أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عماد حسب الرسول الطيب - من العجز إلى البصيرة الطبقية: قراءة في القوقعة الفارغة للمجذوب














المزيد.....

من العجز إلى البصيرة الطبقية: قراءة في القوقعة الفارغة للمجذوب


عماد حسب الرسول الطيب
(Imad H. El Tayeb)


الحوار المتمدن-العدد: 8402 - 2025 / 7 / 13 - 08:34
المحور: الادب والفن
    


في «القوقعة الفارغة» يستحضر الأديب السوداني محمد المهدي المجذوب (1919-1982) شريطاً وجودياً يعرّي فيه أثر الرأسمالية على الكائن والطبيعة معاً. تبدأ اللوحة بشاطئ البحر الأحمر، موطن الحركة والتجدد منذ الأساطير القديمة، لكنه هنا يبدو جداراً متداعياً في صحراء بلا نهاية. البحر نفسه جَمَد، والألوان التي يفترض أن توحي بالحياة تبدو بلا نبض، وكأن النظام الطبقي أفرغ الطبيعة من دورها الحيوي كما أفرغ البشر من إنسانيتهم. إنّ المشهد يجسد ذلك الاغتراب الذي وصفه ماركس في مخطوطاته الفلسفية حين يصبح الإنسان غريباً عن عمله وعن ذاته، ويغترب حتى عن الطبيعة التي هي امتداد وجوده المادي، «كلما زاد العامل إنتاجاً، قلّ ما يمتلكه من ذاته».

على رمال هذا الشاطئ يلتقط الشاعر قوقعة ماتت فيها الحياة وبقي هيكلها الأجوف يهمس بلغة لا يفهمها الناس. القوقعة بقايا كائنٍ استنفَدَته حركة البحر ثم لفظه إلى اليابسة، تماماً كما تستهلك الرأسمالية طاقة الإنسان ثم تُلقي به على هامش السوق. ما يبقى هو القشرة فحسب، تجسيد مادي لفكرة التشيؤ عند لوكاش، حيث تتحول العلاقات الحية إلى أشياء ساكنة وتُختزل الذات الإنسانية إلى وظيفةٍ في شبكة تبادل لا تعترف إلا بالقيمة التبادلية. هكذا تملأ القواقع حياة الشاعر: علاقات وأحلام وأفراد تحولوا، تحت وطأة التبادل السلعي، إلى أطر خالية من الروح.

أشدّ الصور قسوة ليست البحر الجامد بل «القبور الممتدة عبر الأفق». هنا يدين المجذوب آلة الموت الطبقية التي تدفن الحركة التاريخية في استمرارية رتيبة، موتٌ يُعاد تدويره ليضمن بقاء بنية الهيمنة. إنها الأزمة العضوية التي حذّر منها غرامشي: القديم يحتضر والجديد تُخنق ولادته قبل أن يصرخ، فيتسع الفراغ ويستطيل أفقاً من القبور. في هذا الفراغ ينعى الشاعر ذاته: «أنا قوقعة فارغة». ليس تعبيراً عن هزيمة فردية بل كشفٌ عن تحوّل الذات الواقعة تحت سطوة السوق إلى مُنتَج ثانوي بلا جوهر، كائن حيّ في الظاهر، ولكنه متخشّب في العمق، يعيش ما سماه أدورنو «حياة مؤجلة».

هذه الفجوة بين رؤية الشاعر وإدراك الجماهير تتجلى في قوله: «بلادي لا تدرك ما يدركه الشعراء». ليست نخبوية شعرية بقدر ما هي مرثية لوعيٍ زائفٍ تخلقه الطبقة الحاكمة ويخضع له المقهورون. فالجماهير «خشعوا حول القوقعة يعجبون ولا يبصرون»، يعجبون بالشكل وينكرون الفراغ، لأن الخطاب الأيديولوجي نجح في تحويل الصدفة إلى موضوع انبهار وتغليف الموت في واجهة جمال زائف. بذلك يُقصى دور المثقف العضوي الذي حدّده غرامشي كقوةٍ تكشف التناقضات من داخل البنية الاجتماعية، فيتحول صراخ الشاعر إلى رجع صدى لا يسمعه أحد.

حتى الشعر نفسه الذي كان «خمراً يشفي» صار عاجزاً عن الشفاء، إذ استعمر منطق السلعة الروح والجمال معاً، ففقد الفن قدرته على التحريض. يقف المجذوب هنا على خط أدورنو الذي رأى أن الثقافة الجماهيرية تُفرغ العمل الفني من طاقته النقدية وتحوله إلى مجرد قطعة أثاث أيديولوجي. غير أنّ الشاعر لا يُسلم بانطفاء الأثر، فالسؤال الختامي «أصخرة أنا؟ وهل يبصر أعمى المعرّة؟» يستدعي أبا العلاء رمز البصيرة النافذة رغم عمى البصر، ليضعنا أمام إمكانية الإبصار في زمن العمى الجماعي. الاعتراف بالخواء يصبح بذاته لحظة مقاومة؛ فالإدراك النقدي يفتح ثغرة في جدار الركود، ويحوّل اليأس إلى شرطٍ لإعادة التشكيل.

الصراع إذن ليس غائباً، إنه مكتوم تحت سطح الجمود مثل طاقة الأعماق التي شكّلت القوقعة أول الأمر. ولأن «حيث يكون الصراع، هناك الأمل» كما كتبت روزا لوكسمبورغ، فإن البحر الجامد يمكن أن يثور من جديد. فالشعر، حين يعي حدود عجزه، يبدأ استعادة دوره كفعل مقاوم، يصبح مطرقة تشكّل الواقع لا مرآة تعكسه، على حد عبارة بريشت. إنّ تسمية الأشياء بأسمائها وكشف الجراح المفتوحة فعلٌ ثوريّ في ذاته، لأنه يزعزع استقرار الوعي الزائف ويعيد العالم إلى حركته الأصلية.

بهذا المعنى تتحول «القوقعة الفارغة» إلى وثيقة إدانة ضد الرأسمالية، ولكنها في الوقت نفسه دعوة إلى تجاوزها عبر وعي طبقي جديد. فالقشرة التي تُدفن اليوم يمكن أن تكون بذرة لجسد مختلف إذا كسرت الجماهير قيود الأيديولوجيا واستعادت قدرتها على الرؤية والفعل. القصيدة تُحفرُ في أعماق الأزمة لتستخرج منها إمكانية تحوّلٍ كامنة، تذكّرنا بأن التاريخ، مهما تجمّد سطحه، يحتفظ في الأعماق بمخزونٍ من الحركة التي لا تفنى. هكذا يؤكد المجذوب أن الفن الحقيقي، حتى في أقسى لحظات اليأس، يظل رافعةً للوعي الثوري، يلتقط أنين القواقع ويدفع به إلى عصف موج جديد.

"في زمن الخداع الشامل، يصبح قول الحقيقة فعلاً ثوريًا."

النضال مستمر،،



#عماد_حسب_الرسول_الطيب (هاشتاغ)       Imad_H._El_Tayeb#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- 4. اللجان التمهيدية: اختراق الدولة لجسد الطبقة العاملة
- عندما تغيب شمس الحق: ديالكتيك الثورة في أغنية الجنوب اللبنان ...
- 3. القانون النقابي – عندما يصبح التشريع أداة قمع برجوازية
- تشريح الحلم الممنوع: -قارئة الفنجان- كمرآة للهزيمة الجماعية
- 2. النقابة في مرآة الهيمنة الدولية - من الشرعية الأممية إلى ...
- النقابات في السودان – من أدوات الترويض إلى جبهات الثورة
- -البيضاء-: الغموض كتكتيك مقاومة ضد الحداثة التشخيصية
- الفراغ المعبأ بالحزن
- خطاب الكراهية الجزء العاشر والأخير: من الكلمات إلى السلطة: ا ...
- آلة الوعي الزائف: وسائل التواصل كأداة قمع طبقي
- 9. نحو خطاب تحرري بديل: من هندسة الكراهية إلى هندسة الوعي
- 8. خطاب الكراهية والعدالة الانتقالية: من طمس الجريمة إلى إعا ...
- كشة (1) لم يمت: الوعي الماركسي في وجه الثورة المضادة
- يامنة: تطواف على جناح الحنين المقاوِم
- 7. البرجوازية الصغيرة وخطاب الكراهية: بين الخوف والانتهازية
- 6. مناهضة خطاب الكراهية: من الوعي إلى السلطة
- المثقف الطرفي في فضاء ما بعد الاستعمار
- اللاعنف كأداة إمبريالية: تفكيك وهم التغيير السلمي في الثورة ...
- 5. اقتصاد الكراهية: كيف تتحول الأيديولوجيا إلى سلعة في السوق ...
- صمت الفلوت وهستيريا العنف


المزيد.....




- في قرار مفاجئ.. وزارة الزراعة الأمريكية تفصل 70 باحثًا أجنبي ...
- -بعد 28 عاما-.. عودة سينمائية مختلفة إلى عالم الزومبي
- لنظام الخمس سنوات والثلاث سنوات .. أعرف الآن تنسيق الدبلومات ...
- قصص -جبل الجليد- تناقش الهوية والاغتراب في مواجهة الخسارات
- اكتشاف أقدم مستوطنة بشرية على بحيرة أوروبية في ألبانيا
- الصيف في السينما.. عندما يصبح الحر بطلا خفيا في الأحداث
- الاكشن بوضوح .. فيلم روكي الغلابة بقصة جديدة لدنيا سمير غانم ...
- رحلة عبر التشظي والخراب.. هزاع البراري يروي مأساة الشرق الأو ...
- قبل أيام من انطلاقه.. حريق هائل يدمر المسرح الرئيسي لمهرجان ...
- معرض -حنين مطبوع- في الدوحة: 99 فنانا يستشعرون الذاكرة والهو ...


المزيد.....

- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عماد حسب الرسول الطيب - من العجز إلى البصيرة الطبقية: قراءة في القوقعة الفارغة للمجذوب