أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عماد حسب الرسول الطيب - يامنة: تطواف على جناح الحنين المقاوِم














المزيد.....

يامنة: تطواف على جناح الحنين المقاوِم


عماد حسب الرسول الطيب
(Imad H. El Tayeb)


الحوار المتمدن-العدد: 8395 - 2025 / 7 / 6 - 08:30
المحور: الادب والفن
    


حين يكتب عبد الرحمن الأبنودي قصيدته "يامنة"، فإنه لا يكتب مرثية حنونة لعلاقته بعمةٍ صعيدية فقط، بل يدوّن دون قصدٍ مباشر تأريخًا طبقيًا لزمنٍ شعبي آخذ في الأفول تحت وطأة التحديث النيوليبرالي، وهدم البنى التقليدية التي كانت تشكّل نواة التماسك المجتمعي في القرى والمناطق المهمّشة. القصيدة، وهي في ظاهرها حوار وجداني بين الشاعر وعمّته التي ربّته، تشتبك في عمقها مع سؤال الانتماء الطبقي، وتعيد ترتيب العلاقة بين الفرد والمجتمع، والذات والجذور، وتضع الماضي الشعبي المسحوق في مواجهة الحاضر المتحوّل الذي أنتج الاغتراب. فـ"يامنة" ليست مجرد شخصية، بل تمثيل رمزي للمرأة الشعبية التي كانت عماد البيت والمجتمع، والتي لعبت دور "الجهاز الأيديولوجي العاطفي" كما يسميه ألتوسير، تلك البنية التي تُعيد إنتاج الروابط الاجتماعية والقيم الجماعية، وتقوم بدور غير مرئي في حراسة الهوية الطبقية والثقافية ضد التفكك.

إن الحنين في القصيدة ليس بريئًا أو عابرًا، بل هو شكل من أشكال الوعي الطبقي المغلّف بالشعر. الأبنودي، الذي خرج من رحم الطبقة الشعبية الصعيدية، لم ينسلخ منها حين صعد إلى فضاء النجومية الثقافية، بل ظلّ يعود إليها بوصفها المصدر، ليس فقط للعاطفة، بل للمعنى والتفسير والتوازن. عمة الأبنودي، كما تظهر في النص، ليست امرأة مهمّشة فقط، بل فاعلة: "يا اللي سهرتي ليالي"، "يامنة يا أم قلبي"، فهي من قامت على إنتاج الرأسمال العاطفي والوجداني الذي مكّن الشاعر من النجاة في عالم لا يرحم. وهذا التوصيف ينسجم مع ما تقوله روزا لوكسمبورغ عن دور النساء في الطبقات الشعبية، حيث تؤكد أنهن لا يُقِمن فقط على الرعاية، بل على إعادة إنتاج الحياة في شروطها القاسية.

القصيدة لا تمارس التجميل الرومانسي للفقر، لكنها لا تقفز عنه أيضًا، بل تُلمّح إلى تراكم القهر الزمني: "العمر فات"، "الضحكة راحت"، وهي إشارات لا تنفصل عن فقدان نمط الحياة الذي كان، ولا عن الوعي التدريجي بأن الزمن الحديث قد انتصر، لكنه لم يجلب معه دفء العلاقات، بل فرّغها. هنا، نعود إلى مفهوم الاغتراب عند ماركس، حيث يفقد الإنسان ارتباطه بالمعنى حين تُنتزع منه علاقاته الطبيعية ويُعاد تشكيله داخل نظام السوق والعزلة الفردانية. فالزمن في "يامنة" ليس زمنًا محايدًا، بل زمن رأسمالي هدم الحوش الكبير، فرّق الأبناء، حوّل الحكايات إلى ذكريات، والبيوت إلى شقق باردة بلا دفء جماعي.

بنية الخطاب في القصيدة تقوم على استدعاء "البيت" لا كمكان مادي فقط، بل كعالم رمزي يمثل الأمن الطبقي والوجداني والسياسي. فالبيت القديم الذي يجمع الجميع هو نقيض طبيعي لواقع ما بعد النيوليبرالية حيث تُنتج المدن الفرد المنعزل والذات المفككة، وتُنتج الطبقة الوسطى الجديدة المُقنَّعة التي تُنكر جذورها وتسعى للهروب منها. الأبنودي لا يهرب، بل يعود. وعودته ليست فقط عاطفية، بل نقدية. فهو لا يكتفي بالتغني بأمنة، بل يُسائل الزمن: لماذا كبرنا؟ لماذا تبدلت الحياة؟ لماذا لم يعد ما كان؟ وهذه الأسئلة، رغم أنها تأتي بلغة شعرية، إلا أنها تلامس قلب الأزمة الاجتماعية الراهنة: تفكك الجماعة، واستبدال المعنى بالتسليع، واختفاء النساء المُنتِجات للدفء من الحياة الحديثة.

وفي تمجيد العامية المصرية، وتحديدًا العامية الصعيدية، لا يمارس الأبنودي "فلكلرة" سطحية، بل يبني استراتيجية لغوية-طبقية تستعيد قيمة الثقافة المهمشة. فحين يقول "يامنة يا وشّ السماحة"، لا يسعى فقط إلى الشعرية، بل إلى إثبات أن الجمال يُمكن أن يُولد من قلب اللغة المهمّشة، وأن النقاء لا يحتكره المركز، بل يسكن في الطرف، حيث النساء الصامتات، والبيوت الطينية، والضحكات الخجولة. بهذا المعنى، فإن العامية هنا ليست خيارًا أدبيًا، بل موقفًا أيديولوجيًا ضد مركزية الثقافة البرجوازية، وضد تنميط "الأدب الجاد" على مقاس العاصمة.

في نهاية المطاف، تُشكّل "يامنة" مثالًا نادرًا على الشعر الذي لا يُسجّل الوجدان فقط، بل يُنظّم الذاكرة الجماعية للشعب. إنها قصيدة طبقية بامتياز، تُنقّب في الذكرى، لا لكي تبكي على الأطلال، بل لتُعيد وصل ما انقطع، وتُذكرنا أن لا مستقبل بلا جذور، ولا فرد بلا جماعة، ولا شعر حقيقي دون أن يكون صوتًا لمن لا صوت لهم. الأبنودي في "يامنة" لا يكتب فقط لأمنة، بل يكتب لها وضد من حاولوا محوها من السجل الاجتماعي. وبين حروفه، نستعيد نحن، أبناء هذه الطبقات المتآكلة، صوتنا الغائب.

ولذلك، فإن قصيدة "يامنة" لا يمكن اختزالها في إطار الحنين الفردي، لأنها تُمارس، في جوهرها، فعل مقاومة شعري ضد المَحْو الطبقي الثقافي الذي تفرضه الرأسمالية الحديثة على الذاكرة الشعبية. إنها قصيدة تحفر بإبرة الكلمات في صخر النسيان المفروض، وتحمي ببطانية العاطفة آخر ما تبقّى من دفء الجماعة المهددة بالذوبان في وحل الفردانية والاستهلاك. إن صوت الأبنودي، حين ينادي "يامنة"، هو ليس فقط صوت الابن، بل صوت جيلٍ بأكمله يصرخ في وجه الانقطاع، في وجه الاغتراب، في وجه الحداثة التي لا تحمل إلا القشور. إنها صيحة طبقية ناعمة، ولكنها دامغة، تقول بوضوح: لسنا عارًا يجب تجاوزه، بل نحن الأصل، نحن المعنى، نحن الذين صنعنا كل شيء بصمتٍ وتواضع.

في زمن تُبتَلع فيه القرى تحت ركام النيوليبرالية، وتُباع فيه الأحلام بثمن الشقق الفاخرة في المدن المسعورة، تأتي "يامنة" كوثيقة شعبية جمالية تقول ما لا يقوله السياسيون: أن العائلة ليست مجرد رابطة دم، بل خندق طبقي ضد العزلة، وأن العامية ليست مجرد لهجة، بل سلاح مقاومة ناعم، وأن الشعر الشعبي حين يُكتَب من القلب، يتحوّل إلى فعل ثوري صامت يربّي الوعي ويوقظ الطبقات المطحونة. فكما قال أنطونيو غرامشي: "كل إنسان مثقف، لكن بعض المثقفين جعلوا أنفسهم أدوات للهيمنة". أما الأبنودي، فقد جعل من نفسه أداة للذاكرة الجماعية، لا للهيمنة الطبقية، وأثبت أن القصيدة يمكن أن تكون معولًا ضد النسيان، وضد السلطة، وضد تغريب الإنسان.

"الإنسان هو مجموع علاقاته الاجتماعية."

النضال مستمر،،



#عماد_حسب_الرسول_الطيب (هاشتاغ)       Imad_H._El_Tayeb#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- 7. البرجوازية الصغيرة وخطاب الكراهية: بين الخوف والانتهازية
- 6. مناهضة خطاب الكراهية: من الوعي إلى السلطة
- المثقف الطرفي في فضاء ما بعد الاستعمار
- اللاعنف كأداة إمبريالية: تفكيك وهم التغيير السلمي في الثورة ...
- 5. اقتصاد الكراهية: كيف تتحول الأيديولوجيا إلى سلعة في السوق ...
- صمت الفلوت وهستيريا العنف
- 4. بنية إنتاج الكراهية في السودان
- 3. خطاب الكراهية ضد النساء: الجندر كساحة للصراع الطبقي في ال ...
- 2. لجان المقاومة وتفكيك الكراهية: من الوعي الشعبي إلى الفعل ...
- تفكيك ٱلة الكراهية: المهمة الثورية للوعي الطبقي
- لا ثورة بلا قطيعة، ولا يسار بلا عدو طبقي
- القذيفة لا تُنهي الدرس
- 30 يونيو: لحظة الوعي الطبقي وحدود الثورة في السودان
- وعي طبقي في جسد طفلة
- عنف بلا حدود، مقاومة بلا تنازلات
- الفن في مواجهة اغتراب الرأسمالية: صرخة الجمال ضد قبح الاستغل ...
- التعاونيات في السودان: بذور الاشتراكية في مواجهة الرأسمالية ...
- الوعي الطبقي والجهل المُنَظَّم في الصراع السوداني: تحليل مار ...


المزيد.....




- -ميتا- تعتذر عن ترجمة آلية خاطئة أعلنت وفاة مسؤول هندي
- في قرار مفاجئ.. وزارة الزراعة الأمريكية تفصل 70 باحثًا أجنبي ...
- -بعد 28 عاما-.. عودة سينمائية مختلفة إلى عالم الزومبي
- لنظام الخمس سنوات والثلاث سنوات .. أعرف الآن تنسيق الدبلومات ...
- قصص -جبل الجليد- تناقش الهوية والاغتراب في مواجهة الخسارات
- اكتشاف أقدم مستوطنة بشرية على بحيرة أوروبية في ألبانيا
- الصيف في السينما.. عندما يصبح الحر بطلا خفيا في الأحداث
- الاكشن بوضوح .. فيلم روكي الغلابة بقصة جديدة لدنيا سمير غانم ...
- رحلة عبر التشظي والخراب.. هزاع البراري يروي مأساة الشرق الأو ...
- قبل أيام من انطلاقه.. حريق هائل يدمر المسرح الرئيسي لمهرجان ...


المزيد.....

- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عماد حسب الرسول الطيب - يامنة: تطواف على جناح الحنين المقاوِم