|
الرأسمالية في ظل الهيمنة الأمريكية
الطاهر المعز
الحوار المتمدن-العدد: 8368 - 2025 / 6 / 9 - 10:46
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
من الضّروري أن نمارس على العالم التأثير الكامل لنفوذنا، للأغراض التي نراها مناسبة وباستخدام الوسائل التي نراها مناسبة - هنري لوس، ناشر أمريكي وأحد مؤسِّسِي مجلة تايم - مقال "القرن الأمريكي" 1941 يسمح لنا الدولار المُبالغ في قيمته بشراء السلع الأجنبية بأسعار أرخص، في نهاية المطاف، كما يجلب لنا حجمُ الصادرات الحالي المزيدَ من الين واليورو مقارنةً بما كان عليه لو كان الدولارُ أكثرَ تنافسيةً... مارتن فيلدشتاين -اقتصادي أمريكي ( 1939 – 2019 ) تستطيع الحكومات مصادرة جزء كبير من ثروة مواطنيها سرًا ودون ضَجّة، من خلال التضخم المتواصل ... لا توجد طريقة أكثر دهاءً أو أمانًا لزعزعة أسس المجتمع القائمة من تغيير طبيعة النقود، لأن هذه العملية تُشرك جميع القوى الخفية للقانون الاقتصادي في تدمير الأُسُس التي اعتادها المواطنون، دون إثارة انتباههم، لأنهم لا يستطيعون تشخيصها... جون ماينارد كينز اقتصادي بريطاني (1883-1946) سِجِلّ حافل بالجرائم لا يتجاوز عُمر الولايات المتحدة الأمريكية 240 عامًا، وتمكّنت من الهيمنة على العالم على أنقاض الإمبرياليتَيْن المُنهارَتَيْن البريطانية والفرنسية، وهي الدّولة الوحيدة التي استخدمت السلاح النّوَوِي ( مرّتَيْن يوميْ السادس والتّاسع من آب/أغسطس 1945) وكانت هذه القوة العسكرية ولا تزال إحدى أهمّ أسس الهيمنة الأمريكية على العالم منذ الحرب العالمية الثانية، فقد أدّت الحرب إلى إنهاك الإمبريالية الفرنسية والبريطانية في حين تعزّزت القوة الأمريكية لأن الحرب جرت في أوروبا ( الغربية والشرقية) ومُستعمراتها وفي المحيط الهادئ، وبلغ عدد الجنود الأمريكيين بنهاية الحرب العالمية الثانية 12,5 مليون جندي، من بينهم 7,5 ملايين جندي، خارج الأراضي والمياه الأمريكية، وبينما تم تدمير المدن الأوروبية واليابانية ( وغيرها من مناطق العالم) والثكنات والتجهيزات العسكرية، خرجت الولايات المتحدة أقوى من ذي قبل، وضمّ أسطولها البحري العسكري حوالي 1200 سفينة حربية، وضَمَّ جيشُ الجو الأمريكي قاذفات ضخمة، وأنشأت الولايات المتحدة وطوّرت معاهدَ الأبحاث ومراكزَ الدّراسات لإرساء وتطوير نظريات الهيمنة، باسم الدّيمقراطية أو باسم حقوق الإنسان أو باسم محاربة الدكتاتورية أو الإرهاب وما إلى ذلك، وطورت مؤسسات التّجسس والإندساس والهيمنة الإيديولوجية والثقافية، إلى جانب الهيمنة العسكرية، لتصبح منظومة الهيمنة متكاملة، وشكّلت القوة العسكرية الرّكيزة الأساسية للهيمنة الأمريكية على العالم، وتسببت الولايات المتحدة، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى نهاية القرن العشرين، في إطْلاق أكثر من 80% من الصراعات المسلحة في العالم ( 201 حرب ونزاع مسلح من إجمالي 248 في 153 دولة ومنطقة بين 1945 و 2001)، وأهمها حرب كوريا وفيتنام والعراق ( 1991 و 2003 ) ويوغسلافيا وأفغناستان، واعتمدت الإمبريالية الأمريكية على الهيمنة على البحار والفضاء وعلى أكثر من 800 قاعدة عسكرية منتشرة في ثمانين دولة حول العالم، فضلا عن التواجد العسكري الرّسمي المُعْلَن في 175 دولة من إجمالي 191 دولة أو كيان عضو في منظمة الأمم المتحدة، وشنت الولايات المتحدة خلال العقدَيْن الأوّلَيْن من القرن الواحد والعشرين حروبا أو عمليات عسكرية في أكثر من ثمانين دولة بذريعة "مكافحة الإرهاب" ( العراق وأفغانستان وليبيا وسوريا... ) وقتلت الأسلحة الأمريكية خلال هذه الفترة حوالي مليون شخص ( خصوصًا في العراق وأفغانستان ) وتسببت في لجوء ونزوح حوالي أربعين مليون شخص... التّوسّع الإقتصادي: تتميز الولايات المتحدة الأمريكية باتساع مساحتها وتَنَوُّعِ مناخها وطبيعة أراضيها وتضاريسها، بفعل السيطرة على أراضي وموارد الشعوب الأصلية وإبادتها، وتميزت بثراء باطن الأرض وباتساع سوقها الدّاخلية، وهي عوامل مُساعدة للتطور الإقتصادي ( مهما كانت طبيعة الإقتصاد، رأسمالي أو اشتراكي) وساعدت السوق الأمريكية على توسيع مجال الإستثمار وعلى التّوسّع الخارجي، خصوصًا بعد مؤتمر "بريتن وودز" ( 1944) وهيمنة الدّولار وتصدير فائض رأس المال لاستغلال مناطق أخرى من العالم، بدعم من قوة الدّولار ومن السيطرة على المؤسسات المالية ومنظمة التجارة ومن القوة العسكرية الإستثنائية، وكان قرار إلغاء العبودية فُرصة لتشغيل العبيد في مصانع الشمال بأجور منخفضة وفي ظروف عمل سيئة للغاية لأكثر من قَرْنَيْن، مما ساهم في استكمال وتسريع عملية التصنيع والتّوَسُّع الحَضَرِي و"مَكْنَنَة" الصناعة والفلاحة وهي ظروف مكّنت الولايات المتحدة من أن تصبح قوة رأسمالية رائدة، بنهاية القرن التّاسع عشر، وسيطرت على أمريكا النوبية، ثم على الجُزْء الغربي من كوكب الأرض، وبدأت في التّوسّع شرقًا، منذ الحرب التي أطلقتها ضد الإستعمار الإسباني في كوبا وبنما وأمريكا الجنوبية ثم في المحيط الهادئ وآسيا خصوصًا منذ سنة 1898، وتمكنت الولايات المتحدة من فَرْض تقسيم جديد للمستعمرات، والسيطرة على العديد من المواقع الإستراتيجية والموارد، واكتملت السيطرة بعد الحرب العالمية الثانية لتشمل مناطق أخرى في أوروبا وآسيا ( إيران والخليج العربي...) وتعزّزت هذه السّيطرة بفعل الأساطيل العسكرية العديدة وحاملات الطّائرات والقواعد العسكرية، وبذلك سيطرت الإمبريالية الأمريكية على المَمَرّات التّجارية وعلى المواد الخام والأسواق والتحويلات المالية وعلى قوة المُجَمّع الصناعي العسكري في الدّاخل، وعلى تصميم وإنتاج التكنولوجيا والإنتاج ذي القيمة الزائدة المرتفعة، كالإتصالات والطائرات واستغلال الطاقة... ركّزت الإمبريالية الأمريكية على الهيمنة العسكرية ( الخاصة بها والمُشتركة مع أعضاء حلف شمال الأطلسي، تحت هيمنة أمريكا)، لكنها لم تُهمل الهيمنة الإيديولوجية وإنشاء مختلف المدارس الفكرية ( مدرسة شيكاغو) والهيمنة على مدارس أخرى (مدرسة فرنكفورت ) وتنظيم المؤتمرات ونشر المجلات الفكرية، وكل ذلك تحت إشراف وكالة الإستخبارات الأمريكية ( سي آي إيه ) وخُبراء استراتيجيات الهيمنة... بعد انهيار الإتحاد السوفييتي لم تعد أي دولة قادرة على تحدي الهيمنة الأمريكية، ومع ذلك استغلت الإمبريالية الأمريكية لتوسيع نفوذها المباشر أو من خلال توسيع حلف شمال الأطلسي ( من 16 إلى ثلاثين دولة ) وارتفع الإنفاق العسكري للولايات المتحدة وحلفائها... الهيمنة النّقدية والمالية أسّست الولايات المتحدة نظام بريتون وودز للتعريفات الجمركية والتجارة العامة، الذي استُبدل لاحقًا بمنظمة التجارة العالمية، ودعمته لأنه يخدم مصالحها فهي تسيطر على 17% من حقوق التصويت في صندوق النقد الدولي، وتمتلك أكبر حصة في البنك العالمي الذي يترأسه دائما شخص أمريكي، وللولايات المتحدة حق النقض في بعض المسائل، وسمح هذا النّظام بالهيمنة الأمريكية المُطلقة خصوصًا منذ انتهاء الحرب الباردة وتفكّك الإتحاد السوفييتي، سنة 1991 لتكتمل الهيمنة التي بدأت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وأصبحت تُسمّى هيمنة القُطب الواحد، بفعل قوة الدولار الذي تُقوّم به الأسعار الرئيسية للمعادن والمواد الخام والقروض الدّولية وما إلى ذلك استخدمت الإمبريالية الأمريكية أدوات مختلفة للهيمنة على العالم، من بينها السيطرة العسكرية والقواعد والتّدخّل المباشر في شؤون الدّول وتنظيم الإنقلابات وتمويل الإحتجاجات ضد الأنظمة أو الحكومات التي لا ترضى عنها، فضلا عن الهيمنة عبر الدّولار وعبر المؤسسات المالية الدّولية ( صندوق النقد الدّولي والبنك العالمي ) ومنظمة التجارة العالمية وغيرها... لا توجد دولة قادرة على تحدّي الهيمنة الأمريكية أو موازنة الولايات المتحدة عسكريًا، ولم تتعرض الولايات المتحدة - خلال تاريخها القصير – إلى أي عدوان خارجي ولم تَخُض أي حرب دفاعية على أراضيها وبذلك لم تتعرض للقصف أو التّدمير، وشاركت في الحرب العالمية الأولى بشكل متأخّر ( سنة 1917) وشاركت في الحرب العالمية الثانية ( التي بدأت سنة 1939) سنة 1943، واستفادت بذلك الولايات المتحدة الأمريكية من تدهور قوة بريطانيا وفرنسا في أعقاب الحرب العالمية الثانية لتحل محلهما في العديد من مناطق العالم، وتمكنت الولايات المتحدة من افتكاك الزعامة والسيطرة على "المُعسكر الرأسمالي" عبر مؤسسات بريتن وودز وحلف شمال الأطلسي، وتمثل مؤتمر بريتن وودز في اجتماع أربع وأربعين دولة خلال شهر تموز/يوليو 1944، أي قبل سنة من النهاية الرسمية للحرب، في بريتون وودز في ولاية نيو هامبشاير الأميركية خلال فترة رئاسة فرانكلين د. روزفلت (التي دامت من 1933 إلى 1945) لتأسيس نظام نقدي ومالي دولي لما بعد الحرب، والذي عُرف فيما بعد بنظام بريتن وودز النقدي الذي اعتمد على ربط الدولار الأمريكي بكمية ثابتة من الذهب، قدرها 35 دولارا للأونصة الواحدة من الذّهب، وأصبح الدّولار سلعةً تُباع وتُشترى بسعر ثابت، ويمكن استبداله بالذهب، وتم رَبْط العملات الأخرى من خلال أسعار صرف مستقرة تحت إشراف صندوق النقد الدولي، إلى أن قَرّر الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون الجمهورية (1969-1974) يوم الخامس عشر من آب/أغسطس سنة 1971 فكّ ارتباط الدّولار بالذهب، وبذلك أصبح الدّولار لا يخضع سوى للنظام النقدي الأمريكي، لكن موقعه تعزّز من خلال تقويم سعر المحروقات ( النفط والغاز ) بالدّولار، فضلا عن العديد من المواد الأولية الأخرى، وبذلك استمرت هيمنة مع تغيير شكلها، فالدول التي تستخدم الدولار الأمريكي في احتياطياتها الدولية، أو لتمويل معاملاتها الدولية، تسمح للإمبريالية الأمريكية بتمويل اقتصادها وبالاستدانة والإفراط في الاستهلاك على حساب كافة دول العالم . أما الدّول النفطية ( خصوصًا في الخليج العربي) فقد خفضت الإنتاج سنة 1973 فارتفعت الأسعار ( المُقوّمة حصريا بالدّولار) بنسبة حوالي 400% وأدّى ذلك إلى ارتفاع نسبة التضخم في العالم، ودخول الإقتصاد الرأسمالي في مرحلة ركود بين سنتَيْ 1973 و 1975، وبعد انتعاشة قصيرة عاد الرّكود بين سنتَيْ 1980 و 1982 وعمومًا كانت الفترة التي أعقبت فك ارتباط الدولار بالذهب وتقويم المحروقات بالدّولار ( البترودولار) فترة تضخم وبطالة ونمو اقتصادي بطيء، أي حالة من الركود التضخمي، وجمعت إدارة الرئيس الأمريكي رونالد ريغان الجمهورية (1981-1989) دول مجموعة الخمس ( الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا الغربية وفرنسا واليابان)، بهدف تخفيف الضغط على الدولار الأمريكي وإضعافه بهدف تقليص العجز التجاري الأمريكي المتنامي، وأسفر هذا اللقاء الهام عن توقيع اتفاقيات بلازا النقدية، 22 أيلول/سبتمبر 1985، في فندق بلازا بمدينة نيويورك، حيث تم الإتفاق على خفض قيمة الدولار الأمريكي من خلال تدخل منسَّق من قِبَل الدول في أسواق الصرف الأجنبي، واستمرَّت حتى اتفاقيات اللوفر خلال شهر شباط/فبراير 1987، والتي كانت مُقدّمة لما سُمِّيَ "وفاق واشنطن" أو "إجماع واشنطن" Washington Consensus) ) سنة 1989، وهو مشروع يَسْتَبِقُ انهيار الإتحاد السوفييتي، ( كما استبق مؤتمر بريتن وودز نهاية الحرب العالمية الثانية) لتشديد الخناق على كافة دول العالم من خلال فَرْض "السُّوق الحُرّة" والنموذج النيوليبرالي وإلغاء دور الدّولة في تحديد الأسعار، وفَرْض أدوات مالية وإدارية واقتصادية ( الانضباط المالي وإعادة توجيه الإنفاق العام والإصلاح الضريبي والتحرير المالي واعتماد سعر صرف تنافسي وتحرير التجارة...) بتِعِلّة " تنويع الإقتصاد وحُسن إدارة الموارد الطبيعية"، بإشراف ومراقبة وصندوق النقد الدولي والبنك العالمي... الوضع الحالي – من يتحمّل نتائج القرارات المتضاربة؟ ارتفعت حصة آسيا النامية في الاقتصاد العالمي مع تساوي القوة الشرائية بشكل ثابت من 8% في المائة في عام 1980 إلى 24% سنة 2020 وتُشكّل أسواق الأسهم الآسيوية تشكل نسبة 31% من رسملة السوق العالمية متقدمة على أوروبا التي تشكل نسبة 25% ومباشرة بعد الولايات المتحدة بنسبة 32% ومنذ سنة 2020، تجاوزت الصين ألمانيا لتصبح أكبر مُصَدِّرٍ في العالم، وتعتبر المصارف الصينية من أكبر المصارف العالمية... وأصبحت الصين أكبر مُستهلك للأسمنت وأكبر سوق للسيارات في العالم، ومنذ هدّد الرئيس باراك أوباما ووزيرته للخارجية هيلاري كلينتون بمحاصرة المَمَرّات التجارية المائية للصين، بدأت الصين إنجاز "طريق الحرير الجديدة" أو "الحزام والطّريق" مع عشرات البلدان، ولا تدعو الصين لنظام بديل للرأسمالية وإنما إلى تقاسم النّفوذ مع الولايات المتحدة التي تريد الإستمرار في هيمنة القُطب الرأسمالي الواحد بزعامتها بدل "عالم متعدد الأقطاب" وفق الصين وروسيا وبعض الدّول الأعضاء في مجموعة بريكس. بلغ معدل النمو الاقتصادي الأمريكي 2,8% سنة 2024، قبل تنصيب الرئيس دونالد ترامب يوم 20 كانون الثاني/يناير 2025، وبلغ معدل البطالة 4% ومعدل التضخم مستقراً و"تحت السيطرة" بنحو 2,9% على أساس سنوي، أي إن الإقتصاد الأمريكي كان الأكثر ازدهاراً بين معظم الاقتصادات الغربية، وقد تُسبّب قرارات دونالد ترامب ( الرسوم الجمركية أحادية الجانب والتهديدات والإنذارات والإهانات...) اضطرابًا في حركة التجارة الدّولية والإقتصاد العالمي وبالتالي في الاقتصاد الأميركي، لأن رأس المال يَنْفُرُ من حالة عدم اليقين وتبحث الشركات عن الإستقرار لاتخاذ قراراتها المتعلقة بالإستثمار والتوظيف، فيما يُريد المواطنون ( المُستهلكون) شراء السلع والخدمات بأسعار تُناسب دَخْلَهُم، غير إن الرسوم الجمركية على الواردات تَرْفَعُ التكاليف والأسعار المحلية في الولايات المتحدة، فيما يريد دونالد ترامب تحميل الدّول الأخرى و"الأجانب" ضرائب الاستيراد التي يدفعها المستوردون الأمريكيون، كما يريد الحفاظ على مكانة الدولار كاحتياطي دولي ( سبق له تهديد دول مجموعة بريكس التي تريد خفض حجم تعاملها بالدّولار)، مع خفض قيمته من أجل خفض عجز الميزان التجاري الأمريكي، مما يُؤَدِّي إلى خفض قيمة سندات الخزانة الأمريكية التي يمتلكها الدّائنون الأجانب، وهروب رأس المال من أمريكا وانخفاض قيمة الدّولار، وتؤدّي جميع هذه الإحتمالات والمخاطر إلى ارتفاع نسبة التّضخّم، وتتضمن خطط ترامب العديد من التناقضات المماثلة، والهدف هو زيادة إيرادات الخزينة بواسطة الرسوم الجمركية ( اعتقادًا من دونالد ترامب إن الشركات الأجنبية لا يمكنها أن تستغني عن السوق الأمريكية الواسعة)، مع تخفيض الضريبة على الثروات الضّخمة وأرباح الشّركات، لكن قد "تَجْرِي الرِّياح بما تشتهي سُفن دونالد ترامب"، لأن الدّول الأخرى ردّت بفرض رسوم جمركية على الصادرات الأمريكية، مما قد يؤدّي إلى اضطرابات في سير الإقتصاد العالمي وحركة التجارة الدّولية، وفي مقدّمتها الأضرار التي قد تلحق بالصادرات الأمريكية، وقد تكون الولايات المتحدة أكثر الدّول تضرُّرًا وفق تقرير حديث لمنظمة التعاون الإقتصادي والتنمية. لا تحظى سياسة دونالد ترامب بإجماع وسط صفوف المحافظين، وتمت ترجمة ذلك بغطاء قانوني في شكل تساؤالات حول من يحق له شن حرب تجارية على العالم وفَرْضَ رسوم جمركية على الولايات المتحدة، وقضت محكمة اتحادية مؤخرًا بأن الرسوم الجمركية التي فرضها دونالد ترامب، دون استشارة مجلس النواب، استنادًا إلى قانون طوارئ اتحادي غامض، تُمثل إساءة استخدام للسلطة ومخالفة للدستور الأمريكي، مما أدّى إلى اتخاذ محكمة التجارة الدولية الأمريكية قرارا يوم 28 أيار/مايو 2025 يقضي بتجميد معظم الرسوم الجمركية المفروضة بموجب مرسوم رئاسي، مُدّعيةً أن الرئيس دونالد ترامب تجاوز سلطته الدستورية، ومنعت محكمة ثانية – يوم 29 أيار/مايو 2025، إدارة ترامب من فرض رسوم جمركية على السلع المستوردة بموجب ما يسمى بالأوامر التنفيذية الصادرة بمناسبة "يوم التحرير" في الثاني من نيسان/ابريل 2025، ثم أعادت محكمة الاستئناف الإتحادية فرض رسوم ترامب مؤقتًا، ولا تزال الخلافات الدّاخلية والفوضى مستمرة بغطاء قانوني، وكذلك الإضطراب الإقتصادي والتجاري على مستوى دولي... من اقتصاد الإنتاج إلى المُضاربة تُمثّل سوق المال والأسهم الأمريكية "وول ستريت" قلب النظام الرأسمالي العالمي، وتعكس حركة الاقتصاد الرأسمالي المُعاصر، فانطلقت منها أزمة 1929، وهي تمثل حاليا القوة الأمريكية التي تصبو إلى إدارة الإقتصاد العالمي كما يُدير الرأسمالي ( أو مجلس الإدارة) شركة خاصة أو مصرفًا خاصًّا، والواقع إن تغييرات أسعار الفائدة وارتفاع أو انخفاض قيمة الأسهم والسّندات ليست عملية نقدية أو تقنية بحْتَة، بل هي انعكاس لعلاقات الإنتاج القائمة، وما تتضمّنه من عملية التراكم وسعْي لاستقرار النظام الرأسمالي من خلال تقييد الاستهلاك وضبط التضخم، فقرارات خفض الفائدة تهدف استمرار الإستثمار الرأسمالي ولا تُشكل استجابةً لاحتياجات الناس، بل قد تُؤَدِّي قرارات الحكومات أو المصارف المركزية وغيرها من المُؤسّسات المالية ( وما وراءها من مؤسّسات سياسية) إلى تدمير حياة الملايين من الشغيلة والموظفين، فهي قرارات طبقية، تصدرها الحكومات، وما هذه الحكومات سوى واجهة للمؤسسات المالية لنهب جهد الكادحين وثروات الشّعوب. كما إن الفائدة ليست مجرد أداة نقدية، بل انعكاس لتوازن القوى بين رأس المال والعمل، أو ما يمكن التعبير عنه بلغة ماركسية " البُنْيَة الطبقية للصراع الاجتماعي" بين من يملك ومن لا يملك وسائل الإنتاج، فالتّضخّم كما الإنكماش يؤدّيان إلى انخفاض القيمة الحقيقية للدّخل والأجور، بينما تتخذ الحكومات قرار خفض الضرائب على رأس المال وأرباح الشركات لتُصبح الأزمة فُرصة لزيادة الأرباح، فيما تتكفل وسائل الإعلام والحكومات بإيهام الناس بالمراهنة على "انتعاش" قريب، تلقائي دون صراع أو نضال ضدّ ببنية المنظومة الرّأسمالية نفسها التي تخلق أدوات تكريس الهيمنة والأزمات، بينما يرزح الكادحون والفقراء والشّعوب تحت عبء الدّيُون بفوائد مرتفعة والبطالة وهشاشة عقود العمل... كشف انتخاب دونالد ترامب للمرة الثانية تحولات داخل المنظومة الرأسمالية وأصبح الرئيس الأمريكي مُحاطًا بنخبة الأوليغارشية التكنولوجية الأميركية، جيف بيزوس ومارك زوكربيرغ وإيلون ماسك وغيرهم من الوجوه الجديدة المُجسّدة للشكل الحالي من الرأسمالية المهيمنة والتي هيمنت بدورها على السلطة القضائية التي ازداد نفوذها بتواطؤ من الشركات الكبرى، فيما تراجعت سلطة الدّولة – ظاهريا على الأقل – باستثناء تعزيز مهمتها القَمْعِيّة وتراجع دوْر نقابات الأُجَراء بفعل تخريب قوانين العمل والحماية الإجتماعية والتّقاعد وأصبحت الدّولة غير مَعْنِيّة بإعادة توزيع الثروة والدّخل، وتُشكل مجمل هذه العوامل تحولاً داخل النظام الرأسمالي ذاته، فشركات التكنولوجيا تتكفل بجمع البيانات عن كافة المواطنين من خلال إنشاء منصّات تحتاج إلى استثمارات ضخمة قبل أن تحقق أرباحاً، وتُساعدها الحكومة الأمريكية من خلال الحوافز والتخفيضات أو الإعفاء الضريبي، ولكنها لا تُنتج ما يحتاجه المواطنون من الضروريات كالغذاء والسكن والملابس والأدوية ووسائل النقل العمومي وما إلى ذلك، بل هي " رأسمالية المراقبة" والتّجسّس وجمع المعلومات ( بدل رأسمالية الإنتاج) فيما تتم عملية الإنتاج في الصّين وفي بلدان "الأطراف" مثل فيتنام وبنغلادش والبرازيل وغيرها... خاتمة بدأت الهيمنة الأمريكية بالسيطرة على القارة الأمريكية، بالتوسّع غربا حتى المحيط الأطلسي، وجنوبا باحتلال 55% من أراضي المكسيك، كخطوة نحو الهيمنة على العالم التي تعزّزت منذ الحرب العالمية الثانية، رغم المنافسة السوفييتية، واستغلت الولايات المتحدة قُوّتها العسكرية والإستخباراتية، والمؤسسات المالية الدّولية ( الناجمة عن مؤتمر بريتن وودز) وقوة الدّولار للهيمنة المالية والعسكرية والدّبلوماسية لتصبح – بعد انهيار الإتحاد السوفييتي – القوة العظمى الوحيدة، واستمرت هذه الهيمنة التي تخَلَّلَتْها عدّة أزمات حتى نهاية القرن العشرين، قبل أن يبدأ الانهيار البطيء، خصوصًا مع صعود الصين لتصبح منافسًا طموحًا وجِدِّيًّا، كما تحولت روسيا من دولة خاضعة (خلال فترة رئاسة بوريس يلتسين) إلى دولة مُستقلّة ترفض هيمنة الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، ومع ارتفاع عدد الدّول التي لا تُصوت بصفة آلية مع الولايات المتحدة في الأمم المتحدة، ومع ارتفاع عدد الدّول التي تدعو إلى عالم رأسمالي "متعدّد الأقطاب"، بدل القطب الواحد الذي تُهيمن عليه الولايات المتحدة التي لا تزال أعظم قوة، وقد يدوم انحدارها البطيء عقودًا قبل أن تنهار بفعل فقدان احتكار التكنولوجيا والنفوذ العسكري والإنخفاض البطيء لهيمنة الدّولار على التجارة والتحويلات المالية الدّولية، وقد تُساعد سياسة الغطرسة الأمريكية المُفْرِطة التي تنتهجها إدارة دونالد ترامب في هذا الإنهيار من خلال تدهور العلاقات مع الجيران ( كندا والمكسيك) ومع دول أمريكا الجنوبية ودول آسيا والمحيط الهادئ وحتى مع دول أوروبا، ركيزة حلف شمال الأطلسي وحيث القواعد العسكرية الضّخمة، ومن خلال الإجراءات الحمائية وفرض رُسُوم جمركية مرتفعة على الواردات، ومن خلال التقدّم السريع للصين واستثمارها في مجالات التكنولوجيا والبحث العلمي والإبتكار، وقد يُؤَدِّي تسليح الإقتصاد والمبالغة في استخدام الحَظْر والحصار والعقوبات والقرارات أحادية الجانب، إلى تراجع المبادلات التجارية والتّدفقات المالية، إلى تراجع النفوذ الأمريكي وإلى انهيار قواعد النظام الدولي الذي فَرَضه هذا النفوذ، لكن لا يجب التسرّع ودفن الولايات المتحدة قبل وفاتها، لأنها لا تزال مهيمنة عسكريًّا وماليا – من خلال الدّولار- وتهيمن على منظومة الإتصالات والتكنولوجيا... أكد سكوت بيسنت – وزير الخزانة الأمريكي - خلال اجتماعات الربيع للبنك العالمي وصندوق النقد الدّولي إن تمويل ( قُرُوض) مؤسسات بريتن وودز لمشاريع تحسين البيئة ومكافحة التلوث يُعرقل البرامج الأساسية مثل تعميم اقتصاد السّوق ( مُقرّرات "وفاق واشنطن" 1989 ) وخدمة القطاع الخاص، وهي البرامج التي تفرضها الولايات المتحدة في المُؤسّسَتَيْن، خصوصًا منذ عقد الثمانينيات من القرن العشرين، وتجدر الإشارة إن الولايات المتحدة تنفرد بحق الفيتو الذي يُخوّلها توجيه برامج ومُخطّطات المُؤسَّسَتَيْن ( الصندوق والبنك) ببلوغ حصتها من الأصوات 16,5% في صندوق النقد الدّولي و 15,8% في البنك العالمي - أي أكثر من الصين واليابان وبريطانيا وفرنسا مجتمعة- وعرقلة القرارات الهامة التي تتطلب الحصول على 85% من حصة التصويت، ولذا فإن النظام الحالي غير قابل للإصلاح، وتتأكّد ضرورة تغيير أُسُسِهِ وأدواته وأهدافه وطُرُق تسْييرِه... لاحظ جَدُّنا عبد الرّحمان بن خلدون إن الأمم تبلغ درجة من القوة تنحدر بعدها لتبرز أُمم أخرى تُهيمن على العالم فترة من الزمن قد تطول أو تقصر، لكن لا بُدّ آيلة إلى الإنحدار... وَجَبَ الْحَذَرُ من التّأويل الحَرْفِي لهذه الملاحظة فلا تنهار الدّولة ( أو جهاز الدّولة) أو الطّبقة أو الإئتلاف الحاكم في أي بلد من تلقاء نفسه أو بفعل الشيخوخة والمرض، بل بالنّضال لكي يتم استبدل نظام الإستغلال والَإضطهاد بنظام العدالة والمُساواة، ولا ينهار أي نظام ( أو سُلْطة أو حكومة) قبل استخدام وسائل القمع التي بحَوْزَتِهِ، ولذا فإن النّضال يتطلب مقاومةً وصُمودًا وتحمُّلاً للمَشَاقّ قبل أن ينتصر الكادحون والمُنْتِجُون والفُقراء والشعوب المُضْطَهَدَة والواقعة تحت الإستعمار على خصم قوي وعنيد متشبّث بمصالحه...
#الطاهر_المعز (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مُتابعات - العدد السّابع والعشرون بعد المائة بتاريخ السابع م
...
-
جرائم المُشاركة في إبادة الشعب الفلسطيني – فرنسا نموذجًا
-
إندونيسيا – قوة مهدورة
-
ألمانيا والكيان الصهيوني، مشروع استعماري إبادِي مُشترك
-
جنوب إفريقيا في مواجهة الكيان الصهيوني والولايات المتحدة وأح
...
-
اقتصاد القطاع الرياضي، من خلال نماذج أديداس و بوما
-
مُتابعات - العدد السّادس والعشرون بعد المائة بتاريخ الواحد و
...
-
من فلسطين إلى سكتلاند – تقاليد نضالية
-
الحركة العُمّالية في فيتنام
-
شركة تشيكيتا – نموذج للرأسمالية المتوحشة العابرة للقارات
-
الحرب التكنولوجية - دور شركات التكنولوجيا الأمريكية في إبادة
...
-
اقتصاد اليابان في ظل اضطراب الإقتصاد العالمي
-
دونالد ترامب يتفقّدُ وُكَلَاءَهُ في الخليج
-
مُتابعات - العدد الخامس والعشرون بعد المائة بتاريخ الرّابع و
...
-
الإتحاد الأوروبي -يكتشف تجاوزات- الكيان الصهيوني
-
غزة - نماذج من التواطؤ مع الكيان الصهيوني
-
الإتحاد الأوروبي - -فايزرغيت-
-
مُتابعات - العدد الرّابع والعشرون بعد المائة بتاريخ السّابع
...
-
في ذكرى النّكبة 1948 – 2025
-
الإمبريالية وحقوق الإنسان
المزيد.....
-
-مادلين-.. آخر تطورات سفينة مساعدات غزة بعد اعتراضها من قبل
...
-
إعلان حالة التأهب الجوي في أربع مناطق بأوكرانيا
-
لقاء أميركي - صيني رفيع في لندن: هدنة الحرب التجارية على طاو
...
-
مقتل عشرات الفلسطينيين في غزة خلال 24 ساعة.. واتصال مرتقب بي
...
-
كاليفورنيا: تصاعد التوتر مع اندلاع اضطرابات بسبب مداهمات وكا
...
-
الرجال في قبضة الخوف: حين يصبح البيت فرعاً لشرطة طالبان
-
وثيقة برلمانية: إيطاليا أنهت عقدا مع شركة إسرائيلية لبرامج ا
...
-
مزيد من الضحايا والجرحى الفلسطينيين برصاص إسرائيلي
-
قافلة مساعدات تونسية جزائرية إلى غزة
-
طهران: لا تفاوض على تخصيب اليورانيوم
المزيد.....
-
الازدواجية والإغتراب الذاتي أزمة الهوية السياسية عند المهاجر
...
/ عبدو اللهبي
-
في فوضى العالم، ما اليقينيات، وما الشكوك
/ عبد الرحمان النوضة
-
الشباب في سوريا.. حين تنعدم الحلول
/ رسلان جادالله عامر
-
أرض النفاق الكتاب الثاني من ثلاثية ورقات من دفاتر ناظم العرب
...
/ بشير الحامدي
-
الحرب الأهليةحرب على الدولة
/ محمد علي مقلد
-
خشب الجميز :مؤامرة الإمبريالية لتدمير سورية
/ احمد صالح سلوم
-
دونالد ترامب - النص الكامل
/ جيلاني الهمامي
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 3/4
/ عبد الرحمان النوضة
-
فهم حضارة العالم المعاصر
/ د. لبيب سلطان
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 1/3
/ عبد الرحمان النوضة
المزيد.....
|