أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عماد حسب الرسول الطيب - -البيضاء-: الغموض كتكتيك مقاومة ضد الحداثة التشخيصية














المزيد.....

-البيضاء-: الغموض كتكتيك مقاومة ضد الحداثة التشخيصية


عماد حسب الرسول الطيب
(Imad H. El Tayeb)


الحوار المتمدن-العدد: 8399 - 2025 / 7 / 10 - 10:09
المحور: الادب والفن
    


"البيضاء" ليوسف إدريس رواية قصيرة عميقة، تمثل بيانًا رمزيًا ماركسيًا عن الهزيمة المعرفية لمشروع الهيمنة الطبقي الحديث عندما يُقحم أدواته التفسيرية في عالم لا يخضع لها ولا يعترف بشرعيتها. تتجاوز الحكاية الظاهرية لطبيب قاهري يتوجه إلى الجنوب ليعالج امرأة غامضة تُعرف بـ"البيضاء"، لتُفجّر أسئلة من طراز آخر: من يملك سلطة المعرفة؟ من يُعرّف الآخر؟ وكيف يصبح الفهم ذاته شكلاً من أشكال الاستعمار الرمزي؟ إدريس، الطبيب الذي خبر لغة المركز وتشريح الجسد وخطاب العلم، يتخلى عن "الطبيب" داخله ويكتب نصًا يفكك ادعاءات العقلانية الحديثة، ويعرّي هشاشتها الرمزية أمام مقاومة لا تصرخ أو تجادل، بل تصمت وتراوغ وتُضمر.

في هذا الجنوب المتخم بالأسطورة، بالماء، وبالطقس الذي لا يخضع للتقويم، ينهار زمن المدينة الميكانيكي أمام ديمومة لا زمنية. الطبيب القادم من القاهرة لا يصطدم بامرأة مريضة، إنما بمنظومة رمزية كاملة تُفلت من قبضة الفهم، وتُقاوم أن تُدرَج تحت بند من بنود الطب السريري أو الخطاب العلاجي الحديث. الأبيض هنا لا يدل على النقاء، وإنما على السخرية من أدوات المركز، ذلك المركز الذي يفترض أن الجسد يمكن فهمه عبر التحليل، والإنسان يمكن اختزاله إلى معادلة تشخيصية. "البيضاء" تحتفظ بسرّها وترفض الفحص، وتنهض بوصفها تمثيلاً لوعيٍ شعبي غير مترجم، معتم، ولكنه ذو كفاءة مقاومة تتجاوز كل النماذج المركزية التي تدّعي النجاعة.

كما في أطروحات فرانز فانون، يتحول الجسد إلى مساحة صراع رمزي، إلى جسد لا يمرض، بل يحتج. البيضاء تُمرِض نفسها لتعلن أن ما يسميه المركز "مرضًا" ليس سوى انحراف في زاوية الرؤية. تقول للطبيب: "مرضي ليس خللاً في خلاياي، بل في عينيك التي ترى الداء ولا تراني". العلاقة بين الجهل والمعرفة ليست علاقة نقص، بل علاقة سلطة. "البيضاء" تُجسّد اللا-معرفة لا كجهل، إنما كرفض واعٍ للانخراط في لعبة التفسير التي تُشيّئ الذات وتحيلها إلى كائن تشريحي بلا سياق أو ذاكرة.

يكتب إدريس عن أزمة الشمال في مواجهة ذاته. أسوان ليست مكانًا، بل فضاء منسي، ذاكرة مضادة، لحظة تعيد إنتاج التاريخ لا وفق خط زمني تقدمي، بل كدورة مقاومة. الجنوب مقبرة الحداثة حين تفشل في فهم ذاتها. هو اللاوعي الطبقي للمركز، حيث يتكثف الخوف من فقدان السيطرة، ومن عجز أدوات المعرفة أمام من لا يريد أن يُفهم. الطبيب لا يخرج من التجربة متعلمًا، بل منكشفًا، خالي الوفاض. لم يفشل في الشفاء فقط، بل في التسمية، الوظيفة الأخطر لكل خطاب سلطوي.

ما ينهار في "البيضاء" لا ينحصر في المشروع الطبي، بل يمتد ليشمل المشروع الحداثي ذاته، حين يُواجَه بـ"لامعرفة" تعلن وجودها كاستراتيجية. النهاية المفتوحة ليست حيلة فنية، بل موقف أيديولوجي. فبينما تسعى السرديات البرجوازية إلى الغلق، إلى النهاية التي تُشبع التفسير وتُرضي النظام الرمزي، تترك "البيضاء" كل شيء مفتوحًا. هذا هو الغموض كتكتيك سياسي، كحق طبقي للهامش في ألا يفسّر ذاته بشروط المركز. وهو ما يتقاطع مع ما أشار إليه دولوز حين رأى أن المقاومة قد تكون، في أصفى صورها، احتفاظًا بالأسرار.

"البيضاء" لا تكشف وجهها، لأنها ليست شيئًا يُكشف. ليست استعصاءً فرديًا، بل استعصاء طبقيًا، رمزيًا، أنثويًا، لا يريد أن يُدرَج في جداول التحليل أو ملفات الطب. وكأن إدريس، بما خبر من ممارسة طبية، يعلن قطيعة معرفية مع كل محاولة لفهم الإنسان خارج سياقه المادي والرمزي والتاريخي. فحين تصبح المعرفة سلطة، يصبح الغموض مقاومة. عندما تصرّ الثقافة البرجوازية على تحويل الجنوب إلى "آخر" قابل للفهم، تأتي "البيضاء" لتفشل ذلك المشروع من داخله، لا بالعداء، بل بالتماسك، لا بالصوت العالي، بل بالتماهي مع ما لا يُرى. هذه ليست رواية عن جنوب غامض، بل عن وهم المركز في قدرته على الاستيعاب. وهي ليست رواية عن "الغموض الشرقي"، بل عن هشاشة العقلانية عندما تُقابل بجسدٍ غير خاضع، بكائن رمزيّ يُراوغ التسمية ويضحك من محاولات التأويل. إدريس لا ينقد الحداثة من موقع ما بعدي، بل من موقع ماديّ طبقيّ، حيث تُستخدم الرمزية كمنصة لتفكيك كل أركان المشروع المعرفي السلطوي. الأبيض في "البيضاء" ليس رمزًا لبراءة فردية، بل لوعيٍ طبقيّ مُضمر، يُعلن بالسكوت أن ما يُراد له أن يُفهم، لا يجب أن يُفهم، بل أن يُحترم في خصوصيته المقاومة.

في هذا النص، "البيضاء" لا تُروى، بل تروينا نحن. تُحرج لغتنا. تُفكك مركزيتنا. وتضعنا أمام هشاشة أدواتنا. هذه هي الحداثة عندما تسقط عند عتبة ما لا تستطيع — ولا تريد — أن تفهمه.

"حين تصبح المعرفة سلطة، يصبح الغموض مقاومة."
النضال مستمر.



#عماد_حسب_الرسول_الطيب (هاشتاغ)       Imad_H._El_Tayeb#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفراغ المعبأ بالحزن
- خطاب الكراهية الجزء العاشر والأخير: من الكلمات إلى السلطة: ا ...
- آلة الوعي الزائف: وسائل التواصل كأداة قمع طبقي
- 9. نحو خطاب تحرري بديل: من هندسة الكراهية إلى هندسة الوعي
- 8. خطاب الكراهية والعدالة الانتقالية: من طمس الجريمة إلى إعا ...
- كشة (1) لم يمت: الوعي الماركسي في وجه الثورة المضادة
- يامنة: تطواف على جناح الحنين المقاوِم
- 7. البرجوازية الصغيرة وخطاب الكراهية: بين الخوف والانتهازية
- 6. مناهضة خطاب الكراهية: من الوعي إلى السلطة
- المثقف الطرفي في فضاء ما بعد الاستعمار
- اللاعنف كأداة إمبريالية: تفكيك وهم التغيير السلمي في الثورة ...
- 5. اقتصاد الكراهية: كيف تتحول الأيديولوجيا إلى سلعة في السوق ...
- صمت الفلوت وهستيريا العنف
- 4. بنية إنتاج الكراهية في السودان
- 3. خطاب الكراهية ضد النساء: الجندر كساحة للصراع الطبقي في ال ...
- 2. لجان المقاومة وتفكيك الكراهية: من الوعي الشعبي إلى الفعل ...
- تفكيك ٱلة الكراهية: المهمة الثورية للوعي الطبقي
- لا ثورة بلا قطيعة، ولا يسار بلا عدو طبقي
- القذيفة لا تُنهي الدرس
- 30 يونيو: لحظة الوعي الطبقي وحدود الثورة في السودان


المزيد.....




- دنيا سمير غانم تعود من جديد في فيلم روكي الغلابة بجميع ادوار ...
- تنسيق الجامعات لطلاب الدبلومات الفنية في جميع التخصصات 2025 ...
- -خماسية النهر-.. صراع أفريقيا بين النهب والاستبداد
- لهذا السبب ..استخبارات الاحتلال تجبر قواتها على تعلم اللغة ا ...
- حي باب سريجة الدمشقي.. مصابيح الذاكرة وسروج الجراح المفتوحة ...
- التشكيلية ريم طه محمد تعرض -ذكرياتها- مرة أخرى
- “رابط رسمي” نتيجة الدبلومات الفنية جميع التخصصات برقم الجلوس ...
- الكشف رسميًا عن سبب وفاة الممثل جوليان مكماهون
- أفريقيا تُعزّز حضورها في قائمة التراث العالمي بموقعين جديدين ...
- 75 مجلدا من يافا إلى عمان.. إعادة نشر أرشيف -جريدة فلسطين- ا ...


المزيد.....

- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عماد حسب الرسول الطيب - -البيضاء-: الغموض كتكتيك مقاومة ضد الحداثة التشخيصية