عماد حسب الرسول الطيب
(Imad H. El Tayeb)
الحوار المتمدن-العدد: 8390 - 2025 / 7 / 1 - 20:08
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في ديالكتيك الصراع الطبقي، لا يشكل خطاب الكراهية ظاهرة ثقافية عابرة أو انفعالًا شعبويًا، بل هو بنية تحتية أيديولوجية تُصاغ بعناية داخل الورش الطبقية للهيمنة. في التجربة السودانية، يظهر هذا الخطاب كأحد أخطر أدوات البرجوازية الطفيلية المتحالفة مع العسكر، لا لتبرير القمع فحسب، بل لإعادة إنتاج منظومة السيطرة نفسها. عندما تعجز السلطة عن تبرير البؤس، تبرّره بالانتماء؛ وعندما تخشى وعي الجماهير، تصوغ خطابًا يجعل الفقر قدَرًا والطغيان وطنًا.
لقد عرف السودان، منذ لحظة الاستقلال، مسارًا طويلًا من الانحدار من مشروع وطني برجوازي هش إلى دولة طُفيلية ملحقة بالرأسمالية العالمية، وهو مسار، كما بيّن سمير أمين، لا يمكن فصله عن البنية الاقتصادية الطرفية التابعة. ومع كل أزمة بنيوية كانت السلطة تلجأ إلى أفيون الهوية للتغطية على تناقضاتها الطبقية، وهو ما جعل خطاب الكراهية ليس عرضًا جانبيًا، بل مكونًا بنيويًا في آلية الحكم. وكما وصف إنجلز الدولة الطبقية بأنها أداة قهر طبقي مغلفة بالأيديولوجيا، فقد تحولت أدوات مثل الإعلام، التعليم، المؤسسات الدينية، والمناهج الدراسية إلى مصانع يومية لإنتاج "عدو داخلي" يجسد الفوضى، الخيانة، والكفر، بينما يُمنح النظام صك القداسة. في المدارس السودانية، أُعيد إنتاج سرديات عنصرية وقَبَلية وجهوية صريحة، حيث صُوِّر سكان مناطق الهامش كمصدر "للجهل والتخلف"، مما مهد منذ الطفولة لتثبيت هرمية عنصرية داخل اللاوعي الطبقي.
في حروب الجنوب ودارفور، لم يكن القتال بين "قبائل"، بل بين نمط إنتاج متوحش وسكان أرض مستهدفين بالإزاحة. الخطاب المستخدم لم يكن حياديًا، بل كُوِّن داخل دوائر الدولة، استخدمت فيه سرديات "الزنوجة"، "التمرد"، "العبيد"، "الخوارج" لتبرير المجازر والاغتصابات، كما يجري تمامًا في حالة إسرائيل حيث تُستبدل المفردات: "الإرهابي"، "المخرب"، "اللا سامي" — لتجريد الفلسطيني من إنسانيته. أو كما فعلت البنية الأيديولوجية في ألمانيا النازية حين صاغت اليهودي كفيروس اجتماعي يستحق الإبادة، وكما روّجت الولايات المتحدة في إعلامها ضد الفيتناميين بوصفهم "حشرات"، أو ضد البلاك بانثرز كمصدر "للخطر الأسود"، فإن السودان اليوم يعيد نفس السيناريوهات بلغات ولهجات مختلفة. إنها ليست مفردات، بل أدوات مادية للقتل، تبدأ بالكلمة وتنتهي بالمحرقة.
في هذا السياق، لا يمكن عزل العنف الجنسي عن خطاب الكراهية. ففي السودان، كما في البوسنة والكونغو ورواندا، سبقت خطابات التحريض العرقي عمليات اغتصاب ممنهجة، كان جسد المرأة فيها ميدانًا لـ"تأديب" الجماعة المهزومة. إن وصف الناشطات بـ"العاهرات" و"عديمات الشرف" لم يكن مجرد تنمر رقمي، بل تمهيدًا لإخراج أجسادهن من حماية الجماعة الوطنية، وتحويلهن إلى أهداف مشروعة للاغتصاب بوصفه سلاحًا طبقيًا-جندريًا. في هذه البنية، يتقاطع خطاب الكراهية مع النظام الأبوي الرأسمالي ليعيد إحكام السيطرة، لا على النساء فقط، بل على أي تمرد يتخذ الجندر وجهًا له.
في الثورة السودانية، ظهرت ومضة وعي جديدة كسرت التواطؤ الهوياتي وأعادت تعريف الوطنية من منظور طبقي. شعارات مثل "كل البلد دارفور" لم تكن موقفًا تضامنيًا ساذجًا، بل إنجازًا ماركسيًا حيًا لتجاوز وعي الزيف. وكما أكد غرامشي أن المعركة الثقافية هي ساحة الصراع الطبقي الممتدة، فإن الثوار حين رفضوا ثنائية المركز والهامش، كانوا يعلنون بدء "حرب المواقع" ضد منظومة الكراهية. لكن كما حذّر لينين، فإن الثورة بدون تحصين تنظيمي سرعان ما تُجهض. أعادت قوى الثورة المضادة – العسكر، الإسلاميون، نخب البرجوازية الصغيرة المهزوزة – توجيه البوصلة، فأنتجوا مفردات مضادة للحراك: "قحاتة"، "شيوعيين"، "عملاء"، "فوضويين"، وهي كلها مفردات تهدف لعزل الثورة، ليس فقط عن جمهورها، بل عن نفسها.
تجلّى خطاب الكراهية في أوضح صوره بعد اندلاع الحرب بين الجيش والدعم السريع، حيث تحوّل الإعلام الرسمي والإلكتروني إلى ماكينة شيطنة. انتشرت مفردات مثل "مرتزقة"، "جرذان"، "أبناء حرام"، لا كشتائم، بل كأسلحة تحريض على الإبادة، تُشرعن جرائم الحرب وتُجرّد الخصم من إنسانيته. هذا الخطاب لم ينبثق من غضب عفوي، بل صيغ في غرف عمليات، مولته مصالح إقليمية، وسوّق له مؤثرون بأجندات استخباراتية، على طريقة الجيوش الإلكترونية في دول مثل الهند ويوغوسلافيا السابقة. ولأن الحرب نفسها ليست صراعًا بين "أطراف" متكافئة بل بين تحالفات طبقية متوحشة تتنازع على نهب الدولة، فإن خطاب الكراهية صار أداتها لاحتكار تمثيل "الوطن"، وتبرير سحق الآخر المُنتج. في الخرطوم، كما في سربرنيتسا، يبدأ الذبح بوصمة، ويُشرعن بخطبة جمعة، ويُغلف براية وطنية.
في قلب هذا الخراب، ظهرت لجان المقاومة كأداة نفي جدلي لخطاب الهيمنة، سعت لتجاوز الطائفية والجهوية عبر تنظيم شعبي أفقي، وممارسات تضامنية تعيد تعريف السياسة بوصفها خدمة مجتمعية وتحريضًا طبقيًا. تُمثل هذه اللجان نواة لسلطة طبقية بديلة، كما وصف تروتسكي سلطة السوفييتات، قادرة على خوض حرب مواقع طويلة النفس ضد دولة البرجوازية. هذا الشكل، كما وصفه تروتسكي في "الثورة الدائمة"، هو نقطة العبور من التمرد العفوي إلى التنظيم الطبقي. لكن هذه المحاولات تظل محاصرة طالما ظلت البنية المنتجة للكراهية قائمة: التحالف العسكري-الطفيلي، الاقتصاد الريعي، والإعلام الدعائي.
ولا يجب أن نغفل أن خطاب الكراهية في السودان لم يُستخدم فقط لتبرير المجازر، بل أيضًا للتغطية على سياسات النهب الاقتصادي الممنهج. في ظل النيوليبرالية السودانية المشوّهة، بات الخطاب التحريضي يغطي على خصخصة قطاعات التعليم، الصحة، وحتى الغذاء، بحيث لا يُسأل النهاب عن الجرائم، بل يُلاحق المعترض بوصفه خائنًا أو عميلًا. تتحول الكراهية هنا إلى غلاف أيديولوجي لتكريس اللامساواة، لا سيما حين تُختزل الوطنية في دعم الجيش، والإيمان في ولاء السوق، والكرامة في الصمت على الاستغلال.
لا يمكن هزيمة خطاب الكراهية من خلال النوايا الأخلاقية، بل عبر تفكيك الشروط المادية التي تنتجه: كسر احتكار الإعلام، تأميم المؤسسات الدعائية، محاكمة المحرضين، تأهيل المنظومة التعليمية نقديًا، وتحقيق العدالة الاجتماعية عبر إصلاح زراعي وصناعي يعيد تمركز الثروة في يد المنتجين. ويجب أن يتحول النضال الثقافي إلى أداة سياسية مباشرة، تنخرط فيها النقابات المستقلة، ولجان المقاومة الجذرية، والتحالفات الطبقية العابرة للهوية، بحيث لا تُواجه الكراهية بالوعظ، بل بالتنظيم.
وكما كتب تروتسكي: "لا ثورة بدون أدب ثوري، ولا أدب ثوري بدون ثورة."
هنا فقط، يُعاد تشكيل السودان لا كجغرافيا منهوبة، بل كساحة اشتباك طبقي، تتجاوز خطاب الجوع إلى مشروع تحرر كامل. تصبح الكلمة سلاحًا في يد العامل، لا شعارًا في فم البرجوازي. تسقط رايات التحريض، وتنهض رايات الوعي. فالعدو الحقيقي ليس من يشاركك الجوع، بل من يطعمك الكراهية لتنسى من سرق خبزك.
"تنشأ الأفكار الحاكمة في كل عصر بوصفها أفكار الطبقة الحاكمة."
النضال مستمر،،
#عماد_حسب_الرسول_الطيب (هاشتاغ)
Imad_H._El_Tayeb#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟