أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عماد حسب الرسول الطيب - الأب فاريا: المعرفة المصادَرة وبذرة الوعي الطبقي في «الكونت دي مونت كريستو»














المزيد.....

الأب فاريا: المعرفة المصادَرة وبذرة الوعي الطبقي في «الكونت دي مونت كريستو»


عماد حسب الرسول الطيب
(Imad H. El Tayeb)


الحوار المتمدن-العدد: 8404 - 2025 / 7 / 15 - 08:37
المحور: الادب والفن
    


يقتحم الأب فاريا عالم ألكسندر دوما بصفته راهبًا عجوزًا مغمورًا في زنزانة مظلمة، لكنه يحمل رأس مال فكري هائل يخشاه النظام الطبقي أكثر من أي سلاح. في مجتمع فرنسي يتلمّس أعتاب الرأسمالية الصناعية، يصبح قمع المعرفة أداة لا تقل فاعلية عن القمع المادي. هنا يتجلّى فاريا بوصفه مثقفًا عضويًا بالمعنى الغرامشي للكلمة: أي مثقفٍ يرتبط عضوياً بطبقة اجتماعية مسحوقة ويعبر عن مصالحها، لكنه، على عكس النسخة الكلاسيكية، لا يقود حركةً جماعية، بل يزرع وعيًا ثوريًا فرديًا في ذهن إدموند دانتيس. لم يُسجن فاريا لارتكابه جريمة، بل لمعرفته باللغات والاقتصاد والتاريخ، أي لمقدرته على تفكيك بنية السلطة وتحريض المقهورين. فكما تُصادر البرجوازية فائض القيمة من البروليتاري، تُصادر الدولة الطبقية رأس المال الرمزي للمثقف المتمرّد. إن زنزانة فاريا هي شكل من تجريد العامل الفكري من منتجه، فتُحتجز المعرفة وتحرم من التداول الاجتماعي كي لا تتحول إلى وعي طبقي قابِل للانتشار.

كان إدموند دانتيس، البحّار الشاب، ضحيةً مثاليةً لهذا الاغتراب: قوةُ عملٍ بلا وعي، تُستغلّ بسهولة في شبكة مؤامراتٍ يمثل أطرافُها أذرعَ البنية الطبقية ممثلةً في القانون ورأس المال الطفيلي والمكانة الاجتماعية. عبر تحالفٍ معرفيّ وتربوي بينه وبين فاريا، يتحوّل إدموند من فاعلٍ اقتصاديّ بلا إدراك إلى ذاتٍ نقدية تقرأ تناقضات المجتمع من منظور ماركسي فطري. هكذا تنقشع الغشاوة عن بنية القمع وتُزرع بذرةُ الوعي الطبقي، حتى لو ظلت ثمرةُ هذا الوعي انتقامًا فرديًا لا ثورةً جماعية. الكنز الذي يكشفه فاريا ليس مجرد ثروة دفينة، بل رأس مال رمزي ومادي مخزّن خارج مدار التداول الرأسمالي. وفي مصطلح ماركس، فإن التراكم البدائي هو الثروة التي تُنتزع بعنف لتأسيس الرأسمالية، غير أنّ هذا الكنز ينقلب ضد أصحابه التاريخيين، فيُوظف بمنطق مضاد كأداة لمواجهة النظام الذي صنع اغتراب دانتيس، وتفكيك البنية التي أنتجت الظلم.

مع أنّ الكونت دي مونت كريستو يستخدم هذه الثروة في إزاحة بارونات المال والقانون والهيبة الاجتماعية، إلا أن فعله، في التحليل الأخير، يظل مُحاطًا ببنية المجتمع البرجوازي التي تسلّل إليها. فهو يحضر صالونات باريس، ويستثمر في بورصتها، ويعيد إنتاج بعض طقوس نخبتها. يذكّرنا ذلك بحدّ مأزق الفردانية الرومانسية أمام البنى البنيوية: لا يمكن لمغامرٍ فردي أن يطيح بآليات السوق والدولة، بل قد يُعيد إنتاجها في صيغٍ أكثر مراوغة. وهنا تبرز حنكة دوما: فهو يشير، دون تصريحٍ أيديولوجي مباشر، إلى استحالة الخروج التام من النظام عبر أدواته، وإلى أن الفعل الفردي، مهما بلغ من وعي، يظل عاجزًا عن تمثيل قطيعة طبقية حقيقية.

كُتبت الرواية في السنة ذاتها التي صاغ فيها ماركس «المخطوطات الاقتصادية–الفلسفية»، ومع ذلك يلمع في شخصية فاريا حسٌّ مبكّر بأفكار الاغتراب والتراكم البدائي ودور المثقف المقهور في إنتاج الوعي. يموت فاريا في السجن، لكن معرفته تتسرّب كفيروسٍ ثوري ينتظر لحظة التفشي، على حد استعارة جيجك. إنّ الدرس الجوهري هنا هو أنّ الرأسمالية تستطيع حبس الأجساد، لكنها لا تستطيع إخماد الأفكار إذا وجدت من يحملها ويعيد إنتاجها. فاريا، بهذا المعنى، ليس مجرد شخصية أدبية، بل تجسيد لطاقات التغيير المقموع في قلب النظام.

في «الكونت دي مونت كريستو»، يتجسّد الصراع الطبقي في هيئة قصة انتقامٍ ملحمية، لكن الأب فاريا يكشف جوهرها النظري: المعرفة المصادرة يمكن أن تعيد صياغة موازين القوى حين تتسلل إلى من هم معدّون لاستيعابها. سجينٌ مجهول يتحول إلى مُحرّض طبقي، والكنز يتحول من ثروة ساكنة إلى أداة لإعادة توزيع غير متكافئ للعدالة، حتى وإن ظل ذلك في إطار فردي مشروط. يبقى فاريا هو الضمير الطبقي للنص، الظلّ الماركسي الذي يعبر من خلاله دوما عن إدراك مبكر ومتوتر لمعضلة التحرر في مجتمع يتحكم في أدوات الإنتاج، وحتى في أدوات المعرفة.

«قد يكبِّل السجّان يديك، لكنّه يعجز عن تقييد بصيرتك. حين يمتلك المقهورون الوعي، تُصبح زنزاناتهم مشاتلَ حرية.»

النضال مستمر،،



#عماد_حسب_الرسول_الطيب (هاشتاغ)       Imad_H._El_Tayeb#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- 6. النقابات والثورة: من أكتوبر إلى ما بعد ديسمبر
- «بيت برناردا ألبا»: المأساة الطبقية في عباءة الشرف
- 5. البيروقراطية النقابية: طبقة طفيلية تعيش على تناقضات العما ...
- من العجز إلى البصيرة الطبقية: قراءة في القوقعة الفارغة للمجذ ...
- 4. اللجان التمهيدية: اختراق الدولة لجسد الطبقة العاملة
- عندما تغيب شمس الحق: ديالكتيك الثورة في أغنية الجنوب اللبنان ...
- 3. القانون النقابي – عندما يصبح التشريع أداة قمع برجوازية
- تشريح الحلم الممنوع: -قارئة الفنجان- كمرآة للهزيمة الجماعية
- 2. النقابة في مرآة الهيمنة الدولية - من الشرعية الأممية إلى ...
- النقابات في السودان – من أدوات الترويض إلى جبهات الثورة
- -البيضاء-: الغموض كتكتيك مقاومة ضد الحداثة التشخيصية
- الفراغ المعبأ بالحزن
- خطاب الكراهية الجزء العاشر والأخير: من الكلمات إلى السلطة: ا ...
- آلة الوعي الزائف: وسائل التواصل كأداة قمع طبقي
- 9. نحو خطاب تحرري بديل: من هندسة الكراهية إلى هندسة الوعي
- 8. خطاب الكراهية والعدالة الانتقالية: من طمس الجريمة إلى إعا ...
- كشة (1) لم يمت: الوعي الماركسي في وجه الثورة المضادة
- يامنة: تطواف على جناح الحنين المقاوِم
- 7. البرجوازية الصغيرة وخطاب الكراهية: بين الخوف والانتهازية
- 6. مناهضة خطاب الكراهية: من الوعي إلى السلطة


المزيد.....




- “أخيراً جميع الحلقات” موعد عرض الحلقة 195 من مسلسل المؤسس عث ...
- سرقة موسيقى غير منشورة لبيونسيه من سيارة مستأجرة لمصمم رقصات ...
- إضاءة على أدب -اليوتوبيا-.. مسرحية الإنسان الآلي نموذجا
- كأنها خرجت من فيلم خيالي..مصري يوثق بوابة جليدية قبل زوالها ...
- من القبعات إلى المناظير.. كيف تُجسِّد الأزياء جوهر الشخصيات ...
- الواحات المغربية تحت ضغط التغير المناخي.. جفاف وتدهور بيئي ي ...
- يحقق أرباح غير متوقعة إطلاقًا .. ايرادات فيلم احمد واحمد بطو ...
- الإسهامات العربية في علم الآثار
- -واليتم رزق بعضه وذكاء-.. كيف تفنن الشعراء في تناول مفهوم ال ...
- “العلمية والأدبية”.. خطوات الاستعلام عن نتيجة الثانوية العام ...


المزيد.....

- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عماد حسب الرسول الطيب - الأب فاريا: المعرفة المصادَرة وبذرة الوعي الطبقي في «الكونت دي مونت كريستو»