أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خيرالله قاسم المالكي - رجل في غاية الحنين














المزيد.....

رجل في غاية الحنين


خيرالله قاسم المالكي

الحوار المتمدن-العدد: 8395 - 2025 / 7 / 6 - 08:31
المحور: الادب والفن
    


**رجل في غاية الحنين**

في مساءٍ ممطر، تجول رجلٌ مسنٌّ، حكيمٌ مطّلعٌ على تواريخ الزمن شفاهةً وتدوينًا، حول ديرٍ قديم. بناه أقوامٌ غُيبت أخبارهم، فلا يُدرى من هم ولا من أية أرضٍ أقبلوا. رايتُهم هذه لا تنتمي إلى زمننا، زمن المولودين في عهدٍ خلتْ دفوفُه ومزاميره.

حاول الصبي الاقتراب من الراية، لكنه لدى خطوته الأولى ذابت قدَماه كما الشمع في وعاءٍ حارّ. صرخت صبيةٌ قريبةٌ كانت تستقي ماءً بلا دلو. فمن لم يُكلمه القدرُ في المهد، لن يسمع حفيف الراية ولا ما تهمس به. أيقن الرجل - أو ظنّ أنه أيقن - فعاد إلى منزله يبكي بكاء امرأةٍ فقدت بكرَ أولادها.

في الطابق العلوي من المحكمة
سادَ صمتٌ مطبق. ليس للصمت شكل، لكن طعمه كالدفء الخفيّ، أو كالحجاب المنسدل، أو كغبار المطر على قبورٍ دارسة. عند نهاية كل نهار، يقف الحارسُ على الشرفة المطلة على قاعة المحكمة فيفتح الباب. تتنفّس القاعةُ ضبابًا منعشًا يتسلق الهواءَ ثم يهرب، تاركًا أنفاسَه الرطبة. يدخل الرجلُ المسنّ بصمتٍ ووقار، عازِمًا ألا يستخفّ بالذكرى.

مدحه القاضي، صاحب العينين الكريمتين والحُكم السديد. إنه الحاضرُ الغائب الذي لا يحتاج إلى قسمٍ أو يمين. وعندما سُئل: "هل سيبقى صامتًا أم سينطقُ يومًا؟" أجاب: "فاقدُ الفم لا ينطق، بل يدعُ العالم يتكلّم من خلال صمته الموحش وفراغه."

في الأسفل عند باب المحكمة:
بكى السجناء، لكن صمتًا ثقيلاً يعلو رؤوسَهم، تنتفضُ من خلاله أمواجٌ من الضوضاء، كفنارٍ لا يُضيء... لكن الجميع يرون نوره في الظلام.

في الكوخ المغلق
في كوخٍ موصدٍ بلا مدخل، تسكن امرأةٌ تدعى "شهيرة". سَمّتها أمها كذلك لأنها وُلِدت في سنةٍ شحّ فيها الماء، حين صمتت السحبُ وهجَر المطرُ الأرض. قال أبوها وأمها: "ستسمعُ في الصمت ما لا يُقال."

اتخذت شهيرةُ من الصمت مذهبًا في الحياة، فلم تنطق إلا بعد أن تجاوزت سنَّ اليأس. أدركت واقعها متأخرة: عرفت متى تهاجر الطيور ولا تعود، ومتى يشحّ الماء فتنتحر الغيوم، ومتى يبكي الجنينُ في رحم أمه.

في أحد الأيام، أتاها عجوزٌ يتّكئ على عكّازةٍ كأنها رِجلٌ ثالثة. سروالُه مشقوقٌ وحذاؤه ممزق، يحمل أثقالاً تئنُّ بالبكاء. قال بصوتٍ كصدى النحيب:
"سمّعتْ حاجتي... شرابٌ يشفيني. أريد شيئًا يُداوي المَيِّ (العطش/الحزن)."

نظرت إليه نظرةَ إشفاق، هزّت رأسها وأجلسته على حجرٍ في زاوية الكوخ المحفور. ثم استجمعت أنفاسَها وصبّتها في وجهه:
"اسمع أنين أمٍّ ثكلى، أنينًا يسقط مثقلاً ويعلق في وجدانك. فإن سمعتَه، نِلْتَ ضالتك وكنتَ أنت الراية. وإن نسيته أو أنكرته، فأنتَ الصمت حينئذٍ."

فبكى. لم يكن بكاؤه من ألمٍ أصابه، بل لأنه سمع ذاته لأول مرة.

في قاعة الرسم المقلوبة
تحت الأرض، في قاعةٍ مقلوبة، لا تُعرض على الأعمدة والجدران لوحات، بل استفساراتٌ مرصوفةٌ على هيئة تساؤلاتٍ مُعلّقةٍ بخيوطَ لا تُرى. بينها رايةٌ لونُها مُستَفِزّ، لكنها كلما دنا منها أحدٌ صارت بلونٍ شهيٍّ لا يصدّقه اليائسُ ولا يعرفه.

أدرك الرجلُ المسنّ بعد تأملٍ أن الراية تُضمِر سرائرَ الناظرين، فهي مرآةٌ لذواتهم، ومكانٌ على الأرض يستصرخُ ويقول:
"اختر أحد الخيارين: كلُّ رايةٍ لا تعرفها أو تتنكرها تهزمك. وكلُّ رايةٍ تشمّ رائحتَها تشمُك، فترتفعُ معك. لك ما تختار... بكل دقةٍ وتَمعُّن."

في زمنٍ مجهولٍ بعالمٍ مختزل
اجتمعت ثلاثيةُ الصمت والراية والإصغاء، لكلٍّ رأيٌ وإرادة.
قالت الراية: "أنا الوجعُ الساخنُ العالي، الذي يدرك ما لا يُقال ويعرف."
وردّد الصمت: "أنا ما يهرب منه الجميع، لا يلزم أحدًا ولا يُلتَزَم."
وكان للإصغاء قولٌ مختلف: "أنا ما يُقال في كل صلاة... أنا يُسبَح."
سكت الثلاثة. سيكون الصائمون قد أفطروا.

في اللحظة ذاتها
وُلِد شاعرٌ في مدينةِ مغامرةٍ. كانت في فمه قصيدةُ نثرٍ هجَا بها من لا يعرفهم، ورثى من كان سببًا في وجوده، ورثى الغيومَ التي لا تمطر، والمنزلَ الذي يسمعُ ولا يُسكَن. وعن مَن دثّره عند ولادته، كالماء للراية كومةً فوقه وهو في حضن أمه، فوق سريره، عند أول صرخةٍ له:
"أنا... تُتلى. لا تزال تُتلى..."
في يقظةِ الحلم.



#خيرالله_قاسم_المالكي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أناشيد
- **رجل في بيت منسي**
- ترتيل أنسية
- تقول: سأرحل…
- بياض في العتمة
- مواويل الرماد
- تأملات مخدوعة
- تعاويذ
- ينابيع
- همسات ظل طليق
- عصافير جريحة
- تناهيد نهار
- حكايات عطشى
- الباب
- درب الموت
- كتاب وصور
- للنور عناوين
- صمت الشبابيك
- صفحات كتاب لمذكرات مسامير وحجر 2
- صفحات كتاب لمذكرات مسامير وحجر1


المزيد.....




- إيشيتا تشاكرابورتي: من قيود الطفولة في الهند إلى الريادة الف ...
- فرقة موسيقية بريطانية تؤسس شبكة تضامن للفنانين الداعمين لغزة ...
- رحيل المفكر السوداني جعفر شيخ إدريس الذي بنى جسرًا بين الأصا ...
- -ميتا- تعتذر عن ترجمة آلية خاطئة أعلنت وفاة مسؤول هندي
- في قرار مفاجئ.. وزارة الزراعة الأمريكية تفصل 70 باحثًا أجنبي ...
- -بعد 28 عاما-.. عودة سينمائية مختلفة إلى عالم الزومبي
- لنظام الخمس سنوات والثلاث سنوات .. أعرف الآن تنسيق الدبلومات ...
- قصص -جبل الجليد- تناقش الهوية والاغتراب في مواجهة الخسارات
- اكتشاف أقدم مستوطنة بشرية على بحيرة أوروبية في ألبانيا
- الصيف في السينما.. عندما يصبح الحر بطلا خفيا في الأحداث


المزيد.....

- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خيرالله قاسم المالكي - رجل في غاية الحنين