عماد حسب الرسول الطيب
الحوار المتمدن-العدد: 8387 - 2025 / 6 / 28 - 08:24
المحور:
المجتمع المدني
في خضم الأزمة العميقة التي يعيشها السودان، حيث انهارت مؤسسات الدولة البورجوازية تحت وطأة الحرب والفساد والنهب المنظم، تبرز التعاونيات كشكل من أشكال المقاومة الشعبية والتنظيم الذاتي للطبقات الكادحة. هذه الظاهرة ليست مجرد رد فعل تلقائي على شح الموارد، بل هي تعبير مادي عن صراع طبقي، ومحاولة جذرية لإعادة صياغة علاقات الإنتاج بعيدا عن منطق الاستغلال الرأسمالي.
من المنظور الماركسي، تشكل التعاونيات إحدى التجليات الملموسة لـ"قوى الإنتاج" التي تبحث عن أشكال جديدة لـ"علاقات الإنتاج"، تتجاوز الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج ونمط الإنتاج الرأسمالي القائم على تراكم الثروة في أيدي أقلية طفيلية.
في هذا السياق، تتحول التعاونيات من مجرد بدائل اقتصادية مؤقتة إلى خلايا أولية لاقتصاد اشتراكي محتمل، قائم على التضامن الطبقي والملكية الجماعية. وفي هذا المجال، يمكن استحضار بعض التجارب التاريخية: كتجربة التعاونيات الزراعية في زمن مايو بالسودان، وتجارب أمريكا اللاتينية (كزاباتيستا في المكسيك أو التعاونيات البوليفارية في فنزويلا)، حيث شكلت هذه المبادرات نواة لمجتمعات بديلة تستند إلى الإنتاج الجماعي والسيادة الاقتصادية.
يشهد السودان انهيارا شبه كامل لدولة ما بعد الاستعمار، التي ظلت لعقود أداة في يد البرجوازية البيروقراطية والعسكرية لنهب ثروات الشعب. مع تفكك هذه الدولة، خلا المجال أمام قوى السوق العشوائية وأمراء الحرب لتعميق الاستغلال عبر المضاربة، ورفع الأسعار، وخلق سوق سوداء تعتمد على الندرة المصطنعة. ففي ظل غياب الرقابة، استولت مليشيات محلية على مخازن الأغذية والوقود، وتحولت تجارة الأساسيات (كالغاز والقمح) إلى ساحة للربح السريع. كما ارتفعت أسعار الأدوية بسبب تهريبها خارج النظام الصحي، وسيطر سماسرة الحرب على تدفق السلع والمساعدات. في هذا الفراغ، ظهرت التعاونيات ليست كآلية للبقاء فقط، ولكن أيضا كشكل من أشكال "السلطة الشعبية الموازية"، التي تعيد تنظيم الإنتاج والتوزيع بعيدا عن منطق الربح الرأسمالي. بعض لجان المقاومة في الأحياء، مثلا، بادرت بتوزيع الخبز والسلع بأسعار رمزية، في نموذج بدائي للتعاونيات الشعبية.
هذه التعاونيات ليست مجرد جمعيات خيرية، بل هي إلغاء جزئي للملكية الخاصة حيث تصبح وسائل الإنتاج (مثل الأراضي الزراعية أو ورش العمل) مملوكة جماعيا للمنتجين، وإعادة توزيع للفائض فبدلا من تراكم الثروة في يد السماسرة، يعاد استثماره في تحسين الإنتاج وتوسيع الخدمات، كما تخلق تضامنا طبقيا ووعيا جمعيا بأهمية التكافل بدلا من المنافسة المفترسة، مما يقوض الأيديولوجيا الفردانية للرأسمالية. وهذه المبادئ تتوافق مع الرؤية الماركسية لمرحلة انتقالية نحو الاشتراكية، حيث تبدأ الطبقة العاملة والفلاحون في السيطرة على وسائل إنتاجهم بأنفسهم، لا من خلال الدولة البرجوازية. هنا يمكن استدعاء نظريات نانسي فريزر حول "إعادة الإنتاج الاجتماعي الجماعي"، التي تربط التعاونيات ليس فقط بالإنتاج الاقتصادي بل أيضا بتقاسم الأعباء المنزلية ورعاية الأطفال، مما يحرر النساء من الاستغلال غير المدفوع ويحولهن إلى فاعلات رئيسيات في النضال الطبقي.
في ظل حرب أهلية تدار بمصالح اقتصادية، تتحول التعاونيات إلى قلاع مقاومة ضد الاقتصاد الطفيلي الذي يعتمد على الريع والنهب (مثل تجارة السلاح، تهريب الوقود، السيطرة على الإغاثة)، وضد الهيمنة الاحتكارية حيث تكسر التعاونيات احتكار السلع الأساسية من قبل كارتلات التجار المتحالفين مع السلطات. على سبيل المثال، قامت مجموعات نسائية في دارفور بإنشاء شبكات إنتاج زراعي وتوزيع داخلي، بعيدا عن المضاربات، مما وفر للقرى المعزولة بدائل ذاتية عن السوق الحربية المفترسة. فالتعاونيات ليست فقط أدوات اقتصادية، بل هي نواة "للدولة الموازية" التي يمكن أن تتطور إلى مجالس إدارة ذاتية، كما في كومونة باريس أو السوفييتات المبكرة، حيث يتخذ المنتجون قراراتهم بأنفسهم دون وسيط سلطوي، وتصبح أداة للضغط السياسي عبر شبكات التضامن التي يمكن أن تتحول إلى قوة سياسية منظمة، قادرة على التفاوض أو حتى العصيان. وهذا يذكرنا أيضا بفكرة لينين عن "ازدواجية السلطة"، حين تنشأ هياكل بديلة عن الدولة، وتدير المجتمع على أساس ديمقراطي أفقي. التعاونيات هنا، ليست "أدوات إنقاذ"، بل "أدوات سلطة" مضادة للنظام القائم.
على الرغم من ذلك، ستحاول القوى الرجعية (البورجوازية المحلية، أمراء الحرب، الإسلامويون) تحييد التعاونيات عبر الاختراق بتحويلها إلى أدوات تابعة لأجنداتهم بإدعاء الخيرية أو الدعوية، والقمع المباشر كما حدث مع النقابات المستقلة ولجان المقاومة في عهد البشير وحتى بعده، والتهميش الاقتصادي عبر منعها من الوصول إلى التمويل أو الأسواق، أو محاصرتها بالضرائب البيروقراطية. إضافة إلى ذلك، لا بد من الحذر من أدوات الدولة الأيديولوجية (كما أشار ألتوسير): الإعلام، الخطاب الديني، التعليم، التي تسعى لتأطير التعاونيات ضمن منطق "المبادرات المجتمعية" لا الصراع الطبقي. لتحويل التعاونيات من مبادرات محلية إلى مشروع تحرري شامل، يجب تنظيمها سياسيا عبر ربطها بحركة ثورية واضحة الأهداف، لها امتداد طبقي لا طائفي أو جهوي، والتشبيك الوطني بخلق اتحادات تعاونية قوية تتجاوز العزلة الجغرافية، وتنسق بين المدن والريف، والصراع الأيديولوجي بمواجهة الخطاب النيوليبرالي الذي يروج للحلول الفردية كـ"الريادة" و"الابتكار"، وتأكيد أولوية التضامن الطبقي. ويجب التفكير في شكل التنظيم المناسب: هل هو حزب ماركسي جديد؟ أم جبهة عريضة؟ أم تحالف قاعدي أفقي؟ هذه أسئلة مفتوحة تحتاج إلى حوار جماعي داخل الحركة نفسها.
التعاونيات في السودان اليوم ليست مجرد رد فعل على الأزمة، بل هي مختبر حي لإمكانية بناء نظام اقتصادي بديل. إنها تثبت أن الشعب قادر على خلق أشكال تنظيمية تتجاوز الدولة البرجوازية الفاشلة. لكن نجاحها كحركة تحررية حقيقية مرهون بقدرتها على التوسع الأفقي والعمودي لتشمل قطاعات أوسع من العمال، النساء، المزارعين، الشباب، والارتباط بنضال سياسي ثوري يهدف إلى إسقاط النظام الطبقي القائم، لا إلى ترقيعه، والحفاظ على استقلاليتها التنظيمية والسياسية ضد محاولات الاحتواء، البيروقراطية، أو التوظيف الخيري والدعائي.
التعاونيات ليست حلولا تقنية في مواجهة العجز الاقتصادي، بل أدوات صراع طبقي مباشر. هي إعادة هندسة للاقتصاد من القاعدة، وتحطيم عملي لمنطق السوق والربح. وإذا استطاعت التعاونيات أن تتجاوز حدود البقاء إلى حدود التنظيم الثوري، فإنها قد تعلن، من قلب المأساة السودانية، بداية عصر جديد: عصر المنتجين لا الطفيليين، عصر التعاون لا التنافس، عصر الاشتراكية لا الرأسمالية المتوحشة.
"ليس وعي الناس هو ما يحدد وجودهم، بل وجودهم الاجتماعي هو ما يحدد وعيهم."
#عماد_حسب_الرسول_الطيب (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟