|
هندسة الإنكار (داخل الكتيش، خارج الأثر)
محمد عبد القادر الفار
كاتب في الفضاء والمعنى
(Mohammad Abdel Qader Alfar)
الحوار المتمدن-العدد: 8367 - 2025 / 6 / 8 - 00:23
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
كان الشارع يعج بالفوضى. سيارات، باعة، موسيقى ما. كل شيء فيه يزعجك ويجذبك في آن معا. وبينما كنت أعبر الرصيف بخطى سريعة، لفتني منظر خلف واجهة زجاجية: فضاء أبيض، ضوء ناعم، وهدوء كثيف. توقفت دون قصد. شيء في التكوين ذكرني فورا بلوحة Nighthawks لهوبر. حيث تلك العزلة الأنيقة والنور المصقول فوق الوجوه والطاولة التي لا تتسع للضجيج. وشعرت برغبة غريبة في أن أدخل.
لكن ما إن فتحت الباب حتى تبين لي أنني لا أدخل اللوحة، بل نسختها الرديئة. وكأنها نسخة مطبوعة على سطح بلا روح. نفس الإضاءة، لكن من دون توتر. نفس الترتيب لكن بلا لحظة. كان المكان أشبه بما يرى في فيلم Playtime لجاك تاتي. فراغ مصمم ليبهر لا ليشغَل. صمت معلّب يحاول أن يدهشك بلا جدوى براحته المفتعلة، أو بجوه المعطر بذلك النوع من الروائح التي لا تريد أن تُشم بقدر ما تريد أن تُلاحظ. رائحة تشبه ال fragrance diffusers التي تملأ المكان تلقائيا كما في محلات الlifestyle branding.
حتى اللوحة على الجدار، بألوانها التجريدية الصاخبة بدت كما لو أنها تقليد لأسلوب Christopher Wool، لكن من دون حدة السؤال الذي يحمله فنه. فبينما يفرغ وول اللوحة عمدا من الأثر البشري ليحرض على الشك. هنا يبدو التفريغ كتمرين تصميمي مفرغ من التوتر. كأن اللغة البصرية استعيرت دون وعيها. والنتيجة: أثر بلا سؤال، وزخرفة بلا قلق. كأنها صممت لتُعلّق لا لتُرى. أما الداخل، فصمت بارد ينتظر أن يدهش أحدا.
ومن السقف انبعثت موسيقى بيانو ناعمة، مألوفة على نحو غامض، وكأنها تعود إليك من إعلان قديم أو لحظة عاطفية مصنوعة بعناية على يوتيوب. ربما كانت Ballade pour Adeline أو شيئا يشبهها في ملمسها الانسيابي الخالي من الزوايا، من ذلك النمط الذي تحول مع الوقت إلى Muzak، لا يُسمع بل يُمرّر، كعطر يُرش على الجو لا على الجسد. وأنا لا أنكر جمالها، فثمة شيء صادق في لحنها حين يسمع في عزلة. ولكنها مقطوعة تذوب كالسكر في الشاي، وتكاد تمحى من كثرة ما أعيد استخدامها في خلفيات الإعلانات العاطفية، ولكثرة ما كانت تبث كما يبث العطر في المحلات التجارية أي لتصميم الجو، لا للإنصات. جمال يهدف إلى تزيين الجو لا إلى ملئه. فهي تخلق إحساسا جاهزا، لطيفا، لا يربك أحدا. ستارة صوتية نسجت بإتقان لتعليق الإدراك لا لتحفيزه.
الفراغ واسع لكنه مخنوق. سقف مرتفع لكن النَفَس لا يرتفع معه. كل شيء ممهد للتصوير. الأرائك بلون البيج الموحد. النباتات الصناعية متقنة جدا والرخام يلمع كأنه يعترض على أي خطوة. أما الزوار، فكانوا يتحركون بنعومة مفرطة، ويتحدثون بنبرات مدروسة كما لو أنهم جزء من تصميم داخلي محكم. لا أحد يقاطع. لا أحد يضحك فجأة. كأنهم يؤدون دور المهتم بالفن بأزيائهم المنسقة، بلحاهم الخفيفة ونظاراتهم السميكة وقبعاتهم الواسعة. كأن حضورهم ذاته استعارة لذائقة لم يختبروها حقا.
وحين سئل أحدهم، وكان يشبه الرسام في رسم كاريكاتوري: ما الفرق بين الفن والجيد والسيء؟ أجاب بنبرة واثقة مستخدما تعبيرا شائعا: Some people know it when they see it، وهي جملة تبدو حاسمة لكنها مراوغة. كأن القول بأن البعض يعرفونه حين يرونه اعتراف صامت بأن الفن السيء أيضا لا يحتاج إلى دليل. فهو يكشف نفسه بنفسه. شخص آخر أومأ برأسه موافقا وهو يحرك ملعقته في فنجان خال، كمن يجيد أداء الدور حتى نهايته. كأننا في مشهد من فيلم The Square لروبن أوستلوند، حيث يتحول الفن من مفهوم إلى طقس أجوف، والجمهور من متلق إلى مؤد لدور حفظه جيدا وهو ألا يربِك ولا يخطئ ولا يفكر. لا ظل يخطئ مكانه. لا صوت يرتجف. حتى الضوء بدا كأنه يراقب بدلا من أن يضيء. وكأن الجمال هنا أفرغ من نواياه وتحول إلى خدعة: نسخة عن نسخة عن نسخة عن حلم عن ذوق لم يكن يوما حيا، بل صنع ليمثل الحياة فقط!
في تلك اللحظة، تذكرت بروفيسور التصميم المصري الألماني، الرجل الموسوعي، خفيف الظل، ذا الذائقة الحادة. كنا قد التقينا لفترة قصيرة قبل أكثر من سنة، لكنها كانت كافية ليعرّفني على مفهوم لم أكن أملك له اسما: الكيتش Kitsch، لا كتعريف جمالي، بل كمنظور نقدي يرى ما يخفيه السطح. فالكيتش عنده لم يكن ذوقا رديئا بل بنية إنكار. أسلوب لتغليف الواقع بطلاء شعوري جاهز. وما يقدم لنا على أنه جميل لا يكون جميلا لأنه حقيقي بل لأنه لا يزعج، ولا يترك أي ندبة، ولا يطلب أي تأمل!
المصطلح نفسه ظهر لأول مرة في ميونيخ أواخر القرن التاسع عشر، كمزحة لغوية بين التجار والنقاد، يصفون به الأعمال التي تحاكي الفن الجاد دون عمق. تلك التي تصنع لتباع أولا وأخيرا. ومنذ ذلك الحين صار الكيتش يستخدم لا للسخرية من الذوق الرديء فقط بل لكشف المسافة بين ما يعرض وما يعاش.
هو لم يكن مجرد بروفيسور في التصميم، بل فنان بدت ملاحظاته وكأنها تستخرج من الورشة لا من الكتب فقط. مارس الفن كما تمارس الحرفة العميقة: بمزيج نادر من البصر والبصيرة. لم تكن خلفيته أكاديمية فقط، بل موزعة على جغرافيا كاملة من المعارض والجامعات، من القاهرة إلى عمان ومن ألمانيا إلى البحرين. وعمله في الغرافيك والتيبوغرافيا لم يكن محصورا بالخطوط والألوان بل كان يمس الحرف كما يمس الشعر. وكان يرى في التيبوغرافيا فنا حيا، لا مجرد ترتيب للحروف، بل كتابة تحمل أثر من خطها كما تحمل المخطوطة أثر ناسخها.
وقبل لقائي بذلك الإنسان، لم أكن أعرف الكثير عن محاولات تعريب الخطوط اللاتينية أو مساعي توليد نسخ عربية منها تحاكي شكلها العام لا روحها. وخلال جلوسي معه على مدى أشهر أطلعني على كثير من ذلك وأفهمني حجم التناقض الكامن في تلك المحاولات. فهو لم يكن ينظر إلى الحرف بوصفه وحدة تصميمية، بل كسجل ثقافي، يحمل في انحناءاته آثار العصور التي عبرها. ولم يكن يؤمن بأن للغة جسدا فقط بل بأن هذا الجسد لا يمكن استعارته دون أن تنتزع روحه. وكان يستعيد في حديثه أسماء قديمة كابن مقلة وياقوت المستعصمي، لا كمرجعيات زخرفية، بل كمفكرين بصريين. يرى في تعقيد ابن مقلة للخط لحظة عقلانية خالصة في تاريخ التصميم، وفي تناسق الحروف تعبيرا عن نظام كوني، لا مجرد مهارة فنية.
وكان البروفيسور يبدي حذرا من نزوع بعض أشكال التيبوغرافيا اللاتينية المعاصرة إلى التكرار الميكانيكي الذي يفرغ الحرف من توتره الداخلي. والمشكلة بالنسبة له لم تكن في الاستعارة بل في الاستسهال، وحين تصبح الهوية مجرد قناع بصري لا جذور له. ولذلك كان ينتقد محاولات تطويع الحرف العربي ليتماشى مع النظم اللاتينية، خاصة حين يطلب منه أن يشبه نفسه في قالب لاتيني. وكان يرفض أن يعامل الحرف كظل لحرف آخر، أو أن يستنسخ وفق قواعد لم تولد في بيته.
كأنه كان يرى في تلك الممارسات تمهيدا لنوع من الكيتش البصري. ليس كيتش الزخرفة المفرطة، بل كيتش الاستعارة السطحية. حين يبدو كل شيء أنيقا، لكن بلا سؤال. وحين يصبح الشكل متقنا إلى درجة يختفي معها المعنى.
كان البروفيسور إذا تكلم عن التصميم فتح حوله مجالا يتقاطع فيه الإدراك البصري مع السيميولوجيا، والذائقة مع الفكرة.
كان أنيقا من دون تكلف، خفيف الظل من غير تصنع، ومتواضعا كأنه لا يعرف كم هو لامع فعلا. ورغم أنني أدركت يومها كم كان مختلفا، ما زلت أشعر حتى الآن أنني لم أحسن الإصغاء إليه كما كان يستحق. كما لو أن الإنسان لا يدرك بعض اللقاءات إلا حين يصبح بعد فواتها أكثر اتساعا.
ثمة أشياء لا تتكرر، لأنها رحلت قبل أن ننتبه كم كانت ثمينة!
ومنذ ذلك الوقت، صار كل شيء بصري يحتمل قراءة أخرى بالنسبة إلي. وكأنني بدأت أنتبه إلى ذلك النوع من الجمال الذي لا يبقي في داخلي أثرا. لا يتركني حائرا أو منجذبا، بل فقط مرتاحا! مدركا أن الجمال حين يفقد توتره لا يعود جمالا بالمعنى الفعلي بل انعكاسا لما نود أن نشعر به، لا لما نحن عليه فعلا. كما لو أن الفن، كما وصفه هيغل، لم يعد يكشف الحقيقة في مظهرها الحسي، بل غلفها بما يرضي بدل أن يقلق. وهذا الفرق بين الجمال الذي يرضي والجمال الذي يقلق هو تحديدا ما أصبحت أكثر انتباها له.
بدأت ألاحظ أن بعض الصور، كما قال رولاند بارت، تقدم نفسها كبنية مألوفة، يمكن فهمها وتحليلها وتصنيفها. وهذا ما يسميه ب studium. أي ذلك الجانب الواضح المتعلق بالمعرفة. لكن أحيانا تخترقنا الصورة بشيء آخر، شيء شخصي، غامض، لا يمكن شرحه ولا توقعه، كجرح صغير يفتح فينا شيئا لا نعرفه. وهذا ما سماه بارت punctum، أي النقطة التي تثقبنا دون مقدمات، وتترك فينا أثرا لا يزول. والفن الذي يخلو من ال punctum ويقتصر على ال studium هو ناقص بل مشوه بلا شك. أو كما في الموسيقى المصممة لتكون محببة، لا لتكون مؤثرة، حيث الهارمونية منمقة إلى حد تلاشي النغمة الحقيقية. وكأنها تقول: ارتح، لا تفكر. هذا جميل لأنك تعرفه سلفا!
لكن ماذا يحدث حين يصبح الجمال مسطحا؟ وحين تفقد اللغة البصرية عمقها التأويلي؟ أو حين لا تعود التفاصيل تفاجئ بل ترضي فقط؟ كمشهد صمم ليرى بلقطة واحدة perfectly framed بحيث لا يترك للعين ما تفتش عنه؟ وحيث لا يعود التصميم حقلا للاحتمال، بل وسيلة لضبط العاطفة كما تضبط الإضاءة؟
في ثلاثينيات القرن العشرين كتب ثيودور أدورنو عن الكيتش Kitsch بوصفه فنا بلا جرح، فنا لا يوقظ، بل يطمئن، لا يزعج المتلقي ولا يحرضه، بل يمنحه كل شيء: المعنى، العاطفة، النهاية، وحتى نشوة مبرمجة، دون أن يطلب منه شيئا في المقابل، لا مجهودا تأويليا ولا صبرا على الغموض. وبالنسبة لأدورنو، الكيتش ليس جمالا زائفا فحسب، بل هو جمال ينتج تحت شروط السوق، لا تحت ضغط الرغبة أو التوتر أو القلق. وهو نتاج لما سماه صناعة الثقافة، حيث تعاد صياغة الأحاسيس على نحو ممنهج ليرضى بها جمهور يعامل ككيان مستهلك لا كفاعل متأمل. الكيتش بهذا المعنى يواسي الوعي بدل أن يوسعه، وهو نتاج مجتمع فقد قدرته على التأمل، ورضي بالاستهلاك بدل الانشغال بما لا يقال.
ولذلك لا يعتبر الكيتش بالنسبة لأدورنو مجرد فشل جمال aesthetic failure بل أخطر من ذلك: إنه نجاح مزيف لجماليات جردت من بعدها النقدي، ومن قدرتها على الانفصال عن النسق، ومن قابليتها للانقطاع والرفض والغموض، وما يسميه هو النفي الجمالي aesthetic negativity، ذلك الشرط الضروري لأي تجربة فنية أصيلة. فالكيتش إذا هو الوجه اللطيف للانصياع لأنه لا يفتح الوعي على الصيرورة بل يثبته على صورة مريحة لعالم بلا تناقضات.
وبعد أدورنو بسنوات كتب كليمنت غرينبرغ مقاله الصادم Avant Garde and Kitsch مفرقا فيه بين الفن الطليعي، الذي يخترع لغته الخاصة على حساب وضوحه أحيانا، وبين الكيتش، الذي يعاد تدويره كأثر عاطفي مألوف، كاستعادة سطحية لذكريات شعورية لا تزال قابلة للبيع.
الكيتش حسب غرينبرغ هو الفن الذي يسقط إلى الخلف، ويعاد إنتاجه في المنطقة التي تكون فيها الراحة أهم من المعنى، والانفعال أهم من التأويل.
وقد أعاد جيلو دورفيلس Gillo Dorfles لاحقا النظر في هذه العلاقة، مقترحا أن الكيتش ليس مجرد ذوق منخفض، بل لغة تمثيلية بلا ضرورة. صورة بلا مرجعية، وشكل بلا محتوى. لغة تتكرر حتى تفقد معناها. كأن الجمال قطع عن قلقه وصار يصنع كما تصنع الإعلانات، بتقنية عالية، ولا مقاومة تذكر.
ذلك الفارق بين الاكتمال المريح والتوتر المربك، وبين الجمال الذي يغلق المعنى والجمال الذي يفتحه، يمكن تلمسه بوضوح في إحدى لقطات Barry London لستانلي كوبريك، حين تدخل الكاميرا إلى غرفة مضاءة بشموع حقيقية، جدرانها مكسوة بورق حائط مزخرف، وستائرها تنسدل ببطء كأن الزمن نفسه يتثاءب معها. كل تفصيل في المشهد مرسوم بإتقان، لكن شيئا داخلك يهمس بأن كل ذلك مجرد واجهة.
وهنا يكمن ذكاء كوبريك، لا لأنه يجمل، بل لأنه يكشف فخ الجمال المغلق. إنه لا يصنع كيتشا بل يقدمه كقناع. كجمال مشكوك فيه، لأنه مكتمل أكثر مما ينبغي، ولا يترك للمعنى سوى الهامش. فليست المشكلة في وفرة الجمال بل في انعدام الخدش. وفي غياب تلك المسافة بين الشكل والمعنى تقع تلك الفجوة الدلالية التي تمنح العمل فاعليته، لا اكتماله. فجوة لا تُملأ بالرضا، بل بالارتباك. وهكذا لا يسحرنا كوبريك، بل يعرينا أمام غواية الجمال المصنوع، حيث لا يعود الضوء نفسه دفئا بل قناعا، ولا تعود الزخرفة طمأنينة، بل صمتا جماليا يخفي العطب.
والمفارقة هي أن ذلك المشهد قد صور بالكامل بعدسة طورت أصلا لوكالة ناسا كي تلتقط ضوء الشموع من أي إضاءة إضافية. وكأن التقنية هنا لا تكشف العالم بل تصقله، حتى ينسى أن فيه خللا. وهناك فقط، في ذلك الحيز المعقم من التوتر، يقيم الكيتش كجمال بلا أثر. فهو جمال لا يجرح ولا يربك، بل يحكم إغلاقه كصندوق مجوهرات لا يفتح.
وبالعودة إلى جذر الكيتش كمفهوم وكمصطلح، فهو قد نشأ أصلا كبنية إنتاج جمالي بدأت تتبلور مع صعود الذوق الجماهيري، حين لم يعد الجمال يُنتجَ من الداخل بل يصنّع للعرض، للاستعمال، للتداول.
فقد ظهر مصطلح الكيتش أصلا وسط تحولات جذرية في الذوق العام، وكان يشار به إلى الأعمال الفنية التي تنتج بسرعة وتباع بثمن بخس لتلبية حاجة السوق، لا بحثا عن تعبير أصيل. والبرجوازية الصاعدة، التائقة لإثبات مكانتها، لم تكن تملك بعد الحاسة الجمالية التي كانت ميزة الأرستقراطية أو النخبة المثقفة، لكنها امتلكت القدرة على الشراء. هكذا ظهرت موجة من المنتجات شبه الفنية التي تحاكي الكلاسيكيات، لا حبا فيها، بل استخداما لها، مثل تماثيل جصية تقلد مايكل أنجلو ولوحات مزخرفة تملأ الصالونات ووسائد مزركشة تصنع لترى لا لتفهَم أو تدهش.
وقد مثل ريتشارد فاغنر، أحد أعمد الثقافة الألمانية، مفارقة لافتة في هذا السياق. فبينما سعى فاغنر إلى بناء الأوبرا الشاملة أو العمل الفني الشامل (Gesamtkunstwerk) كذروة للتكامل الحسي والروحي، تحول إرثه لاحقا، بعزله عن عمقه الدرامي، إلى قوالب أداء تحاكى خارج سياقها، وتستثمر في صناعة الانفعال السريع. كان يريد من المسرح أن يكون تجربة حسية كلية: الموسيقى، النص، الديكور، الحركة، وحتى الإضاءة. أن تكون كلها أدوات لإيقاظ الوعي لا لتزيينه. لم يكن فاغنر كيتشيا بالطبع، لكن بعض من جاؤوا بعده لم يروا فيه إلا ديكورا يصلح للاقتباس.
وهذا ما التقطه ميلان كونديرا لاحقا في روايته The Unbearable Lightness of Being والتي عرفت في الترجمة العربية بعنوان (كائن لا تحتمل خفته) رغم أن الترجمة الصحيحة والصادقة يجب أن تكون (الخفة غير المحتملة للوجود). والمفارقة هي أن العنوان المتداول، ورغم اختلاله المفهومي، بدا أكثر جاذبية من الأصل، فتم تكريسه دون مراجعةـ كما لو أن البلاغة التجميلية تغلبت على المعنى. وهذا في حد ذاته ضرب من الكيتش الثقافي: تسطيح فلسفي مغلف بجمالية لغوية. وما التقطه كونديرا في الرواية نفسها هو أن جوهر الكيتش يكمن في إنكار ما سماه الوجود القذر: كل ما هو مزعج وناقص وقابل للتلف، من موت وخطأ وعبث وفقد. فالكيتش عنده ليس مجرد تزييف بل هو نفي جمالي: محو منظم للألم لا تفكيك له. استبدال للقبح برسالة شعورية معلبة لا تطلب من المتلقي تأويلا ولا تصدمه بل تواسيه مؤقتا كما تفعل بطاقات المعايدة أو صور الأطفال المبتسمين في إعلان دواء.
وفي العمارة، يمكن تتبع صعود الكيتش منذ أواخر القرن التاسع عشر، مع تحولات الذوق العام وتبدل البنى الطبقية. حين أصبحت ترى واجهات تحاكي القصور، لكنها بلا عمق بنيوي أو رمزي، ومساكن تزين كأنها نصوص أدبية، لكنها لا تقول شيئا. فالزخرفة لم تعد دلالة بل أصبحت قناعا. لم تعيد تشير إلى أي معنى، بل تستخدم كتميمة ضد الشعور بالنقص الطبقي.
وفي الولايات المتحدة، ظهر ذلك بوضوح خلال ما يعرف بالعصر المذهب Gilded Age وهي الحقبة الممتدة تقريبا بين 1870 و 1910 حيث راكمت الطبقة الثرية الجديدة ثروات هائلة عقب الثورة الصناعية آنذاك. فبنيت سلسلة من القصور الفخمة في منطقة نيوبورت في رود آيلاند تعرف باسم Newport Mansions. لم تكن تلك البيوت مصممة لتلبية الحاجة فقط بل لإعادة إنتاج الوجاهة الأوروبية في سياق أمريكي صاعد. ومن أشهر هذه القصور Marble House الذي استلهم في تصميمه الداخلي والخارجي قصر Petit Trianon في فرساي، لا رغبة في محاكاة المعنى الفرنسي الأرستقراطي، بل كمحاولة لتعليق الهيبة على جدران استعارت حضورها من مكان آخر.
وفي إنجلترا، نشأت ظاهرة موازية خلال الحقبة الفكتورية، حيث انتشرت منازل ريفية تعرف أحيانا ب Little Swtizerlands استوحت شكلها من الأكواخ الخشبية السويسرية، لكنها بنيت في بيئات باردة ملبدة بالضباب، لا تمت بصلة لجماليات الألب. ولم تكن هذه الأكواخ الريفية محاكاة للطبيعة بل مسرحا له، وتمثيلا رومانسيا مفرغا من سياقه المناخي والثقافي.
أما في إيطاليا، فيقف نصب فيكتور إيمانويل الثاني في قلب روما كشاهد صارخ على ما يمكن أن نطلق عليه الكيتش الرسمي. فالنصب الذي بدأ تشييده سنة 1885 يمثل توليفة ضخمة من الأعمدة والتيجان والتماثيل التي تحاكي العمارة الكلاسيكية، دون أن تنتج أثرا يضاهي الطموح الرمزي الذي كانت تريده الدولة القومية الناشئة في ذلك الوقت. وقد وصفته الناقدة مويرا جيفري بأنه قطعة ضخمة من الكيتش في القرن التاسع عشر تتنكر في هيئة عمارة كلاسيكية. وكأن الهيبة هنا أنتجت بمضاعفة العناصر لا بتكثيف معناها. وكأن السلطة تخلت عن الوضوح الرمزي لصالح إثقال بصري لا يحتمل تأويلا.
وهكذا يمكن القول أن الكيتش المعماري ولد في لحظة لم يعد فيها الشكل يتبع الوظيفة بل يتبع التوق للانتماء الطبقي أو الرمزي. ولعل لحظة تحول شعار form follows -function- إلى form follows aspiration كانت لحظة ولادة الكيتش المعماري الحقيقي.
ولأن الكيتش يطمئن العين كي لا تبصر، ويسكت الذائقة كي لا تقلق، فهو يمثل نوعا من الخيانة. خيانة الجمال بوصفه توترا ومعاناة وتماسا مع المجهول. فالجمال الحقيقي، كما في توازن نيتشه بين الأبولوني والدينيوسي، لا يريحك بل يضعك على حافة الاحتمال: يراك ويهزك ويحمّلك عبء أن تفهم!
وفي مواجهة هذه الخيانة، ينبغي للفن الحقيقي أن يعمل بوصفه خطرا، وكسرا في السطح، واضطرابا في التوازن.
وحين ألمح نيتشة إلى أن الجمال العظيم لا يخلو من ظل المأساة، كان يضع الجمال الحقيقي في مواجهة دائمة مع الخطة المسبقة. فالجمال الذي لا يُقلق ولا يربك ولا يترك ندبة صغيرة في الإدراك، هو جمال منزوع الأنياب، مستأنس، آمن، وبالتالي زائف.
شبنغلر، في كتابه انحدار الغرب، لم يتحدث عن الكيتش كمصطلح، لكنه وصف ما يشبهه كحالة جمالية متأخرة أو مرحلة من مراحل الوعي الجمالي المتأخر. وبالنسبة له، لم تكن العمارة مجرد شكل، بل انعكاس لحالة روحية. فعندما تفقد الحضارات أساطيرها، تبدأ ببناء واجهات تتكلم بدل أن تصمت. ولهذا وجد في صرامة المعابد المصرية القديمة صدقا يتفوق على بريق عمارات الشرفات الصغيرة والبلاط اللامع في أوروبا المتأخرة، رغم ما فيها من فخامة.
ورغم أن شبنغلر لم يذكر الكيتش صراحة، إلا أنه وصف المناخ الذي هيأ له، حين قارن بين نسق إيمانويل كانت العقلي، الذي يسعى إلى ضبط العالم بمفاهيم ثابتة، وحدس غوته الحي، الذي يرى أن التغير، لا الثبات، هو أساس الوجود. ولم تكن تلك إدانة لكانت، بل قراءة لتحول حضاري، تبدأ فيه الثقافة بالانكماش نحو النظام، ويتواري فيه الحس خلف البنية.
كلحظة تنحسر فيها الأسطورة، فنسعى إلى فرض النظام على الغموض وترويض اللايقين الجمالي.
وربما لم يكن هذا الإدراك بعيدا عن نظرة البروفيسور المصري، الذي بدا مهتما، من خلال أحاديثه الممتعة، بأثر الكيتش خارج الفنون الحرفية وصولا إلى العمارة. ومع أنه لم يكن معماريا إلا أنه امتلك ثقافة معمارية واسعة وحسا معماريا نادرا. وكان يرى أن العمارة، بحكم ماديتها وزخمها الرمزي، هي من أكثر الفنون قابلية للانزلاق نحو الكيتش، حين تنفصل عن الزمن والذاكرة والمكان.
إن الكيتش أكثر إغواء في العمارة منه في أي فن آخر. فبمجرد أن يفقد المعنى علاقته بالزمن والذاكرة والمكان يتحويل إلى تمثيل لا إلى مأوى. لا يعود بيتا، بل مشهدا مؤهلا للعرض لا للمعايشة. كما في بعض مشاهد The Great Beauty لسورنتينو، حيث تعرض البنايات المترفة بعدسة لا تسكنها، بل تحلق فوقها أو تمررها ببطء كأنها قطع ديكور في معرض. والكاميرا غالبا محمولة على مسار انزلاقي ثابت steady tracking، لا تتوقف للتأمل، بل تنساب فوق الأسطح وتحت الأقوس بلا تماس، كما لو أن العمارة ذاتها قد فرّغت من الحياة وصارت معالجة جمالية بصرية محضة.
وذلك بعكس سنيما بيلا تار مثلا، حيث لا تؤطر العمارة بل تجرب. ففي أحد مشاهد The Turin Horse يتباطأ الزمن حتى يصبح الجدار حدثا والنافذة كأنها تراقب الساكن، لا العكس. اللقطة الطويلة لا تستهلك الفضاء بل تمنحه زمنه. الجدار ليس خلفية بل حضورا. والباب ليس ممرا بل عتبة شعورية. هناك تصبح الكاميرا ساكنا مؤقتا لا زائرا عابرا، وتغدو العمارة بؤرة للإقامة لا للعرض.
وهكذا يختبر الفراغ المعماري الكيتش في السنيما أيضا. حين تكون طبيعة التناول السنيمائي هي الكيتش وليس التصميم المعماري نفسه بالضرورة! فحين تسرع الكاميرا الزمن وتلمع الجدران وتعد الإطار بعناية ليلتقطه المتلقي، تتحول السنيما إلى وسيط يكرس الكيتش، حتى لو لم تقصده. وحين تمهل اللقطة، وتفسح المجال للفراغ، وتصمت بدل أن تفسر، تصبح السنيما مقاومة للكيتش، لا أداة له.
وهكذا، كما تفعل الكاميرا حين تلتقط المكان دون أن تسكنه، يمكن للعمارة أن تنتج هي أيضا تمثيلا بلا إقامة. فعندما تختزل العمارة إلى بيان بصري بلا سياق، تغدو الصورة أقوى من التجربة والواجهة أبلغ من المأوى، ولا يعود المكان دعوة للسكن بل إعلانا عن حضور. فالكيتش المعماري يشعرك أن الفضاء لم يصمم ليحتويك بل ليضعك ضمن الكادر.
ولكن من المهم التمييز بأنه ليست كل عمارة تقصي الحميمية هي كيتش. فبعض المدارس المعمارية، كما في مشاريع بيتر آيزنمان مثلا، تتعمد كسر العلاقة العاطفية مع الفضاء، لا لتخفي فراغها، بل لتحرض وعيك عليه. هناك، لا يكون الانفصال عن المستخدم فعل زينة، بل فعل نقد. العمارة في هذه الحالة لا تتقرب لتطمئن، بل تبتعد لتوقظ. وهذا نقيض الكيتش: لأنه لا يقدم المعنى، بل يفتحه. لا يجمل، بل يربك.
ولم يكن البروفيسور يتحدث عن الكيتش كقشرة بصرية، بل كموقف كامل من العالم. وكان يتوق في ظني إلى أن يعيد التفكير في الكيتش المعماري من الداخل، لا كمصمم، بل كراصد ينصت إلى ما لم يصمم كما ينبغي. فبينما الواجهة قد تحمل الادعاء، يُفترض بالداخل على الأقل أن يبوح، وأن يكشف العلاقة بين الساكن والمساحة، بين الجسد والمأوى. وحين يزخرف الداخل لإخفاء هذا الصدع، يكون الكذب أقصى.
فالداخل المعماري، هو غالبا ما تظهر فيه خيانة الكيتش بأوضح صورها. ليس حين يتم تزيينه بل حين يزين ليخفي فراغا، لا ليكشف عمقا. كما في منزل عائلة بارك في فيلم Parasite، ذلك المبنى العصري الفسيح ذي الواجهات الزجاجية والديكور البسيط، حيث يبدو كل شيء مرتبا ومضيئا ومثاليا، بينما في الأسفل، خلف باب خفي في المطبخ، يمتد قبو سري لا تدركه العين، لكنه يختزن طبقة كاملة من القلق الطبقي والوجودي. فالكيتش لا يكذب فقط بما يظهر، بل بما يقصي من المشهد.
وليست كل عمارة داخلية مزينة كيتشا بالطبع. فالزخرفة حين تستخدم ضمن نظام فضائي متماسك يمكن أن تفعّل الإحساس لا أن تخدره. وما قد يجعل الداخل كيتشيا هو لحظة الانفصال بين التشكيل والضرورة، حين تصبح الزينة بديلا عن السرد، والإبهار بديلا عن الدعوة إلى التأمل.
حين لا توضع الثريا لتتوسط الcompositional center (المركز التركيبي) وتفعل حضورها ك focal light anchor (مرساة ضوئية محورية) داخل نظام محوري (axis system) بل لتعلن حضورها كرمز للثراء، تتحول من إضاءة وظيفية -function-al lighting إلى إضاءة استعراضية display lighting ومن عنصر فراغي إلى تميمة اجتماعية تتدلى من السقف.
أو حين يكسى الجدار برخام لا يستجيب لتدفق الحركة (flow of movement) ولا يراعي تدرج العتبات (threshold gradients)، تلك اللحظات الانتقالية الدقيقة التي تنظم شعوريا انتقال الجسد بين الفضاءات وتؤطر تغير المزاج المعماري، ولا حتى التدرجات الصوتية وتباين الملمس (acoustic gradients and tactile contrast) بل يستخدم فقط كرمز للثراء (status symbol) منزوعا من أي سرد مادي أو انسجام وظيفي.
أو حين تتكدس المواد بلا طبقات سردية (layering)، ذلك التراكم المدروس الذي تبنى فيه التجربة الحسية طبقة فوق طبقة، بترتيب زمني أو مادي يخلق تعقيدا ناعما ويمنح العمارة ذاكرة ملموسة. وحين يستخدم الخشب والخام والمعدن والضوء من غير انسجام سردي أو تسلسل إدراكي، فتتحول الخامة من حكاية إلى ضوضاء، ومن أثر إلى تزيين. هنا يتحول الداخل إلى قناع، كما في بعض تصميمات المسارح الرديئة، حيث يبنى كل شيء ليُرى من الخارج لا يعاش من الداخل. مساحة لا تعرّفك، بل تخفيك. كأن الداخل مصمم بلا سرد، كقطعة موسيقية مزينة بالزخارف، لكنها بلا جملة لحنية. لا تتطور. لا تتذكر. لا تتنفس!
خذ مثلا بعض صالات الاستقبال في الفنادق الفاخرة أو صالونات الفيلات في الضواحي الثرية. كل شيء فيها يصرخ بالثراء: زخارف سقف كثيفة، كنب ضخم، إضاءات متعددة الطبقات، سجاد شرقي، وربما نافورة صغيرة تتوسط المدخل. لكنها رغم كل هذا لا تقول شيئا. لا توقيع معماري، لا مفصّلات انتقالية بين الكتل، لا حوار مادي بين النعومة والخشونة، لا تدرج ضوئي يكوّن المزاج. مجرد تراكم مرئي لرغبة واحدة: إثبات الامتلاك.
هذا النمط، كما إشار إليه شارلز جنكس (Charles Jencks) في تحليله للعمارة ما بعد الحداثية، يقوم على ما يمكن تسميته بالاقتباس الساذج (naive quotation) حيث تستدعى الرموز المعمارية الكلاسيكية كالأعمدة والتيجان والأقواس، لا بوصفها لغة حية قابلة للتأويل، بل كزينة منزوعة من سياقها التاريخي والثقافي. فلا هي تستلهم الماضي ولا هي تجادله بل تكرره بسطحية، كما يكرر الشعار دون فهم خلفيته. وهنا يفقد الاقتباس وظيفته التأويلية ويتحول إلى محاكاة باردة، أو ما يسميه جنكس ب pastiche، تقليد بلا روح. الشكل هنا لا يعود حاملا للمعنى (signified) بل يتحول إلى علامة جوفاء (signifier) تكتفي بتمثيل حضورها البصري، لا إيصال مضمونها الرمزي.
وقد التقط فريديريك جيمسون هذه الحالة في تحليله لما بعد الحداثة، واصفا ما تفعله بأنه تقليد بلا سخرية، بلا نقد، بلا جذور، كمجرد تمثل فارغ لأسلوب سابق، فاقد لأي عمق تاريخي أو بعد زماني. كأنه صيغة متأخرة من الكيتش، حين تحول الأنماط الفنية نفسها إلى رموز ثقافية مفرغة تستخدم لا لتفهم بل لتعرض.
ولفهم المفارقة، يمكن تأمل مشروع Chapel of St. Ignatius في سياتل لستيفن هول، حيث يتحول الداخل إلى تجربة روحية مبنية على تراكب الضوء والظل (light and shadow layering) وتباين الملمس المادي (material tactility) وانحناءات الفراغ (curvilinear spatial envelopes) ومسارات حركة تتدرج من العتمة إلى النور ضمن تسلسل إدراكي محسوب (sequential spatial unfolding). وكما كتب ستيفن هول في أكثر من موضع فإن الضوء هو الزمن المعماري (Light is the Architectural Time). فكل مساحة في رأيه يجب أن تعيش تحولاتها الحسية والزمنية لا أن تجمد في لقطة تصويرية. هناك يصبح كل عنصر، من عتبة الانتقال transition threshold عند مدخل منطقة الصلاة وحتى تجويف الضوء الlight scoop في الجدار مكونا إدراكيا لا زخرفيا. وكل لحظة داخلية تحمل ثقلا تأويليا يتجاوز المجاز البصري إلى بناء تجربة زمنية جسدية كاملة.
وفي الدوحة، يمكن تأمل الردهة الرئيسية في متحف الفن الإسلامي، من تصميم آي إم بي I.M Pei المعماري الحداثي الذي عرف بتطويعه للنقاء الهندسي والضوء الطبيعي كأدوات روحية. هناك، لا زخرفة ولا زينة، بل تناسق دقيق بين الحجر والضوء. وكل عنصر فيها يؤدي دورا صامتا: القبة لا تهيمن بل تنير، والجدار لا يبهر بل يحتضن. والدخول ليس استعراضا بل عبورا من الضجيج إلى السكينة. وفخامة الفراغ لا تأتي من المواد النفيسة، بل من ضبطها ومن الاقتصاد البليغ في استخدامها. أما الصوت فيشبه موسيقى الحجرة Chamber music وهي موسيقى كلاسيكية تؤدى بعدد محدود من العازفين، كما في الرباعيات الوترية لبيتهوفن، حيث لا صخب ولا تباه، بل تآلف داخلي حميمي كأن كل أداة تنصت بدل أن تعلن.
ولعل أكثر ما يميز هذا المشروع أن آي إم بي، الذي كان يبلغ من العمر أكثر من تسعين عاما آنذاك، أصر على السفر إلى عدة دول عربية وإسلامية قبل بدء التصميم، ليتمكن من فهم عمق الفضاء الإسلامي من الداخل لا من الصور. فلم يكتف بأن يرسم، بل أنصت. ولذا جاءت العمارة هنا صامتة لكنها واعية، لا تكرر نمطا بل تعيد اكتشافه.
وليس بالضرورة، عند الحديث عن عدم الخضوع للكيتش استدعاء مشاريع كبرى فقط مثل Chapel of St. Ignatius أو متحف الدوحة. فحتى في مدن تنهكها الفوضى البصرية، رغم أصالتها وتاريخها وعراقتها، تظهر استثناءات صغيرة لكنها صادقة. ففي القاهرة، حيث يتداخل عبق التاريخ مع تشوهات الحاضر، يستوقفك بيت المعمار المصري، بمحدوديته المادية وزهده البصري. هو لا يدعي مقاومة الكيتش لكنه ببساطة لا يشاركه منطقه. هناك لا يوجد ثراء بصري مفروض، بل تدرج في الانتقال، اقتصاد في المادة، وصدق في حضور المكان. الضوء لا يجمّل بل يكشف. الجدار لا يزين، بل يروي. العمارة هنا لا تحاول أن تبهرك، بل تتيح لك أن تنصت.
أو مثلا المتحف الأثري في الجامعة الأمريكية في بيروت. فهو أيضا مثال نادر على الداخل الذي لا يخضع للعرض بل يبنى للقراءة. لا زخرفة فائضة، ولا ألون تغري الكاميرا. فقط نظام دقيق من المحاور. إضاءة طبيعية تكشف ولا تزين ومساحة تفضل الصمت على الانفعال. ليست عمارة تكتب نفسها بالديواني، تتلوى وتستعرض، بل بالنسخ: منتظمة، متقشفة، لا ترفع صوتها، لكنها تقول كل ما يلزم.
الكيتش في المقابل لا يترك مساحة للتأويل لأنه ممتلئ أصلا. داخله محشور ومشبع، ومكتمل إلى درجة الانسداد. فالكيتش عمارة بلا صمت.وحين يُخنق الفراغ الداخلي على هذا النحو، لا بد أن يمتد الزيف نحو الخارج أيضا. فالكيتش لا يختبئ بل يتباهى.
وفي واجهاته، كما في فراغاته، يحرص الكيتش على أن يُرى لا أن يُفهم، وأن يُصوّر لا أن يُعاش. مدن بأكملها بنيت على محاكاة واجهات فرنسية أو إيطالية بلا ذاكرة فرنسية ولا توتر إيطالي، بلا سياق، بلا حاجة. قرى أوروبية في قلب الصحراء. قصور كلاسيكية في أحياء لا تملك حتى طيف التاريخ الذي تقتبسه. هذه ليست استعارة بل انتحال. ليست تعبيرا عن حياة تعاش، بل استعراض لهوية زائفة!
هنا تتحول الواجهة إلى facade بالمعنى المسرحي الدقيق: سطح يُقنع المتفرج من الجهة المواجهة، ولا يصمد عند الالتفاف. واجهة لا تنتمي لمناخ ولا ترد على جغرافيا ولا تحاور جيرة عمرانية.
والمفزع في هذه العمارة ليس مبالغة شكلها فقط، بل انعدام مقاومتها. فهي تستقبلك بإضاءة معدة مسبقا ومنظور محكوم وخطاب جاهز لا يقبل إعادة القراءة.
بل يمكن القول أن من ينتجها ليس بالضرورة مصمما بل يكفي أن يكون منسق مشهديات. معماري يدير الحضور البصري لا الفراغ الزمني. فتتحول العمارة إلى مشهد معلب مضغوط يضخ الجمال كسلعة لحظية لا كتجربة مستمرة.
وإذا كان متحف الآثار في الجامعة الأمريكية في بيروت وبيت المعمار المصري في القاهرة أمثلة على محاولات بسيطة في بلادنا لم تخضع للكيتش في التصميم الداخلي فهناك أمثلة أخرى على مدى الجغرافيا العربية لم تخضع للكيتش أيضا على مستوى المشهد الخارجي والواجهات، منها على سبيل المثال لا الحصر دار الكتب الوطنية في الرباط حيث يتقاطع الخط النقي مع الظل المغربي، ويتحول الجدار إلى فلتر ضوئي لا إلى سطح.
وكذلك المتحف الفلسطيني في بيرزيت، حيث تتدرج الواجهة الحجرية مع انحدار التلة، وتتحرك مع تضاريسها بدلا من أن تنفيها. واجهات لا تبنى لتُشاهد، بل لتكتسب معناها مع مرور الوقت. واجهات تنتمي إلى الضوء والأرض والزمن، ولزائر لا يُختزل في لقطة.
وفي الأردن، يقدم نزل فينان البيئي الذي صممه عمار خماش مثالا على عمارة تتجذر في الموقع، لا تتسلق فوقه. مثال على مبنى لا يزخرف بل يبنى بصدق من الطين والحجر والظل. هناك لا تستعرض المادة بل يصغى إلى حضورها. ولا تجمل الإضاءة بل تحجب لتكتشف. وهي عمارة ليست ضد الكيتش فقط، بل ضد الادعاء نفسه، وضد الفائض، وضد الانفصال بين المعمار والساكن واللحظة.
لذا يبدو أن العمارة إجمالا لا تقاوم الكيتش بالصمت وحده، بل بالصدق، وبالقدرة على إنتاج فراغ يسمح للزمن بأن يعمل، وللجمال أن ينبثق على أن يُفرض. وهذا واضح في تلك المشاريع التي لا تخجل من الفقر، ولا تتجمل لتخفيه، بل تحوله إلى مبدأ تصميم، ومن بين تلك المشاريع ما قدمه المعماري التشيلي أليخاندرو أرافينا.
ففي مشروعه Quinta Monroy، لا نجد بيتا مكتملا، بل احتمالا للسكن: نصف بنية تسلم للعائلة، والنصف الآخر يُبنى مع الوقت، بالإمكانات، بالرغبة، بالمقاومة. لا واجهات استعراضية، ولا مواد ملساء، ولا إغراء تصويري، بل كتل أولية خشنة وظيفية، لكنها تنطوي على وعد: أن يكون لك مكان، وأن يُحترم هذا المكان.
وفي كل جدار يبقي عليه أرافينا خشنا، وفي كل مادة يتركها تظهر اثر تصنيعها، وفي كل مسار لا ينظفه من الفوضى المحتملة، يعلن لنا أن العمارة لا تُبنى لتبهر، بل لتتحمل. هذه الفكر لا ينتج عمارة ضد الكيتش فقط، بل ضد الاكتمال المصمم. فهو يعترف أن الكرامة لا تأتي من الفخامة الجاهزة، بل من القدرة على المشاركة في صنع الفضاء.
وهنا تتبدى المفارقة. الجمال الحقيقي لا يصرخ، ولا يلوح بمفرداته ولا يطلب التصفيق، لكنه لا يُنسى. لأنه لا يقدمَّ كمنتج بل يُعاش كإمكان. وكأن العمارة حين تقاوم الكيتش تصبح أكثر تواضعا وأكثر شاعرية لأنها لا تخاطب الذوق فقط بل تخاطب الزمن.
وهذا ما يجعل تجربة أرافينا أكثر من مجرد موقف تصميمي. فهي بمثابة فعل معرفي يعيد تشكيل العلاقة بين السلطة والجمال. وما فعله لا يقتصر على هندسة المساكن، بل على قلب معادلة التجميل نفسها، حين تسلم العائلات وحدات غير مكتملة، لكنها قابلة للنمو، تعاد السلطة إلى الساكن. فلا يوجد مستعمل نهائي end user في المشروع بل مكمّل متدخّل، يتعامل مع البيت لا كمنتج نهائي بل كجملة مفتوحة على التحول.
وهكذا تتفكك منطقته بالكامل عن الكيتش. فبينما الكيتش يفرض جمالا نهائيا مصقولا مغلفا، يفتح مشروع أرافينا المجال للهشاشة والخطأ والارتجال. باختصار يفتح المجال للحياة كما تُعاش لا كما تؤطَّر.
وضمن هذا السياق يمكن فهم عمارة الكيتش بوصفها جزءا مما قد يطلق عليه: عمارة الإنكار، بل عمارة الإنكار الطبقي تحديدا، حين يُطلب من الفقير أن يسكن بيتا يحاكي القصور، لا ليحيا فيه، بل ليقنع نفسه بأنه لم يُقصَ. وكذلك الإنكار السياسي، حين يصمم السجن كأنه مركز تأهيل، أو يعاد طلاء المخيم بلون الحديقة. وحتى الإنكار الثقافي، حين يشيد مسجد بزينة إمبراطورية وسط حي يفتقر إلى البنية التحتية!
الكيتش هنا لا يبدو بريئا. بل هو وسيلة لإخفاء العنف الاجتماعي والسياسي خلف واجهة مزينة. وقد جاءت أعمال أرافينا وأمثاله كمضاد حيوي ضد هذه البنية الاستعراضية، لا بتغيير الصورة، بل بكسر الكاميرا!
ولكن هل كل ما هو مزخرف كيتش؟
إذا كانت مشاريع أرافينا قد نجت من غواية الزينة من خلال الصمت والبنية القابلة للنمو، فهل يعني ذلك أن الزينة دوما خيانة؟ وأن كل انحناءة زخرفية، وكل قوس زائد، وكل حفر في الخشب، هي بالضرورة انحراف عن الحقيقة المعمارية؟ أم أن الزينة قد تكون أحيانا اعترافا بالهشاشة أيضا، ونداء لما لا يقال بالبنية وحدها؟
هذا الجدل ليس جديدا. ففي كتابه The Stones of Venice رأى جون رسكن في الزينة دليلا على الروح الحية للحرفة وعلى مقاومة الصناع لتكرار الآلة. فالزخرفة عنده لم تكن ترفا، بل إن أثر اليد وبقايا النفس براهين على أن الإنسان ما زال داخل العمارة.
وبعدها بعقود جاء أدولف لوس ليعلن في محاضرته Ornament and Crime أن الزخرفة جريمة ثقافية، حيث تسرّع من تقادم الأشياء وتجعلها غير عصرية بسرعة. معتبرا أن التقدم الثقافي يرتبط بإزالة الزخرفة من الأشياء اليومية.
وفي حين احتفى رسكن بالزخرفة كأثر للروح الحرفية، وهاجمها لوس كمؤشر على التراجع الحضاري، كانت لغوتفريد سيمبر قبلهما بعقود مقاربة ثالثة، حيث رأى في الزخرفة أصلا تأسيسيا للعمارة. نابعا من تقنيات النسيج والتغليف. لا بوصفها ترفا بل بوصفها بنية رمزية ومادية. وفي كتابه The Four Elements of Architecture رأى أن الزخرفة نشأت من الحرف اليدوية، وخاصة النسيج، وأنها تحمل دلالات رمزية وثقافية عميقة. وكأنه أعاد الزينة إلى أصلها: النسيج، القماش، التغليف. واعتبر أن الزخرفة ليست انحرافا عن العمارة بل بدايته المادية والرمزية.
لكن ألويس ريغل عارض لاحقا ذلك التفسير التقني الجمالي الذي شاع بعد سيمبر. وفي كتابه Stilfragen رفض اختزال الزخرفة إلى مجرد أثر لبنية وظيفية، منتقدا النظرية التقنية التي كانت متداولة بين اتباع سيمبر، ورأى أن الزخرفة ليست نتيجة حتمية لوسائل الإنتاج بل تعبير عما سماه الإرادة الشكلية Kunstwollen أي ذلك الدافع الثقافي والجمالي الذي ينتج الشكل حتى في غياب الحاجة العملية. وبهذا حاول ريغل تحرير الزخرفة من أسر النفعية وفتح باب لفهمها كوثيقة حضارية لا كإسسوار معماري.
وربما يظل هذا الجدل مفتوحا. لأن الزينة ليست خيانة في ذاتها، لكنها قد تصبح خيانة حسب الطريقة التي تستخدم بها. فحين تنبثق من البنية نفسها، تكون ترجمة حسية للوظيفة، وحين تركّب عليها تركيبا تصبح قناعا. فليست الزينة هي العدو بل الزينة التي تنكر هشاشتها، وتحاول أن تملأ الصمت بل أن تفسره.
وإذا كانت الزينة في التجربة الحداثية الأوروبية قد خضعت لمساءلة أخلاقية صارمة حول الوظيفة الحقيقية، فإنها في ثقافات أخرى لم تُطرح كسؤال من الأصل، بل كمسلمة كونية.
ففي العمارة الإسلامية، ليست الزينة قناعا يضاف إلى السطح بل جزء من منظومة إدراكية كاملة. الأرابيسك والتكرار الهندسي والإيقاع البصري المتصاعد، لا يقصد بها التزيين بل التذكير بأن الله لا يُرى لكن آثاره تُشاهد. فالزخرفة هنا تدريب للعين على التقشف والتأمل وتجاوز المرئي نحو اللامرئي. فهي كشف وليست تغطية.
وفي العمارة الصينية الكلاسيكية، تنسجم الزخرفة مع فلسفة Qi حيث يُنظر إلى المكان ككائن حي يتنفس، ويُصاغ تصميمه بما يضمن توازن تدفق الطاقة داخله. فالزينة هناك ليست مجرد ترف بصري، بل تنضوي ضمن نظام رمزي يسعى للانسجام والسكينة.
أما في اليابان، فالهشاشة نفسها تصبح شكلا من أشكال الزخرفة: ندبة الخشبة، أثر اليد، تحلل الزمن فوق سطح غير مكتمل. وفي مبدأ wabi sabi لا يكتمل الجمال، لأنه لا يزيف ولا يصرخ، بل يظل حيا، متغيرا، مؤقتا. وحتى في فنون التكوين مثل الأوريغامي origami، تبدو الورقة بطياتها البسيطة كأنها تصوغ الشكل لا من الزينة بل من الانثناء، ومن الكف، ومن الانضباط الذي يبوح ولا يستعرض.
وفي الزخارف الطينية على جدران البيوت القديمة في شمال إفريقيا واليمن، أو في رسوم الكولام kolam التي ترسمها النساء بأطراف أصابعهن في الهند، لا تستخدم الزينة للإبهار، بل كعلامة. فالبيت لا يجمّل بل يروى. كما لاحظ كلود ليفي شتراوس في كتابه الفكر البري The Savage Mind أو La Pensee Sauvauge حين رأى أن الزخارف والأساطير تحمل بنية لا واعية تستخدم لإنتاج المعنى. فالزخرفة في المجتمعات التقليدية تؤدي وظيفة سردية رمزية. فهي تحكي عن من سكن ومن غاب ومن مر. أما بول ريكور، فكان يرى أن السرد لا يشترط أن يكون لغويا، بل قد يكون مكانيا، بصريا، طقسيا. وهكذا يمكن قراءة واجهات بعض القرى الفلسطينية والأردنية المطعمة بالخزف أو الحجر المحلي، لا كتجميل بل كذاكرة متراكبة. كل زخرفة فيها تذكر، وكل جدار لا يُستعرض بل يُتذكر. كأن العمارة تُكتب من الداخل كما تكتب القصص على لسان الجماعة: بالتكرار، بالإيماءة، وبالأثر الذي لا يترجم إلى صورة، بل إلى شعور.
لكن حين تُقرأ هذه الزينة بعين أوروبية حداثية فإنها تختزل إلى زينة زائدة، وتحاكَم بلغة لم تصدر عنها أصلا. وتحشر في خانة الكيتش أو الفولكلور، فقط لأنها لا تنتمي إلى طهارة الوظيفة purism ولا إلى صمت المادة. وهذا الاختزال في جوهره ليس سوى استعمار جمالي ناعم، يحاول أن يفرض على العمارة أن تكون نقية وعقلانية، ويطرد منها كل أثر للظل والاعتقاد واليد والحكاية.
وفي وجه هذا الاستئصال الصامت، ظهرت في القرن العشرين أصوات لم تطالب بالزينة كترف، بل كاستعادة للحق. وكحق في الكلام. حسن فتحي في مشروع القرنة الجديدة أواخر أربعينيات القرن العشرين لم يبن قرية للفقراء بل ما يشبه رد اعتبار عمراني، حيث لا تجمل الجدران بل تروى، ولا تزين الأقواس بل تشهد. الزخرفة عنده لم تكن ستارا بل أثرا: أثر اليد، وأثر الجماعة، وأثر الذاكرة الريفية التي قاومت التغريب عبر الطين.
أما في تايلاند، فقد ظهرت مشاريع مثل مكتبة القارب السماوي في تا تشالوم، تعاملت مع الزينة لا كقناع، بل كبنية تنمو من الحائط، كأنها اعتراف متأخر بما تم استبعاده من الحداثة المعقمة. وكأن العمارة هناك، كما في اللحظة الساكنة في فيلم Silence لمارتن سكورسيزي، حين يلتقط الراهب ضوءا خافتا يسقط على وجهه، تتحول دون كلمة إلى صلاة صامتة لا تحتاج إلى خطاب. وهنا تكون الزينة أثرا متجذرا في السياق والاعتقاد.
وبهذا المعنى يمكن أن تُقرأ هذه المشاريع كامثلة على ما وصفه إدوارد سعيد بالمقاومة الثقافية التي لا تستعيد الشكل من أجل الهوية، بل تسترجع اللغة المسلوبة للتعبير عن سردية مغايرة. أو كما يلمح هومي بهابها Homi K. Bhabha، المفكر ما بعد الكولونيالي، حين يرى في الهجنة hybridity لا علامة على التلوث الثقافي كما تصورها النظرة الكولونيالية بل فضاء ثالثا تعاد فيه صياغة المعنى خارج ثنائيات الأصل والتقليد. ففي هذا الفضاء لا تعود الزينة مجرد تكرار لتراث موروث، بل تتحول إلى فعل تفاوضي يعيد كتابة العلاقة بين المحلي والعالمي، وبين الصوت المسلوب والحق في السرد. فالهجنة هنا ليست ضعفا في الذوق، بل موضع توليد للمعنى. والزينة هنا ليست تأكيدا للهوية بل تأويل لها. لا تقع خارج الحداثة بل تعيد التفاوض معها، من الهامش، وبصمت.
وهكذا، حين تستعاد الزينة بوصفها تفاوض الحداثة كي لا تمتثل لها، فإن أثر العمارة لا يقاس بما يرى منها بل بما يعاش فيها. فما يقاوم لا يصرخ بالهوية بل يهمس بها في التفاصيل وفي الصمت وحتى في ما لا يؤخذ دائما على محمل الجد.
ولهذا يصبح التمثيل البصري، التصوير الفوتوغرافي بالذات، مسؤولا عن أكثر من مجرد إظهار الشكل. فهو إما أن يكرس الزيف، أو أن يكشف عن الأثر.
ففي بعض الحالات قد تكون العمارة التي تُنسى أصدق من تلك التي تصوّر. لأن الصورة قد تعيد إنتاج الكيتش دون أن تحتمل أثر العيش الحقيقي. لهذا، لم يكن مصورو العمارة الكبار، من أمثال الأمريكي عزرا ستولر Ezra Stoller والهولندي إيوان بان Iwan Baan يبحثون عن الزوايا الأجمل، بل عن الزوايا التي تفكر. لم يصوروا الواجهة بل ما بعدها، لالتقاط الأثر لا الشكل. وذلك هو ما يصنع صورة تسكن. والذاكرة، حين تقوم باستدعاء مبنى ما، لا تتذكره كتصميم واجهة، بل كظل، كمكان احتمت فيه من المطر. كزاوية جلست فيها تتنفس، وكفراغ صمت حين لم تجد ما تقول.
وفي أحد أكثر مشاهد الفيلم الفرنسي البديع Les Amants du Pont-Neuf كثافة، تلمع باريس بألعاب نارية فوق رؤوس من لا يملكون حتى سريرا. وما يحتل الكادر حينها ليس برجا ولا معلما سياحيا بل جسر قديم مأهول بأجساد تعبت. وهناك، وسط كل هذا الإنهاك، تولد اللحظة التي لا تنسى، لا لأن المشهد جميل، بل لأنه صادق. لا لأنه مثالي، بل لأنه حقيقي بما يكفي ليجرد الجمال من زيفه.
يمكن للجمال إذا أن لا يُلمّع، لأنه قد لا يحتاج إلى ذلك. وقد يترك جدار ما دون دهان. وأحيانا مصباح واحد يكفي للإضاءة التي يحتاجها أحد الفراغات. وقد يتجرأ خط يدوي في الزخرفة على أن يتنفس دون أن يكون متقنا وكأنه مطبوع. وهناك، في النقص والصمت والحضور الخافت، قد تنجو العمارة من الكيتش، وتدخل الذاكرة، وتترك الأثر.
وربما، في ظهيرة رمادية من شتاء برلين، كان البروفسور جالسا وحده في الأتيليه، يتأمل في صمت صورا لقرية منسية أو لمسجد مهجور. لم يكن يحاضر، ولا يدافع عن فكرة بذاتها. كان فقط ينصت. كأن العمارة بالنسبة لذلك الفنان والمفكر لم تكن موضوعا للدراسة، بل شجنا شخصيا لا يبرأ.
لم يكن في تلك السنة التي عاشرناه فيها يقول الكثير. وكان يكتفي أحيانا بأن يومئ برأسه، كما لو أن كل زخرفة زائدة كانت تجرحه، وكل صمت بصري ومعماري صادق كان يشفيه. وهكذا غادرنا ذات صيف تاركا على الطاولة جملة لم تكتمل، ورسمة لقوس بلا تعليق. كأن وجوده بيننا كان دفاعا عن معنى لم نفهمه في وقته.
أتذكره الآن، لا كبروفيسور ولا كفنان، بل كظل ملاك هبط إلينا، كما في فيلم Wings of Desire لا ليعلّم بل ليشعر. لا ليشرح، بل ليشارك ثقل الجمال حين لا يكون معروضا.
وربما لهذا، نجا من الكيتش!
https://binabdelqader.com/2025/06/06/kitsch/
#محمد_عبد_القادر_الفار (هاشتاغ)
Mohammad_Abdel_Qader_Alfar#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هندسة الكشف (خارج النية، داخل الانبثاق)
-
لا تعبث بالكونسيبت (خارج البورتفوليو، داخل الاستعارة)
-
أعرب هذا المبنى (خارج الإدراك، داخل الاشتقاق)
-
افتح الكتالوج (خارج اللعبة، داخل الخطة)
-
خرائط لا تعترف بنا (خارج المركز، داخل الزقاق)
-
لا تدخل هذا الحيّز (خارج البنيان، داخل المقام)
-
لستُ جاهزاً بعد (خارج الرقعة، داخل التاريخ)
-
أين ذهبت بوهيميتي؟
-
أكملي الدور (خارج النص، داخل الصورة)
-
الجوكر في عين المخرج
-
حين تعود الدببة: عن الانهيار الحضاري الوشيك
-
لحم رقمي: وعي بلا دم
-
في البدء كانت الموسيقى: رحلة في طقوس الغناء ومقدساته
-
قبر اليراعات في غزة
-
الإيمان عند كيركيغارد: بلا وسادة
-
حين تهمس النجوم: من بيتكوين إلى مقياس كارداشيف
-
الأناركية الفردية سوف تخفي الذهب تحت البلاطة، فوق الدولة
-
ميم: رواية بضمير مستتر
-
الإيقاع الحلال: ماذا لو جاز الجاز؟
-
خطة الله في غزة
المزيد.....
-
-الطفل المثالي-!.. شركة أمريكية تطلق نظاما مثيرا للجدل لاختي
...
-
-ممنوع عدم اللمس-: معرض -النشوة- في باريس يفتح أبوابه أمام ت
...
-
الديموقراطية الفرنسية أمام تحد تدخل -لوبي- المال في الحياة ا
...
-
ذوبان الأنهار الجليدية.. يغير وجه العالم ويهدد حياة الملايين
...
-
الدفاع الروسية: إسقاط 61 مسيرة أوكرانية غربي البلاد
-
أم لطفلين تسرق نصف مليون جنيه.. وتنفقها على مشاهير -تيك توك-
...
-
موقع عبري ينشر تقريرا عن معركة إسرائيل المقبلة مع سوريا الشر
...
-
جريمة مروعة.. جندي أمريكي يقتل طفلاته الثلاث خلال رحلة تخييم
...
-
كولومبيا: مرشح رئاسي يصاب برصاصتين في رأسه خلال تجمع انتخابي
...
-
مجزرتان جديدتان بحق طالبي المساعدات بغزة والشركة الأميركية ت
...
المزيد.....
-
الآثار العامة للبطالة
/ حيدر جواد السهلاني
-
سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي
/ محمود محمد رياض عبدالعال
-
-تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو
...
/ ياسين احمادون وفاطمة البكاري
-
المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة
/ حسنين آل دايخ
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|