عماد حسب الرسول الطيب
(Imad H. El Tayeb)
الحوار المتمدن-العدد: 8398 - 2025 / 7 / 9 - 09:00
المحور:
الادب والفن
في ظاهرها، تبدو أغنية "المسافة" التي كتبها الشاعر صلاح حاج سعيد وغنّاها الفنان الثوري مصطفى سيد أحمد، قصيدة حب رقيقة، تصف شوقًا مؤجلًا وفقدًا ناعمًا، لكن خلف هذا المجرى العاطفي، تتشكّل الأغنية كأحد أبلغ تعبيرات الاغتراب الطبقي والوجداني في السياق السوداني الحديث. إنها ليست مرثية لحبٍ متعذّر فقط، بل شهادة على تمزّق الوعي في مجتمع يعيش انقطاعًا حادًا بين الحلم والواقع، بين الانتماء والمنفى، بين الذات والعالم، وهو ما يجعل "المسافة" تجسيدًا شعريًا للتمزّق الذي يعانيه الإنسان المقهور في مواجهة عالم يُعيد إنتاج إغترابه كل يوم.
بدءا من مطلعها، لا تطرح الأغنية مسافة مكانية فحسب، بل مسافة شعورية حادة، حيث يقول: "لسّه بيناتنا المسافة .. والعيون .. واللهفة والخوف .. والسكون"، وكأن الاجتماع البشري ممكن، لكن الانفصال الوجداني لا يُردم. العيون تلتقي، واللهفة تخفق، لكن السكون، كحاجز طبقي ونفسي، يفرض سطوته. هذا الصمت لا ينبع من نقص في الحب، بل من فائض في القهر. المسافة هنا ليست فقط بين عاشق ومحبوبته، بل بين الذات المهمّشة وحقها في الاعتراف، بين الإنسان البسيط وأدوات التعبير، بين الفرد ومجتمعه الذي لا يسمع.
تُعيدنا الأغنية إلى تعريف ماركس للاغتراب حين كتب: "إن العامل لا يشعر بأنه ينتمي إلى ذاته، إلا عندما لا يعمل، وعندما يعمل، لا يشعر بذاته." هذه المسافة بين الذات وعملها، بين الإنسان وما يُنتجه، تجد تمثيلها الرمزي في النص من خلال الفجوة بين العاشق ومحبوبته، بين الرغبة وإمكانية تحقيقها، حيث تصبح "المسافة" ليست فقط مكانًا، بل بنية قهرية تحكم العلاقة بين الفرد والعالم. في بيت مثل: "تعدّي بالفرحة وتفوت / وأمشي بالحسرة وأموت"، نلمح مأساة إنسان فقد السيطرة على معاني الفرح، وصار محكومًا بعبور الأحداث من خلاله، لا عبر مشاركته في صناعتها. إنها صورة العامل الذي لا يمتلك وسيلة إنتاج حياته العاطفية، كما لا يمتلك وسيلة إنتاج حياته الاقتصادية. الفرح لا يُعاش، بل يُلمَس لوهلة ثم يُسلب، كما يُسلب فائض القيمة من العامل.
وفي موضع آخر، ينقلنا النص إلى لحظة تفيض فيها اللغة بحنين لا يُخفي هشاشته: "إنتِ لما الحب يهوم في عيوني / وفي عيونك يبقى حائر .. بالأمارة". هنا الحيرة ليست مجرد تردّد عاطفي، بل انعكاس لارتباك وجودي يعانيه الإنسان في ظل الشروط المادية التي تُقصي الحب وتحوّله إلى ترف. فالعشق في مجتمع غير متساوٍ ليس فقط تجربة شعورية، بل تمرين طبقي على الفقد. كما كتب روزا لوكسمبورغ: "الحرية فقط للذين يفكرون بشكل مختلف، وإلا فهي امتياز طبقي" — فهل يكون الحب إذن إلا امتيازًا طبقيًا حين يُحاصر الفقراء بالحرمان؟
لقد كُتبت هذه الأغنية، وغُنّيت، في سياق سياسي واجتماعي يفيض بالقمع والاستبداد، حيث كانت السلطة تهيمن ليس فقط على الفضاء العام، بل على الأمل نفسه، فتشوّهه وتصادره. في هذا السياق، تصبح المسافة بين الفرد ومحبوبه انعكاسًا للمسافة الأعمق بينه وبين وطنه، بينه وبين مصيره، بين الشعب ومراكز القرار، بين الجماهير وحلمها المسروق. وهي ما يمكن أن نقرأها كتمثيل للمقولة الماركسية: "في ظل شروط الحياة الرأسمالية، تصبح العلاقات بين البشر كأنها علاقات بين أشياء." فالمحبوبة – كما الحلم – تصبح كيانًا بعيدًا، غامضًا، متعالٍ على الإمكان، تُختزل العلاقة بها في "إشارة"، في انتظار أبدي، بلا قدرة على الاقتراب أو الفعل. وهذا بالضبط هو قلب الأزمة في الوعي الطبقي المسحوق: التطلّع دون تحقيق، الحب دون حيازة، الحضور دون تأثير.
ومع ذلك، لا يستسلم النص، بل يحتشد بأملٍ هشّ، يُعبَّر عنه في قول الشاعر: "لعيونك يا مداين الفرحة والحب .. والجسارة / عندي ليك مليون بشارة"، فكأن الحبيب لم يعد مجرد فرد، بل مدينة رمزية تُختزل فيها قيمة الفرح الجماعي والمقاومة. وهذه البشارة ليست وعدًا رومانسيًا بقدر ما هي وعد طبقي بالخلاص الممكن، إن تحقق الوعي والتضامن. إنه حب ينتمي لجماعة، لا لفرد، وشوق يتخطى الذات نحو الكل، كما قالت كلارا زيتكن: "لا حب حقيقي خارج التضامن مع المظلومين".
مصطفى سيد أحمد، الذي لم يكن مغنيًا عابرًا بل صوتًا طبقيًا نابعًا من القاع، غنّى "المسافة" ليس كعاشقٍ فقط، بل ككائن مثقل بالتاريخ السياسي والمأساة الجماعية. صوته المليء بالوجع لم يكن أداءً عاطفيًا بريئًا، بل كان تفجّرًا للصمت المفروض على الطبقات الشعبية، التي حوصرت بين عدوين: الفقر من جهة، والسلطة القمعية من جهة أخرى. هذا الصوت، الخارج من المنفى الجسدي والروحي، صار يُمثّل – كما كتب غرامشي – "المثقف العضوي الذي يُعبّر عن هموم طبقته لا كمجرد وصف، بل كفعل مقاوم".
وحين نمعن في جملة مثل: "ما الزمن بي الحب بلاكي.. وابتلاني"، ندرك كيف يتحوّل الزمن من سياق طبيعي إلى أداة أيديولوجية، تُستخدم ضد الفرد لتقويض حلمه واستنزاف وجدانه. الزمن هنا ليس محايدًا، بل يُعاد تشكيله حسب منطق الهيمنة: زمن الحرب، زمن القمع، زمن المنفى، زمن المرض، كلها أزمنة مفروضة من الأعلى، تجعل حتى الحب مشروطًا، هشًا، غير ممكن. وكما كتب فالتر بنيامين: "التاريخ يكتبه المنتصرون، أما المهزومون فزمنهم لا يُحسب".
إن المسافة التي تتحدث عنها الأغنية، هي نتاج لشروط إنتاج مادية وثقافية مُعطّبة، تجعل القرب مستحيلًا، وتجعل الكلمات تنتظر "إشارة" لا تأتي. وكأن الحبيب – أو الوطن – صار وهمًا لا يُبلغ، لأن القوة المنتجة للحياة نفسها لم تعد بيد الإنسان. وفي نهاية الأغنية، يُختزل هذا الشعور في بيت بالغ التوتر: "راجى منك بس إشارة / وكلمة تديني البشارة / ولاّ بيناتنا المسافة؟". هذا الرجاء ليس غزلاً ناعمًا، بل صرخة وجودية في وجه نظام رمزي قمعي، تُصبح فيه الكلمة منحة، والإشارة حدثًا جللًا، لأن البنية ذاتها تمنع التواصل وتخنق التعبير. وحين يكون الحبيب رمزًا للوطن، تكون الإشارة رمزًا للثورة.
وهكذا، تتحول "المسافة" من موضوع عاطفي إلى مجاز طبقي، ومن شجن شخصي إلى تمثيل مأساوي للمجتمع المقموع. إنها ليست فقط أغنية، بل بيان وجداني في وجه البُعد الذي يُنتجه النظام الرأسمالي والإقطاعي على السواء. إنها نداءٌ خافت من طبقة مسحوقة، لم تجد في المؤسسات الرسمية ولا في النخب التقليدية من ينطق باسمها، فخرج صوتها من فم مصطفى، ومن قلم صلاح، ليصبح الغناء هنا أداة للوعي، وشكلًا من أشكال النقد، ومنفذًا نحو الفعل.
لذلك، فإن "المسافة" لا تُسمع فقط، بل تُقرأ كتجربة إنسانية مركّبة، تعيد رسم العلاقة بين الكلمة والسلطة، بين الحب والتاريخ، بين الحضور والحرمان. وهي، ربما من حيث لا تقصد، درسٌ في أن الثورة لا تبدأ فقط من الميادين، بل من الاعتراف بالمسافة باعتبارها صراعًا، ومن الحنين بوصفه شكلاً من أشكال التمرّد.
وفي النهاية، تبقى المقولة الماركسية حاضرة بعمقها الصارخ: "الناس يصنعون تاريخهم، ولكن ليس كما يحلو لهم، بل تحت ظروف يواجهونها مباشرة، ظروف معطاة ومنقولة من الماضي."
وفي هذه الظروف، تصبح المسافة – كما في هذه الأغنية – أكثر من فراغ... إنها قدرٌ طبقي، يُقاوم بالغناء.
"حين يُجبر الإنسان على انتظار أبسط حقوقه، يصبح الحنين شكلاً من أشكال النضال."
النضال مستمر،،
#عماد_حسب_الرسول_الطيب (هاشتاغ)
Imad_H._El_Tayeb#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟