبضة الأيديولوجية الحديدية. ظهور آمال، هادية، وحياة طلسم كان زلزالاً أعاد تعريف دور المرأة في الصناعة الثقافية، محولات الصوت الأنثوي من أداة ترفيه إلى وسيلة إنتاج وقوة تغيير اجتماعي. هذا الظهور كان امتدادًا لمسيرة بدأت قبل سنوات طويلة وستتواصل إلى ما بعدهن، لتؤكد حضور المرأة السودانية في الفن والمجتمع.
استطاعت البلابل أن تحوّل القيود المفروضة على الفنانات إلى منصة للتحرر، مستغلات التناقضات في النظام السياسي والاجتماعي. كنّ يزرعن بذور التمرد عبر أغانيهن العاطفية التي حملت بين طياتها خطاباً تحررياً. كان اختيارهن للغناء العاطفي استراتيجية ذكية لاختراق التابوهات تحت غطاء الفن "المقبول".
كان الغناء العاطفي عند البلابل سلاحاً مموهاً في معركة التحرر الجندري. "لون المنقة" صارت رمزا للجرأة الأنثوية، و"العشة الصغيرة" أصبحت مشروعاً للاستقلالية وبياناً بتملك المرأة لفضائها الخاص. استخدمن مفردات الحياة اليومية كأدوات لتفكيك الخطاب الأبوي، مستفيدات من السذاجة التي تعامل بها البعض مع كلماتهن على أنها مجرد "أغاني حب عادية".
تمكنت الفرقة من خلق نموذج فني جديد جمع بين الأصالة والحداثة، مستفيدات من شراكتهن الإبداعية مع الموسيقار بشير عباس. هذه الشراكة التي بدت للبعض كعلاقة تبعية، استغلت ذكائياً لفرض رؤيتهن الفنية. فبشير عباس، بوصفه رجلاً في نظام أبوي، وفر لهن "الغطاء الشرعي"، واستخدمن هذه الشراكة لتقديم مضامين ثورية تحت ستار الألحان الجميلة.
واجهت البلابل تناقضاً أساسياً بين تطورهن الفني وقيود نظام الإنتاج. فبينما طورن "القوى المنتجة" الفنية عبر تجديد الألحان والكلمات، ظلت "علاقات الإنتاج" خاضعة لهيمنة الدولة والطبقة الكمبرادورية. الإذاعة الوطنية التي بثت أغانيهن كانت أداة في يد النظام، وشركات الإنتاج التي سجلت أعمالهن جزءاً من شبكة مصالح رأسمالية. هذا التناقض جعل تجربتهن ساحة صراع بين الإبداع والهيمنة.
اليوم، وبعد أكثر من خمسة عقود، تظل تجربة البلابل سؤالاً مفتوحاً عن إمكانيات المقاومة الثقافية. فأغانيهن التي كانت تعتبر في زمانها "مجرد أغاني حب"، تكشف اليوم عن طبقات من المعاني التحررية. لقد نجحن في تحويل القيود إلى وقود إبداعي، والممنوعات إلى أدوات تغيير. لكن المعركة الحقيقية اليوم هي معركة الذاكرة - فمن يملك الأرشيف يملك الرواية. ولذلك فإن توثيق هذا التراث وتحويله إلى ملكية جماعية يصبح واجباً ثورياً بحد ذاته.
البلابل كنّ منظّرات ثقافيات بأصوات مغردة. وضعن أسساً لفن نسوي تحرري، تتعلم منه الأجيال الجديدة كيف تتحول القيود إلى فرص، والتابوهات إلى منصات انطلاق. إرثهن الذي جمع بين الجمال والمقاومة يذكرنا بأن الثورة الحقيقية تبدأ عندما نتعلم غناء أغانينا الخاصة، بأصواتنا الخاصة، وبكلماتنا الخاصة. هذا الإرث يمثل حلقة مهمة في سلسلة طويلة من نضالات المرأة السودانية التي بدأت ولن تتوقف.
"حين تغني النساء أغانيهن الخاصة، تهتز عروش الأسياد."
"إن كل نغمة تُغنّى بوعي طبقي، هي رصاصة في صدر القهر."
النضال مستمر،،
#عماد_حسب_الرسول_الطيب (هاشتاغ)
Imad_H._El_Tayeb#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟