أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عماد حسب الرسول الطيب - 9. نحو خطاب تحرري بديل: من هندسة الكراهية إلى هندسة الوعي















المزيد.....

9. نحو خطاب تحرري بديل: من هندسة الكراهية إلى هندسة الوعي


عماد حسب الرسول الطيب
(Imad H. El Tayeb)


الحوار المتمدن-العدد: 8397 - 2025 / 7 / 8 - 09:39
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


تحول خطاب الكراهية في السودان من مجرد نتاج أيديولوجي هامشي إلى أداة مادية في بنية السلطة تُستخدم بانتظام لإدارة التناقضات الطبقية عبر تحويلها إلى صراعات هوياتية وثقافية. فمع انسداد الأفق أمام التراكم الرأسمالي المنتج، وازدهار الرأسمالية الطفيلية التي تعيش على النهب والريع، أصبح إنتاج الكراهية ضرورة بنيوية لبقاء التحالف المسيطر، المكوَّن من المؤسسة العسكرية، والرأسمالية الطفيلية، وبيروقراطية الدولة. بهذا المعنى، لا يُفهم خطاب الكراهية إلا بوصفه نتاجًا ماديًا لوسائل إنتاج رمزية تُعيد إنتاج الهيمنة. فالمجتمع السوداني يعيش أزمة بنيوية تتجلى في تفكك المؤسسات الإنتاجية، وتآكل الطبقة الوسطى، وتضخم الأجهزة القمعية والإعلامية. وعليه، يتحول خطاب الكراهية من مجرد رأي أو تحريض إلى منظومة هندسية دقيقة تعيد تشكيل الإدراك الجماعي بما يتماشى مع مصالح الطفيليات الطبقية.

تعمل هذه الهندسة عبر سلسلة مترابطة من العمليات: تُختزل التناقضات الطبقية في السودان إلى تناقضات ثقافية، فيُقدَّم الفقر لا كنتيجة للاستغلال، بل كنتيجة للكسل أو "الجهل القبلي". ثم تتحول الفروق الثقافية الحقيقية أو المتخيلة إلى هويات صلبة متصارعة، بحيث يُعاد رسم خريطة الولاءات والانتماءات على أساس العِرق أو الجندر أو الجهة. في هذا المناخ، يُنتج جهاز الدولة رمزية إقصائية، تُحوّل الضحايا إلى رموز للخطر والانحلال والفساد، عبر الخطاب الإعلامي، والفتوى، والمناهج، والدراما. وأخيرًا، يتحول هذا العنف الرمزي إلى عنف مادي، يُمارَس ضد الأفراد والمجتمعات بقوة العادة والقانون والسلاح.

لكن الثورة السودانية الأخيرة لم تكن فقط انتفاضة ضد السلطة السياسية، بل تمردًا رمزيًا على منظومة الإدراك السائدة. لقد شهدنا محاولات نوعية لكسر هندسة الكراهية عبر إنتاج خطاب مضاد يعيد تعريف الهوية من موقع الكدح والعمل لا من موقع العِرق أو الجندر. ظهرت محاولات لإنتاج سرديات تضامنية عابرة للهويات الضيقة، من خلال شعارات مثل "كل البلد دارفور"، وقيادة النساء للميدان، والتضامن الأفقي بين أحياء المدن والقرى. لكن هذه المحاولات، رغم عمقها الثوري، ظلت أسيرة الطابع التلقائي وردّ الفعل، ولم تتطور إلى خطاب مؤسِّس شامل.

هنا تبرز الحاجة التاريخية الملحّة إلى إنتاج خطاب تحرري بديل، ليس فقط مناهض للكراهية، بل يُعيد تشكيل الوعي الجمعي على أساس طبقي تقدمي. هذا الخطاب لا يُبنى على دعوات عامة للتسامح، بل على إدراك أن المعركة على الرمز هي امتداد للمعركة على وسائل الإنتاج. عليه، فإن الخطاب البديل يجب أن يُصاغ من موقع الطبقة العاملة والمهمّشين، لا من موقع النخبة المراقِبة. لا يكفي أن يكون "أخلاقيًا" أو "إنسانيًا"، بل يجب أن ينطلق من تحليل طبقي صارم للواقع، وأن يكون مُسلّحًا بأدوات تحليلية تربط بين ما هو ثقافي وما هو اقتصادي.

الخطاب المضاد لا يُنتج في فراغ، بل عبر نزع احتكار الطبقات السائدة للرمزية واللغة. وهذا يتطلب أولًا قطيعة معرفية وسياسية مع الخطاب النخبوي الذي يدّعي التنوير بينما يعيد إنتاج موقعه المتعالي على الجماهير، ويُفسّر الصراع الاجتماعي بلغة التجريد الأخلاقي أو "التعايش" الخالي من التحليل. هذا الخطاب، غالبًا ما تصوغه منظمات المانحين أو دوائر أكاديمية منعزلة، ويفشل في مساءلة علاقات الإنتاج الحقيقية. المطلوب هو خطاب يولد من الشارع، من السوق، من ساحة الاعتصام، من الجوع، من خبرة الحصار، من الخوف الجماعي، لا من التحليل المترف عن بعد.

ولأن خطاب الكراهية يُنتج عبر رموز ووسائط ومؤسسات، فإن تفكيكه لا يتم فقط بالقول، بل بإعادة إنتاج رموز جديدة للانتماء تقوم على التجربة النضالية المشتركة، لا على اللون أو القبيلة أو اللغة. الخطاب البديل يجب أن يُعيد تعريف الإنسان السوداني من خلال موقعه في علاقات الإنتاج، لا من خلال موقعه في السلم الرمزي الذي فرضته الدولة. وكما كتب فريدريك إنجلز، فإن التحرر لا يبدأ حين يعرف المرء من هو، بل حين يعرف من يستغله.

امتلاك أدوات التعبير لا يقل أهمية عن امتلاك أدوات الإنتاج. الإعلام الشعبي، التعليم الجماهيري، الفن المقاوم، الشعر، الأغنية، القصة، الرسوم، كلها يجب أن تُحوَّل إلى وسائل نزع رمزي من قبضة السلطة. هذا ما فعله الزاباتيون في المكسيك حين بنوا شبكات إعلامهم بلغاتهم، وما فعله أبناء المخيمات الفلسطينية حين حوّلوا الجدران إلى صحف. علينا أن نفعل الشيء نفسه: أن نستعيد الأدب، والنشيد، والدراما، والصورة، من يد السلطة، ونُعيد توظيفها في صياغة وعي جمعي تحرري.

لكن الوعي لا يعيش طويلًا بدون تنظيم. فالمعرفة التي لا تتحول إلى بنية تنظيمية تظل كلامًا، ولو صيغ بأجمل الشعارات. التنظيم هو من يصوغ اللغة، يوزعها، يحميها، يدافع عنها، ويُدخلها في قلب الصراع. يجب أن يتحول الخطاب إلى أداة تنظيم، والتعليم إلى تحريض، والتاريخ إلى نداء للفعل، لا إلى سردية ميتة. وهذا لا تفعله المنصات وحدها، بل تفعله اللجان والنقابات والجماعات الثقافية والفنية المستقلة، وكل شكل للتنظيم القاعدي الذي يبني الوعي من تحت، لا من فوق.

الانتقال من هندسة الكراهية إلى هندسة الوعي لا يعني فقط استبدال مفردات بمفردات، بل يعني تفكيك البنية الرمزية القائمة من جذورها، وبناء بنية جديدة تُعرّف الإنسان بوصفه كائنًا تاريخيًا يخوض صراعه مع الطبيعة ومع المجتمع من أجل البقاء والتحرر، لا بوصفه موروثًا ثقافيًا ثابتًا أو عضوًا في جماعة مقدسة. وهي مهمة تاريخية لا تقتصر على المفكرين، بل يشترك فيها الفلاحون والعاملون والمعلمات والمقاتلات والمهاجرون والعاطلون عن العمل والمثقفون العضويون، وكل من يقف على الجانب النقيض من منظومة السيطرة الطبقية.

إننا لا نناهض خطاب الكراهية فقط، بل نبني عالمًا جديدًا لا يحتاجه. وكما قالت المناضلة أنجيلا ديفيس: "لا تكفي الكلمات لتغيير العالم، بل تحتاج أن تُنطق من أفواه من يعرفون أن العالم القديم قد حكم عليهم بالموت."

من لا ينتج رمزيته الخاصة، سيعيش في رمزية من يضطهده.

النضال مستمر،،



#عماد_حسب_الرسول_الطيب (هاشتاغ)       Imad_H._El_Tayeb#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- 8. خطاب الكراهية والعدالة الانتقالية: من طمس الجريمة إلى إعا ...
- كشة (1) لم يمت: الوعي الماركسي في وجه الثورة المضادة
- يامنة: تطواف على جناح الحنين المقاوِم
- 7. البرجوازية الصغيرة وخطاب الكراهية: بين الخوف والانتهازية
- 6. مناهضة خطاب الكراهية: من الوعي إلى السلطة
- المثقف الطرفي في فضاء ما بعد الاستعمار
- اللاعنف كأداة إمبريالية: تفكيك وهم التغيير السلمي في الثورة ...
- 5. اقتصاد الكراهية: كيف تتحول الأيديولوجيا إلى سلعة في السوق ...
- صمت الفلوت وهستيريا العنف
- 4. بنية إنتاج الكراهية في السودان
- 3. خطاب الكراهية ضد النساء: الجندر كساحة للصراع الطبقي في ال ...
- 2. لجان المقاومة وتفكيك الكراهية: من الوعي الشعبي إلى الفعل ...
- تفكيك ٱلة الكراهية: المهمة الثورية للوعي الطبقي
- لا ثورة بلا قطيعة، ولا يسار بلا عدو طبقي
- القذيفة لا تُنهي الدرس
- 30 يونيو: لحظة الوعي الطبقي وحدود الثورة في السودان
- وعي طبقي في جسد طفلة
- عنف بلا حدود، مقاومة بلا تنازلات
- الفن في مواجهة اغتراب الرأسمالية: صرخة الجمال ضد قبح الاستغل ...
- التعاونيات في السودان: بذور الاشتراكية في مواجهة الرأسمالية ...


المزيد.....




- البرلمان الجزائري يناقش تعديلات قانون مكافحة تبييض الأموال و ...
- إسبانيا - المغرب: توقيف 9 أشخاص بعد اشتباكات بين متطرفين يمي ...
- المفوضية الأوروبية تقول إنها ستعيد إرسال وفد أوروبي طُلب منه ...
- المحكمة العليا الأميركية تسمح لترامب باستئناف تفكيك وزارة ال ...
- احتجاز? 10?? ?أشخاص بعد اشتباكات بين -متطرفين- ومهاجرين في إ ...
- ماذا نعرف عن الأكواد المميتة التي استخدمت في اغتيال شخصيات إ ...
- غوتيريش: أزيد من 800 مليون شخص يعيشون في فقر مدقع
- سانت كاترين.. تجربة روحية فريدة جنوبي سيناء
- محللان: نتنياهو يريد مفاوضات تثبت وقائع عسكرية وتهجر الغزيين ...
- زيلينسكي يعلن عن ترشيحات لـ-أكبر تعديل وزاري- تشهده أوكرانيا ...


المزيد.....

- من الأرشيف الألماني -القتال في السودان – ينبغي أن يولي الأل ... / حامد فضل الله
- حيث ال تطير العقبان / عبدالاله السباهي
- حكايات / ترجمه عبدالاله السباهي
- أوالد المهرجان / عبدالاله السباهي
- اللطالطة / عبدالاله السباهي
- ليلة في عش النسر / عبدالاله السباهي
- كشف الاسرار عن سحر الاحجار / عبدالاله السباهي
- زمن العزلة / عبدالاله السباهي
- ذكريات تلاحقني / عبدالاله السباهي
- مغامرات منهاوزن / ترجمه عبدالاله السباهي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عماد حسب الرسول الطيب - 9. نحو خطاب تحرري بديل: من هندسة الكراهية إلى هندسة الوعي