رياض سعد
الحوار المتمدن-العدد: 8378 - 2025 / 6 / 19 - 10:07
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في المشهد السياسي والديني والاجتماعي والتاريخي للمنطقة العربية، ثمة مسلمات وبديهيات راسخة لا يختلف عليها اثنان من أهل البصيرة والضمير، من بينها أن قضية فلسطين كانت ولا تزال القضية المركزية للأمة الإسلامية والعربية، فمنذ بدايات القرن العشرين، كانت قضية فلسطين قضية العرب والمسلمين جميعًا، وكان العداء لإسرائيل موقفًا لا جدال فيه. حتى أكثر الأنظمة ضعفًا كانت تحاول تغطية عجزها بشعارات معادية للصهيونية ... ؛ بل حتى لأحرار العالم من الحركات اليسارية والإنسانية... ؛ فالصراع مع الكيان الصهيوني ظل يمثل خطاً أحمر، وموقفًا أخلاقيًا لا يقبل المساومة، حتى غدا العداء للصهيونية واجبًا دينيًا، وموقفًا وطنيًا، وسلوكًا شعبويًا عامًا... ؛ بل إن البعض كان يقول – تهكمًا أو صدقًا – "لو أن إبليس رجم الكيان بحجر، لترحم عليه المسلمون والعرب وهتفوا باسمه!
لكن كل ذلك تغيّر بعد أن دخل الشيعة - وتحديدًا حزب الله وإيران واليمن والحشد الشعبي - على خط المقاومة ضد الكيان الصهيوني ... ؛ هنا تغيرت القاعدة , و انقلبت الموازين، واهتزت الثوابت، وتصدعت المسلمات، فصارت طائفة المقاوم أهم من جهة المحتل الاجنبي والعدو الصهيوني , وأصبح المعيار ليس في مواجهة العدو الصهيوني بل في المذهب والطائفة والهوية العقائدية للمقاومة ؛ اذ لم يعد من الغريب أن ترى بعض الجماعات السنية الطائفية في المشرق والمغرب العربي، من المحيط إلى الخليج، تلعن كل مقاوم شيعي، وتتبرأ من كل حركة مقاومة سنية تربطها صلة تعاون مع إيران أو مع الشيعة... ؛ بل وتدعو علنًا لنصرة الكيان الصهيوني ضد الشيعة، لمجرد أنهم من مذهب آخر، حتى لو كانوا أكثر صدقًا وإخلاصًا في المعركة... !!
ففي كل مرة يحقق فيها "حزب الله" نصرًا على العدو الإسرائيلي، ترى في المقابل خيبة في عيون بعض العرب السنة، وصراخًا على منابرهم، وكأنما هزموا هم أنفسهم... ؛ وإذا دخلت إيران في مواجهة مع إسرائيل، تسارع وسائل الإعلام الخليجية والعربية، وصفحات التواصل الاجتماعي، وحتى خطباء الجوامع، إلى السخرية من شهداء إيران، والشماتة بضحاياها، والدعاء الصريح بانتصار الكيان الصهيوني على من أسموهم بـ"الروافض"، بل وصل الحقد الطائفي إلى حد تكفير كل مسلم سني شريف يدعم المقاومة الشيعية أو يتضامن مع إيران أو حزب الله، فضلًا عن التبرؤ من الحركات السنية المقاومة التي تربطها علاقات تكتيكية أو عقائدية مع إيران...!!
فهذا الحضور الشيعي لم يُقابل بالترحيب، بل قابله خطاب تكفيري يتهم الشيعة بالتقية والخيانة، ويصف أي انتصار لهم بأنه "إيراني توسعي" لا يستحق الدعم، بل يوجب اللعن...؛ او مسرحية سياسية ... ؛ على الرغم من سقوط مئات الصواريخ والمسيرات الايرانية واليمنية واللبنانية الشيعية وغيرها على اسرائيل وتضرر البنى التحتية وسقوط القتلى والجرحى جراء تلك العمليات العسكرية الشيعية ... الخ .
فالقضية ببساطة ليست إيران ولا مصالح العرب... ؛ بل إنها كراهية متأصلة للتشيّع، يُغذّيها خطاب طائفي تكفيري متشنج، يحوّل العداء المذهبي إلى مشروع سياسي... ؛ ومعاداة الشيعة والتشيع اليوم لا تُخفي وجهها، بل تتفاخر به الانظمة والحركات والاحزاب العربية السنية والقواعد الشعبية والجماهير ، وهي أخطر على المسلمين من الصهيونية نفسها، لأنها تمزق النسيج الداخلي وتقتل أي أمل في وحدة وطنية أو عربية أو إسلامية حقيقية.
وإلى أن تُفكك هذه العقد، وتُكسر هذه الأصنام الطائفية، فإن مقاومة الكيان ستظل تُدان لا بسبب أهدافها، بل لأن من ينفذها "شيعي".
وهكذا تحولت ظاهرة معاداة الشيعة وإيران والتشيع والعراق إلى ثقافة عامة، بل إلى دين جديد يعتنقه البعض، وتُبنى عليه الولاءات والعداوات...؛ و لو دخل الشيعة في مواجهة مع الشيطان نفسه، فإن هؤلاء سيقفون مع الشيطان ضد الشيعة، لا لشيء سوى لأنهم شيعة ومن اتباع ال البيت .
أما الذرائع التي يسوقها هؤلاء لتبرير عدائهم وطائفيتهم وكراهيتهم ، فهي أوهى من بيت العنكبوت ولا يقتنع بها المراهق الغر ... ؛ فإن قيل إن الشيعة او ايران ارتكبوا جرائم ضد السنة، فإن سجل الإبادة والتفجير والذبح والتفخيخ والاحتراب الطائفي في العراق وسوريا وباكستان والبحرين والسعودية واليمن ولبنان وافغانستان ... الخ ، يدل بوضوح على أن المجازر الكبرى وقعت بحق الشيعة، لا العكس، وأن ما ارتكبوه، إن صح، لا يُقارن بحجم المآسي التي طالتهم... ؛ وان صحت نسبتها لهم فإنما هي ردة فعل على مجازر وجرائم السنة الرهيبة والطويلة او لحماية المقدسات والمناطق السكنية من ارهابهم واجرامهم ... ؛ فالحجج المستخدمة لتبرير العداء والممارسات الطائفية ضد الشيعة وايران ، اغلبها مجرد ادعاءات وافتراءات ، وكلها لا تصمد أمام الفحص الموضوعي... ؛ فحجم العنف الطائفي والاجرام التكفيري الذي مورس ضد الشيعة في العراق وسوريا وباكستان ونيجيريا وغيرها ، يفوق كثيرًا ما يُنسب إليهم , بل لا وجه للمقارنة .
وإن قالوا إن إيران تعادي العرب، فإن التاريخ والواقع يكذّبهم... ؛ فإيران لم تُعرف يومًا بالعداء العنصري المطلق للعرب نعم هنالك حالات ونسب تختلف من زمن الى اخر وتوجد في اغلب البلدان والاقوام ... ، ولم تحتقر لغتهم، بل كتبت بها في مدارسها وحوزاتها، واحتضنت اللاجئين والمهاجرين العرب في كل أزمنتها، ولم تصنع من العنصرية والتكبر خطابًا رسميًا ولم تشن حملات عنصرية ضد السياح العرب كما فعل العثمانيون - سابقا - والأتراك المعاصرون... ؛ والأهم من ذلك، أن العداء الحقيقي للعرب يظهر جليًا في تحالفات أنظمة عربية "سنية" مع إسرائيل، وفي تآمرها الصريح ضد دول عربية أخرى مثل العراق وسوريا وليبيا...الخ ؛ فاذا قبلوا بعداوة العربي للعربي وكراهية التركي للعربي , فلماذا لا يقبلون بهذا الامر ان صحت نسبته لإيران ويغضوا الطرف عنه ؟!
أما القول إن الشيعة العرب يكرهون قوميتهم ، فهو مغالطة مضحكة؛ فقد كان الشيعة في طليعة الحركات القومية، بل إن كثيرًا من رواد القومية العربية – من غير الطائفة السنية – كانوا شيعة أو حلفاء لهم، من العراق إلى لبنان ... ؛ وقدموا الغالي والنفيس من اجل قضايا العرب السنة .
إن الظاهرة الأشد خطورة اليوم هي ما يمكن تسميته بـ"ظاهرة معاداة الشيعة"، أو ما يشبه "الشيعة فوبيا" السياسية والدينية والاجتماعية والاعلامية ، والتي تنتشر بشكل مقلق في الخطاب الطائفي والإعلام الرسمي والديني لبعض الأنظمة الخليجية والمغاربية والعربية .
هذه الظاهرة لا تستهدف فقط إيران كنظام سياسي او كأمة ، بل كل ما يمت بصلة إلى التشيّع ومذهب أهل البيت، وتُمارس على شكل تحريض ممنهج وكراهية مؤسساتية وعداء وجودي... ؛ وقد صرف ال سعود وشراذم الوهابية وشذاذ السلفية وغيرهم مليارات الدولارات وطوال عقود من الزمن لتثبيت هذه العقدة الطائفية والفكر التكفيري الاجرامي والذي يهدف لاستئصال وابادة الشيعة عن بكرة ابيهم او لا أقل اقصائهم وتهميشهم وافقارهم واذلالهم .
من الناحية النفسية، تعكس هذه الظاهرة عقدًا طائفية مركبة، وخوفًا دفينًا من عودة التشيّع كقوة فكرية وروحية تعيد التوازن للتاريخ الإسلامي وتعيد النظر في رموز كثيرة ظلت مقدسة عند بعض السنة رغم تاريخها الدموي... ؛ أما من الناحية الاجتماعية والسياسية، فإن هذه الكراهية تتحول إلى قنبلة موقوتة، تهدد التماسك الداخلي لمجتمعات مختلطة، وتؤسس لسياسات إقصاء وتمييز لا تقل خطورة عن الصهيونية نفسها... ؛ والا بماذا تفسر اجرام وارهاب وطائفية الحكومات الهجينة في العراق والتي كدست ابناء الاغلبية العراقية في احياء بائسة واكواخ من القصب و ( التنك) الصفيح ومساحات صغيرة , واطلاق تسمية القطاعات عليها , وتحويلها الى كانتونات معزولة وتفتقر لأبسط الخدمات ؛ اشبه بقطاع غزة المحاصرة من الصهاينة ؛ بل ان المقارنة بين الواقع الخدمي والبيئي والمعيشي لقطاع غزة واحياء وقرى ومناطق الاغلبية العراقية وقتذاك , قياس مع الفارق , فالفرق بينهما كالفرق بين الثرى والثريا ... !!
فالعداء للشيعة يتغذى من عقدة تاريخية تجاه "الآخر المختلف"، ويُمارس بشكل جماعي كطقس للتماهي مع الهوية السنية... ؛ إنها ليست فقط كراهية مذهبية، بل رد فعل نفسي لجماعات تشعر بتهديد رمزي من فكر أهل البيت وتاريخ التشيع ورموزه ... .
فالعداء المتنامي لإيران والشيعة ليس عداءً عقلانيًا أو سياسياً بقدر ما هو انعكاس لخلل نفسي وهوياتي في الوعي السني السياسي الحديث... ؛ وهو خطر لا يهدد الشيعة وحدهم، بل مستقبل التعايش العربي والإسلامي برمّته.
وفي ظل هذا المناخ العدائي، لا يبدو أمام الشيعة، وخصوصًا الشيعة العرب، خيارًا واضحًا إلا البحث عن حماية جماعية، إما عبر تقوية وجودهم السياسي في بلدانهم والدعوة الى اقامة الدول المدنية والحكومات الديمقراطية ، أو بالمطالبة بدولتهم المستقلة إذا ما استمر الإقصاء والشيطنة والطعن في الوجود، لا في الفكر فحسب.
وفي الختام، فإن العداء المبالغ فيه لإيران ليس سوى واجهة مضللة لعداء أعمق، هو العداء للشيعة أنفسهم... ؛ ومن الخطأ الجسيم أن ننجر إلى خطاب الدفاع عن إيران بحد ذاتها، لأن القضية الأهم تتعلق بكشف جوهر هذا الحقد الطائفي، وتفكيك عقده، وفضح أدواته، وفهم أبعاده السياسية التي تسعى إلى شيطنة وتشويه سمعة كل مقاوم وكل سياسي وكل مثقف وكل صاحب دعوة وايديولوجيا وان كانت علمانية او ليبرالية او الحادية ، فقط لأنه شيعي، بغض النظر عن مواقفه، تاريخه، أو نضاله أو عرقه وقوميته ...!!
والدليل على ما أوردناه سابقًا أن إيران في عهد الشاه، رغم أنها كانت علمانية وملكية، ومتحالفة مع الولايات المتحدة ومطبّعة مع إسرائيل، لم تكن محل ترحيب أو قبول من قبل السنّة في العراق وسواه... ؛ وهذا يوضح أن الإشكال لم يكن مرتبطًا بنوع النظام السياسي أو بطبيعة الحكم أو الانتماء القومي، بل كان أعمق من ذلك؛ إنه متصل بجذر طائفي وتاريخي يتعلق بالتشيّع وبالشيعة أنفسهم.
فالروابط الثقافية والدينية العميقة بين شيعة إيران وشيعة العراق، وما تحمله من تشابهات مذهبية وتاريخية، تُعدّ في نظر بعض القوى السنية تهديدًا وجوديًا لما يرونه "تفرّدًا طائفيًا" أو "امتيازًا تاريخيًا" ظلوا يتمسكون به ؛ على الرغم من ارتباطه بالاحتلال الخارجي والغرباء والاجانب ... إذ إن هذا التداخل المذهبي يوحّد المجال الشيعي بين الدولتين، ويكشف زيف التوازنات التي طالما جرى تثبيتها قسرًا من خلال السلطة أو القهر السياسي، بما يعمّق شعور الأقلية السنية والفئة الهجينة بالهشاشة والقلق على مستقبل نفوذها في ظل تحولات ديموغرافية وسياسية وتاريخية لا تصبّ في صالحها.
#رياض_سعد (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟