أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - الدولة والفلسفة: من بناء المفاهيم إلى صناعة المجتمعات














المزيد.....

الدولة والفلسفة: من بناء المفاهيم إلى صناعة المجتمعات


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8396 - 2025 / 7 / 7 - 12:03
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


د.حمدي سيد محمد محمود
لطالما كانت العلاقة بين الدولة والفلسفة علاقة متشابكة، يغلب عليها التأثير المتبادل والتشابك التاريخي، إذ تسعى كلٌّ منهما بطريقتها إلى تنظيم وتوجيه حياة المجتمعات وصياغة ملامحها الراهنة والمستقبلية. الدولة، بوصفها السلطة العليا التي تنظم العلاقات والقوانين والمؤسسات، ليست مجرد بنية مادية إدارية، بل هي كيان يحمل تصورات ورؤى وقيمًا تُحدد كيفية تنظيم الحياة الإنسانية المشتركة. أما الفلسفة، فهي الجهد العقلي والروحي الذي يبحث في معنى الوجود والعدالة والحرية والصالح العام، ويقترح الأسس النظرية التي ينبغي أن يُبنى عليها العيش المشترك. وفي هذا التلاقي بين الحاجة إلى الحكم والحاجة إلى الفهم، نشأت علاقة عميقة بين الدولة والفكر الفلسفي، علاقة ظلت عبر العصور محفوفة بالتوتر حينًا، وبالتآزر حينًا آخر، لكنها في جميع الأحوال كانت من أعمدة تشكيل الوعي السياسي والاجتماعي والثقافي للإنسانية.

إن الفلسفة لا تكتفي بوصف الواقع أو نقده، بل تضع أمام الدول مشاريع فكرية كبرى لتصميم الممكن، من خلال تأصيل مفاهيم مثل العدالة، والمساواة، والحرية، والسلطة، والحق، والواجب. هذه المفاهيم لا تعيش في فراغ نظري، بل هي عصب الحياة السياسية والقانونية والاجتماعية. وقد شهد التاريخ نماذج لافتة لهذا التفاعل؛ فأفلاطون، حين تخيّل جمهوريته الفاضلة، لم يكن يحلم utopia خيالية، بل أراد أن يُرسي ملامح دولة تُبنى على الحكمة، ويحكمها الفلاسفة الذين ارتقوا في سلّم المعرفة والأخلاق. وجاء بعده مفكرون مثل أرسطو، ولوك، وروسو، وهيغل، ليقدّم كل منهم تصورًا متمايزًا حول الدولة المثلى ومصدر شرعيتها، وحدود سلطتها، وحقوق أفرادها، وكيفية توزيع السلطة والثروة داخلها. هذه التصورات الفلسفية لم تبقَ سجينة الكتب، بل تسربت إلى صميم الدساتير والقوانين والثقافات السياسية، وشكلت المرجعية النظرية لأنظمة الحكم المختلفة، من الديمقراطيات الليبرالية إلى النظم الشمولية.

لكن العلاقة ليست من طرف واحد، فالدولة أيضًا تؤثر في الفلسفة، إيجابًا أو سلبًا. حين تكون الدولة منفتحة على الفكر والنقد والحوار، تصبح حاضنة طبيعية لازدهار الفلسفة، ويجد الفلاسفة فيها فضاءً حُرًا للإبداع والتحليل والتشكيك البنّاء. أما حين تضيق الدولة ذرعًا بالفكر الحر وتخشى المساءلة العقلية، فإنها تتحول إلى آلة قمع تُطارد الفلاسفة وتخنق الأسئلة وتفرض أيديولوجيا جاهزة مغلقة على الجميع. وفي الحالتين، تنعكس هذه العلاقة على مآلات المجتمع: فالدولة التي تحتضن الفلسفة تنفتح على المستقبل بثقة، وتُنتج مواطنًا نقديًا فاعلًا، أما الدولة التي تقمعها فتدخل في دوائر مغلقة من الجمود والتكرار والاستبداد، ويُصاب العقل الجمعي بالضمور والارتباك.

تتجلّى آثار هذه العلاقة في وجوه متعددة من حياة المجتمعات، ففي البُعد السياسي، تستند الأنظمة السياسية إلى رؤى فلسفية محددة، فالديمقراطيات الحديثة مثلًا تأسست على مبادئ فلسفة التنوير التي أكدت على الحرية الفردية، وحقوق الإنسان، وسيادة الشعب، والعقد الاجتماعي. أما الأنظمة الشمولية فغالبًا ما اعتمدت على فلسفات تؤكد على مركزية الدولة وضرورة الطاعة، كما في الماركسية أو الفاشية. وفي البُعد القيمي، تؤدي الفلسفة دورًا في صياغة منظومة الأخلاق العامة، سواء من خلال تساؤلاتها حول معنى الخير والشر، أو من خلال نقدها للممارسات الظالمة والسياسات المجحفة. والمجتمعات التي تُشجع النقاش الفلسفي حول القيم هي المجتمعات الأكثر قدرة على التعايش السلمي، ومواجهة الانقسامات، وتعزيز الإنصاف بين فئاتها. كما أن هذه العلاقة تؤثر أيضًا على التقدم العلمي، فالفلسفة بما هي دعوة للتساؤل الدائم، والانفتاح على الاحتمالات، والشك المنهجي، تُعدّ مقدمة ضرورية لأي نهضة علمية أو تقنية. الدولة التي تربي على التفكير الفلسفي تزرع في الأجيال المقبلة روح الابتكار، أما الدولة التي تربي على التلقين والتكرار، فإنها تصنع أجيالًا تنسخ ولا تبدع، تتبع ولا تتساءل.

وتبلغ أهمية هذه العلاقة ذروتها حين تواجه المجتمعات تحديات كبرى مثل الذكاء الاصطناعي، وتغير المناخ، والاضطرابات الاقتصادية، والتفاوت الطبقي، والعولمة الجارفة. فهذه التحديات لا يكفي فيها الحل التقني أو السياسي فقط، بل تحتاج إلى تأملات فلسفية عميقة حول الأخلاق، والغاية، والمسؤولية، والإنسان، والمستقبل. من يحدد مثلًا الضوابط الأخلاقية لتطوير الذكاء الاصطناعي؟ ومن يرسم حدود التدخل في الطبيعة باسم التقدم؟ ومن يوازن بين مصلحة الفرد والجماعة في ظل التحولات الرقمية؟ كلها أسئلة فلسفية بامتياز، تتطلب حضورًا قويًا للفكر الفلسفي في صميم صناعة القرار، وموقعًا راسخًا له داخل مؤسسات الدولة، سواء من خلال التعليم، أو الإعلام، أو مراكز الفكر، أو التشريع. وفي كل ذلك، تصبح الدولة التي تستعين بالفلسفة دولةً أكثر وعيًا، وأكثر إنسانية، وأقدر على صناعة السياسات العادلة.

إن مستقبل المجتمعات يتوقف بدرجة كبيرة على نوع العلاقة التي تقيمها دولها مع الفلسفة. هل تنظر إليها كخطر ينبغي تحجيمه، أم كرافعة حضارية ينبغي إطلاقها؟ هل تعتبر الأسئلة العميقة خطرًا على الاستقرار، أم فرصة لبناء وعي جماعي قادر على مواجهة المجهول؟ في النهاية، الدولة التي تستثمر في الفلسفة لا تبني فقط اقتصادًا أو أمنًا أو سلطة، بل تبني الإنسان: وعيه، روحه، كرامته، ومسؤوليته. أما الدول التي تغلق أبوابها أمام الفكر الحر، فإنها تؤجل أزماتها ولا تحلها، وتؤسس لهشاشة مستقبلية قد تنفجر عند أول اختبار حقيقي. وبين هذين الخيارين، يكتب التاريخ فصوله، وتصنع الشعوب مصائرها، ويبقى السؤال الفلسفي دائمًا هو البوصلة: ما الإنسان؟ وما العدالة؟ وما الغاية من الدولة؟



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سردية المقاومة: حصن الأمة الأخير في زمن الهيمنة والتطبيع
- المعتزلة واحتدام العقل والعقيدة: رحلة في قلب الخلافات الكلام ...
- فلسفة المعرفة العلمية: تفكيك اليقين وبناء المعنى في عالم متغ ...
- القرآن الناطق بالعقل: الجذور التأسيسية لعلم الكلام الإسلامي
- غرس الانقسام : كيف أعاق الكيان الصهيوني وحدة الأمة العربية
- في رحاب الوعي: من ديكارت إلى هايدغر، ومن سبينوزا إلى هوسرل
- من ميادين المعارك إلى خوارزميات السيطرة: كيف يعيد الذكاء الا ...
- العقل الأداتي في الفكر المعاصر: قراءة نقدية في أطروحة يورغن ...
- برمجة الضمير: حين تعاد صياغة الأخلاق في زمن الخوارزميات
- العقل في مواجهة المادة: رؤية كانط الأخلاقية في زمن النزعة ال ...
- الظلال النووية : الصراع الأمريكي الإسرائيلي ضد طموحات إيران ...
- الاقتصاد الخوارزمي : حين يعيد الذكاء الاصطناعي تشكيل قوانين ...
- تحوّلات الدولة الفاشلة: عندما يفقد القلم والعنف والسلطة معنا ...
- الرقابة الذكية والأمن العام: بين الحماية والهيمنة
- الدولة الإسلامية بوصفها دولة الوقت: نحو تخييل سياسي يتجاوز ا ...
- اللعب بالنار: التحالف الأمريكي الإسرائيلي يفتح أبواب الجحيم ...
- باكستان وإيران تحالف المواقف في زمن الانهيارات الطائفية
- التحالفات المرتبكة: الحرب الإسرائيلية الإيرانية تحت مجهر الس ...
- جذور الحكمة ونُظُم الحياة: أديان شرق آسيا وصناعة الوعي الجمع ...
- المدن الذكية في العالم العربي: بين الحلم الرقمي والتحديات ال ...


المزيد.....




- ظبي بأنف غريب.. ما حكاية السايغا الذي نجا بأعجوبة من الانقرا ...
- مصدر إسرائيلي يكشف لـCNN تطورات مفاوضات وقف إطلاق النار في غ ...
- حسام أبو صفية لمحاميته: هل ما زال أحد يذكرني؟
- -إكس- و-واتساب- في قلب جدل جديد: تحقيق يرصد حسابات يمنية ترو ...
- الوحدة الشعبية: استهداف سورية العربية حلقة لاستكمال مشروع ال ...
- مبادرة -صنع في ألمانيا-: أكثر من 60 شركة ألمانية تتعهد باستث ...
- لماذا لم تكشف بغداد عن هوية المتورطين بهجمات المسيرات؟
- بدء خروج العائلات المحتجزة من السويداء -حتى ضمان عودتها-
- عاجل| وسائل إعلام إسرائيلية: سلاح الجو يهاجم أهدافا للحوثيين ...
- شاهد.. مطاردة مثيرة وثقتها كاميرا من داخل دورية الشرطة تعبر ...


المزيد.....

- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - الدولة والفلسفة: من بناء المفاهيم إلى صناعة المجتمعات