أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عماد حسب الرسول الطيب - المثقف الطرفي في فضاء ما بعد الاستعمار














المزيد.....

المثقف الطرفي في فضاء ما بعد الاستعمار


عماد حسب الرسول الطيب
(Imad H. El Tayeb)


الحوار المتمدن-العدد: 8394 - 2025 / 7 / 5 - 10:01
المحور: الادب والفن
    


في قصة "رسالة إلى إيلين"، المنشورة ضمن مجموعة دومة ود حامد، لا يقدّم الطيب صالح سردًا بسيطًا عن علاقة عاطفية بين رجل سوداني وامرأة اسكتلندية، بل يكتب، عن وعي أو دون وعي، شهادة دقيقة على انهيار الموقع التاريخي للمثقف الطرفي في زمن العولمة المبكرة. ليست القصة محض بوح شخصي، بل وثيقة أنثروبولوجية نادرة تكشف، من خلال حميمية الرسالة، كيف تحوّلت علاقة الحب إلى تبادل غير متكافئ، وإلى تمثيل داخلي للهزيمة الطبقية التي ألمّت بمثقف الجنوب حين وجد نفسه معلقًا بين هوية فقدت وظيفتها الاجتماعية، ومركز رأسمالي لا يعترف به إلا كقوة عمل مؤقتة، أو سلعة رمزية غريبة.

الراوي ليس مجرد عاشق لامرأة من ثقافة مغايرة؛ إنه نتاج بنية عالمية جعلت من هجرة العقول من الجنوب إلى الشمال شرطًا بائسًا للبقاء. استعاراته الذاتية، مثل وصفه لنفسه بأنه "تجارة كسدت" أو "حصان هرم من بلد متأخر"، تفضح موقعه الطبقي المستلب والمعلّق: لم يعد قادرًا على إنتاج ذاته داخل قريته السابقة، التي تحوّلت إلى فرجة فولكلورية، ولم يُدمج فعليًا في المركز الإمبريالي حيث تُدار حياته بعناية زائدة من زوجته التي تنظّم له القمصان وربطات العنق كما تُدار مؤسسة صغيرة. لقد تحوّل إلى سلعة ثقافية متوسطة الجودة، صُدّرت من عالم ثالثٍ يتوسّل الاعتراف في مرآة الآخر، ليكتشف لاحقًا أن الآخر لا يراه إلا من خلال تشوّهاته.

العلاقة بينه وبين إيلين تكتسب طابعًا استعاريًا يُحاكي علاقة المركز بالهامش: هي تمثّل بنية التنظيم والرفاه، وهو يُجسّد الاضطراب والحنين. حين تقول له "أنت حصان هرم من بلد متأخر"، فهي لا تهينه، بل تمنحه شكلًا من القبول الحنون، القبول الذي تُمارسه الإمبريالية حين تفتح للتابعين هوامش اندماج مشروط. حتى المشاعر في هذه العلاقة تخضع لقانون القيمة: الحميمية تُمنح بوصفها أجرًا عاطفيًا نظير اشتراكه في نظام لا يملك فيه شيئًا. حين يقول الراوي "تقرئين الكتاب وتخبرينني بمحتواه فأكتفي بكِ"، فإننا لا نقرأ مشهد حب، بل تكثيفًا لعلاقة إنتاج مختلة: المعرفة تُعاد تصديرها من المركز كمادة جاهزة، وهو يستهلكها كطرف خامل، كما يُستهلك الوقود أو القطن أو حتى "الشجن الشرقي" في سوق الخطاب الغربي. الحميمية هنا ليست إنتاجًا لوعي مشترك، بل تغليفًا لعلاقة تبعية، تمامًا كما تُغلف المساعدات الإنسانية عملية النهب الممنهج.

وإذا كانت العلاقة العاطفية تُظهر هذا الاختلال، فإن القرية في المقابل لم تعد بديلًا ولا ملاذًا. لقد تحوّلت من فضاءٍ عضوي إلى متحف ذاكرة. العودة إليها لا تمثّل استعادة للأصل، بل زيارة لموقع فقد معناه. احتضان الأب المبالغ فيه، دموع الأم، الشاي والقهوة والعصائر، كلها طقوس فولكلورية تؤكد أن المجتمع الطبيعي، كما صوّره الراوي، قد تفكك. لقد فقدت القرية طابعها الإنتاجي، وصارت وحدة رمزية تُستهلك من قِبل المغترب لتعويض انتمائه المشلول. حتى الحنين، في النص، يتحوّل إلى مادة أولية تُشحَن عبر البريد مثل أي سلعة تُصدّر من الجنوب إلى الشمال. الرسالة نفسها تشبه خطابًا دبلوماسيًا ودودًا من دولة منهوبة إلى دولة مانحة، لا تطلب فيه شيئًا سوى أن تُسمَع.

رسالة إلى إيلين، بهذا المعنى، ليست خطاب حب، بل تشريح طبقي دقيق لمثقف فقد موضعه في التاريخ. لم يعد مثقفًا عضويًا لفلاحين كما أراد غرامشي، ولا متمردًا بروليتاريًا، ولا حتى برجوازيًا صغيرًا يحلم بالاندماج. إنه خليط من المهزومين: خرج من قريته بعد انهيار البنى التقليدية، ودخل مدينة لا تملك له سوى تأشيرة شعورية معلقة. هويته لا تقوم على قاعدة مادية، وحنينه ليس سوى تعويض أيديولوجي عن الخواء. أما اللغة التي يكتب بها، مهما بدت راقية وحسية، فهي لا تُنتج قطيعة، ولا تشكّل أداة لفهم العالم أو تغييره، بل تُعيد إنتاج موقعه التابع داخل منظومة الهيمنة الرمزية.

إنها لحظة المثقف الذي صار، دون أن يدري، جزءًا من النظام الذي هجّره. فحين يكتب إلى زوجته الغربية، هو لا يخاطبها من موقع التكافؤ، بل من موقع التابع الذي يُعرّف نفسه من خلال الآخر. وتبعية كهذه لا تنفي صدق العاطفة، لكنها تفسد وظيفتها. فالحب هنا لا يُحرّر، بل يُؤطّر، لأنه يقوم داخل تقسيم دولي للعمل والعاطفة واللغة. حتى جسده، حين يقول إنه "ينام على ذراعها"، يتحوّل إلى رمز لطرف مُرتهن في علاقة إنتاج حميمي لا يملك فيها سوى جسده. وما الجسد، في اقتصاد العولمة، سوى آخر ما يُباع حين تفشل كل أشكال رأس المال الأخرى.

الطيب صالح، في هذه القصة، يقدّم — بقوة الملاحظة الأدبية لا الأيديولوجية — أنثروبولوجيا دقيقة للهزيمة. فالإمبريالية الجديدة لم تَعُد بحاجة إلى جنود لاحتلال بلاد بعيدة؛ يكفيها مثقفون يحملون جراحهم كجوازات سفر، ويكتبون رسائلهم إلى المركز بلغة لا تنتمي إليهم. وكما قال إيمانويل والرشتاين: "الحداثة هي لحظة وعي الهامش بأن المركز قد قرّر مصيره مسبقًا." وإذا صار الهامش عاجزًا حتى عن كتابة حكايته الخاصة دون أن تمر عبر بريد المركز، فإن رسالة إلى إيلين تصبح، في جوهرها، الصرخة الأخيرة لمثقف عرف أن زمنه انتهى قبل أن يبدأ.

"الاستعمار لا يُنهي دوره بخروج جنوده، بل حين يجعل أبناء المستعمرات يكتبون أحزانهم بلغة المستعمر."

النضال مستمر،،



#عماد_حسب_الرسول_الطيب (هاشتاغ)       Imad_H._El_Tayeb#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- اللاعنف كأداة إمبريالية: تفكيك وهم التغيير السلمي في الثورة ...
- 5. اقتصاد الكراهية: كيف تتحول الأيديولوجيا إلى سلعة في السوق ...
- صمت الفلوت وهستيريا العنف
- 4. بنية إنتاج الكراهية في السودان
- 3. خطاب الكراهية ضد النساء: الجندر كساحة للصراع الطبقي في ال ...
- 2. لجان المقاومة وتفكيك الكراهية: من الوعي الشعبي إلى الفعل ...
- تفكيك ٱلة الكراهية: المهمة الثورية للوعي الطبقي
- لا ثورة بلا قطيعة، ولا يسار بلا عدو طبقي
- القذيفة لا تُنهي الدرس
- 30 يونيو: لحظة الوعي الطبقي وحدود الثورة في السودان
- وعي طبقي في جسد طفلة
- عنف بلا حدود، مقاومة بلا تنازلات
- الفن في مواجهة اغتراب الرأسمالية: صرخة الجمال ضد قبح الاستغل ...
- التعاونيات في السودان: بذور الاشتراكية في مواجهة الرأسمالية ...
- الوعي الطبقي والجهل المُنَظَّم في الصراع السوداني: تحليل مار ...


المزيد.....




- “فعال” رابط الاستعلام عن نتيجة الدبلومات الفنية 2025 دور اول ...
- مهرجان أفينيون المسرحي الفرنسي يحتفي بالعربية ويتضامن مع فلس ...
- “برقم الجلوس والاسم فقط” الاستعلام عن نتيجة الدبلومات الفنية ...
- بعد أغنيته عن أطفال غزة.. الممثل البريطاني المصري خالد عبدال ...
- ريتا حايك تفند -مزاعم- مخرج مسرحية -فينوس- بعد جدل استبدالها ...
- الترجمة من العربية إلى اللغات الأجنبية بالجزائر.. آفاق واعدة ...
- احتفاء بالثقافة العربية و-تضامن مع الشعب الفلسطيني-... انطلا ...
- طلبة -التوجيهي- يؤدون امتحانات -الرياضيات- 2- و-الثقافة العل ...
- هنا رابط مباشر نتائج السادس الإعدادي 2025 الدور الأول العلمي ...
- سوريا الحاضرة من نوتردام إلى اللوفر


المزيد.....

- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عماد حسب الرسول الطيب - المثقف الطرفي في فضاء ما بعد الاستعمار