أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمد عبد القادر الفار - لستُ جاهزاً بعد (خارج الرقعة، داخل التاريخ)















المزيد.....



لستُ جاهزاً بعد (خارج الرقعة، داخل التاريخ)


محمد عبد القادر الفار
كاتب

(Mohammad Abdel Qader Alfar)


الحوار المتمدن-العدد: 8345 - 2025 / 5 / 17 - 00:42
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


في كل مساء، كانت الرقعة تُفتَح كما يُفتَح صندوق مجوهرات قديم: خشب داكن، لامع من كثرة اللمس. وفي الخلفية، يعلو من مشغّل صغير لحن خافت على البيانو، قطعة حزينة من "كلود ديبوسي"، كأنها جاءت لا لترافق اللعب، بل لتذكّر الجميع بأن هذا المشهد تكرّر مئات المرّات على الأقل، ولا يزال بلا نهاية. ولكن موسيقى ديبوسي كانت تسير نحو نهايتها، دون أن تعلن شيئا عن ذلك، وهي تهمس بأن كل شيء هشّ. وكأن القطع تعرف أن هناك ما يشبه "ماهلر" او ربما "فاغنر" داخليا قادما، سيمزّق الهدوء لاحقا. لكن حتى الآن الحركات ما زالت ناعمة، كأن العالم لم يبدأ بعد.

القطع البيضاء والسوداء كانت في أماكنها، لكن الضوء الذي يقع عليها لا يُنيرها، بل يُظللها، كما لو أن اللعبة تُلعب في ذاكرة قديمة، لا على طاولة في الحاضر.

يجلس الوالد أولا. يضع الملك الأسود كما يضع أحدهم خاتما في إصبعه الأخير. ثم يتبعه الابن. يتأمل الرقعة كما يتأمل ممثلٌ صاعد خشبة مسرح شكسبيري، مدركا أن الدور قد كُتب منذ قرون، وهو الآن فقط ينفّذه.

يبدأ اللعب أخيراً!

هذه الرقعة لن تشهد صراعا بين ملك وخصم، بل بين ملك وظلّه، بين أب يُحرك الماضي بإبهامه، وابنٍ يحاول أن يُثبت أنه ليس هاملت جديد آخر سيتردد طويلاً إلى أن يدفع ثمن تردده بأن تُغلق الستارة من دونه. لكنه أيضا، لا يريد أن يكون علي الزيبق، ذاك الذي يُراوغ العرش ولا يواجهه، والذي ينجو بالحيلة لا بالدم، ويختفي تحت عباءة السخرية بدل أن يقف تحت الضوء. فهو لا يبحث عن ثأر ولا عن مخرج، بل عن خطوة واحدة يُقدم عليها لا بوصفه نسخة من أحد، بل باعتباره الوحيد على الرقعة الذي لم يختر أن يكون فيها أصلا.


الوالد يُطبق ما يُشبه "دفاع نيمتزوفيتش"، خطة لا تسعى إلى السيطرة المباشرة، بل إلى كبح الخصم في صمت. خطوة هادئة، فخ غير مرئي. ثم ينظر لابنه كما ينظر مايكل كين حين يمنح البطولة لغيره لكنه يُمسك بالسر في عينيه، بعين لا تطمئنك، لكنها تقول: "أنا أراقب إن كنت تستحق اسمي".


يحاول الابن التقدّم ..

يخطف بيدقا هنا، قلعة هناك. وتظهر على وجهه ابتسامة صغيرة، لكنها لا تصل إلى عينيه. في عينيه رجفة لا تشبه الخوف، بل تُشبه تلك اللحظة حين يسمع طفل صوته مسجّلا لأول مرة. فهو مأخوذ بالغرابة، ومذعور من أن يكون هذا الصوت الذي عاشه في داخله ليس كما تصوّره. القلق في عينيه هو قلق شخص شعر أنه يتكلم أكثر مما يجب: رغبة في الإقناع، يفسدها وعي داخلي بأنه مجرد ممثل في نص أكبر.

لم يكن يلعب كي يتعلّم، بل كان يُختبَر. وكل خطوة يخطوها لا تُقاس بالذكاء، بل بالوراثة: هل تصلح؟ هل تُشبهنا؟ هل فهمت أم ليس بعد؟

كان يُسمح له أن ينتصر، أن يشعر بنشوة "كش"، لكنه يعرف، دون أن يعلّمه أحد، أن الانتصار أحيانا جزء من الخطة الكبرى لترويضك.

وفي الحقيقة، لا يُولد الجميع أحرارا. فبعضنا يُولد كـ "وعد". وعدٌ لم يصنعه، لكنه كُتب باسمه.

يُطلّ الطفل، فيستقبله العالم لا ب"مرحبا" بل ب"أخيرا". كأنهم كانوا في انتظاره، لا ليُحبوه، بل ليؤدّي دورا ما. ليملأ الفراغات التي تركها غيره، ليُصلح ما لم يُصلَح، أو ليكون نسخة محسّنة من فشل سابق.

في خلفية المشهد، يسلم ديبوسي أخيراً الراية إلى ما يشبه موسيقى ماهلر، تعزفها آلة وترية قديمة كما يحدث في فيلم لا نهاية له، حيث كل نغمة من تلك الموسيقى تقول لولي العهد: "كن عظيما! كن ما لا تستطيع أن تشرحه".

لم يكن هناك أثر لفاغنر. ففاغنر كان سيأمر، لا يهمس. كان سيقول له: "اصعد كمن وُلد ليُعلن النصر، لا ليسأل إن كان يريده". لكن ولي العهد لم يكن فاغنريا. لم يُرد أن يشق الأرض بصوته، بل أن ينحني قليلا ليرى الرقعة من زاوية لا يراها الملك.

ودون أن يدري، طبّق ما يشبه الفيانشيتو، حركة جانبية صغيرة، لا تُهدد، لكنها تفتح الأفق، تنقل الفيل إلى الهامش، حتى يرى القلب من بعيد، دون أن يسقط فيه.

ولأنه طفل فهو لا يفهم بعد لغة المجاز. وهو يريد فقط أن يخطئ دون عقاب، وأن يتأخر دون خجل، وأن يقول "لا" دون أن يرتجف العالم.

لكنه لا يُعطى هذا الحق. لأن الشطرنج بدأ قبل مجيئه، والمربّعات مُحتلّة، وكل من حوله ينظر إليه ك"الملك الأبيض" الذي لا يجوز أن يُهزم.

هكذا يبدأ الإنسان المولود في ظلّ التوقعات: كأنه بطل مسرحية يونانية مُطالَب بأن يموت موتا نبيلا على الخشبة، حتى لو لم يختر النص، ولم يحفظ الدور، ولم يُمنح فرصة أن يقول: "أنا لست جاهزاً بعد".

فثمة من يُلقى بهم في قلب القصة قبل أن تُعرّفهم الحياة على أسمائهم، مثل هاري بوتر!

لم يكن هاري بوتر عبقريا ولا خارقا. كان مجرد طفل بملامح غامضة، تركته أقدار السحرة على باب بيتٍ لا يُحبّه، ووشمت جبينه بندبة لا يعرف كيف نالها. لكنه لم يُمنح فرصة أن يكون "عادياً". فبمجرد أن نطق اسمه، ارتجفت الجموع: "هو ذا الذي نجا." وكأن نجاته من الموت جعلته سجينا لهذه النجاة. ومنذ تلك اللحظة، صار الجميع يرى فيه أكثر مما يحتمل: المنقذ، المختار، الأمل الأخير.

لكن في عينيه هو، لم يكن شيء من هذا، على الأقل في البداية. كان يفتقد أما، يتساءل عن أب، ويتهرب من معركة لم يبدأها. فهو لم يختر فولدمورت كعدو، ولم يقرر أن يكون ظل أبيه في ساحة حرب قديمة. وهو بذلك يشبه كل من وُلد في منتصف سردية لا تخصه: حين يُصبح الفرد واجهة لنبوءة مجتمعية، أو لعقدة لم تُحل، وحين يُطلب منه أن يكون نهاية جميلة لحكاية لم يكتب هو بدايتها.

صراع هاري الحقيقي لم يكن مع "فولدمورت"، بل مع الصمت الذي يفرضه المجد المفروض، مع نظرات المعلمين، وأصدقاء الأب، وكتب التاريخ التي تركت صفحةً بيضاء باسمه، كأنها تصرخ: "إملأها بما نتوقع نحن، لا بما تريد أنت". وكل من يمرّ بهذه الصفحة يُدفع نحو رقعة لا خيار له فيها، حيث لا أحد ينجو إن لم يكن ملكا. ولا أحد يملك أن يقول: "لا أريد هذا التاج".

لكن ماذا لو لم يُمنح الطفل حتى تلك الصفحة البيضاء؟ ماذا لو لم يكن له اسمٌ أصلا، بل كان يتسوّل اسما، أبا، أو حتى عدوا يليق به؟ هذا ما يحدث مع آرثر فليك، في فيلم "الجوكر" حين يحاول يائسا إثبات أن توماس واين هو والده، لا حبا بالأبوة، بل طلبا للشرعية، لمكان في الحكاية، لموقع على الرقعة! وحين يُنكَر عليه ذلك النسب، يُطرد من السردية الملكية تماما، ويُستبدل به الصبي الواقف خلف البوابة: بروس، الذي سيغدو لاحقا "باتمان".

في تلك اللحظة، يتّخذ آرثر قراره النهائي: إن لم أكن الأمير، فسأكون الكارثة! لا ملكا ولا بيدقا، بل انهيار الرقعة ذاتها!

وفي رقعة الشطرنج، الملك ليس أقوى قطعة. إنه الأضعف، والأبطأ، والأكثر خوفا. ومع ذلك، تدور اللعبة بأكملها حوله. يُضحّى بالفيلة، بالقلاع، بالأحصنة (الفرسان) وأحيانا بالوزير (الملكة)، فقط كي لا يُقال: "كش ملك".

الملك لا يشارك فعليا في القتال. لا يقفز، لا ينقض، لا يخدع. هو يتحرك خطوة واحدة فقط، كأنه يتردّد حتى في القرار، كأن كل حركة منه تستدعي قلق حضارة بأكملها.

لكن الأغرب من هذا، أن الملك لا يستطيع أن يقول: "لا أريد أن أُحمى". ولا يملك أن ينسحب، أن يترك الرقعة، أو أن يقول: "هذه ليست لعبتي". كأنه يعيش داخل قلعة غير مرئية، وحُريّته محصورة في مربعات محددة. وكل من حوله، وإن ادّعوا الولاء، يحمونه لا حبا فيه، بل لأن سقوطه يعني نهاية كل شيء.

وهكذا، فإن "الملك" ليس رمزا للسلطة بقدر ما هو رمز للعزلة. هو ذلك الإنسان الذي وُلد وفي عينيه صورة التاج، لكنه لم يُسأل يوما إن كان يريده، وكلما حاول أن يكون إنسانا قالوا له: "تذكّر أنك ملك". وما الحياة إلا رقعة، والبعض يولد ملكا فيها، لا ليتسيّد، بل ليُحاصَر.

أما مَن لم يُولد ملكًا ولا أراده، فقد حوّله الإدراك إلى سجن أعنف من التاج. كما حدث لهاملت، الذي لم ينتظر الكرسي، بل انتظر المعنى. ولم يكن هاملت فعلياً أضعف من عمّه، ولا أقل شجاعة من أولئك الذين أخذوا بثأرهم دون أن يرمش لهم جفن، لكنه وُلد بعقل لا يكفّ عن الدوران، وعينين ترى ما خلف الكلمات، وقلبٍ كلما اقترب من الحسم، تذكّر هشاشة المصير. هو لم يكن بحاجة إلى دليل. فالجريمة كانت هناك، والدماء لم تجف. لكن شيئا فيه كان أعمق من الجريمة نفسها.

كان يعرف أن القتل لن يُصلح شيئا، وأن العرش الذي يُبنى على الدم، لا يُطهّره القصاص، بل يُثقل ضمير الجالس عليه. وهكذا، ظلّ الأمير في مكانٍ بين السؤال والسكوت، بين "أن تكون" و"أن لا تكون"، ليس لأنه عاجز، بل لأنه واع أكثر مما يجب. وفي مملكته المتعفنة، حيث النفاق هو البروتوكول، والابتسامات لا تنتمي للوجوه، كان هاملت يمثل تلك المأساة الخالدة: أن تكون نقيا بما يكفي لتفهم، وغير مشوه بما يكفي لتنفذ.

وربما لهذا السبب لا يموت هاملت إلا بعد أن يموت الجميع. كأنه لا يُسمح له بالرحيل حتى يشهد الخراب الذي حاول تجنّبه.

وبعضهم لا ينهار من عبء الفشل، بل من عبء الضوء. فموزارت لم يختر أن يكون عبقريا. وما من أحد استشاره قبل أن يقوموا بوضع البيانو في حجره، أو قبل أن تُصنع أذناه على إيقاع لا يسمعه سواه.

وُلد في قلب السُلّم الموسيقي. لا يعرف كيف يعيش، بل فقط كيف يُبدع. وكان ذلك كافيا ليبدأ الجميع في معاملته كآلة سحرية: يعزف، يكتب، يُدهش، يُبكي، ثم يُعاد طيه إلى العدم. وكأنهم لم يروا فيه يوما ولدا، بل نبوءة ما!

في فيلم Amadeus، لا نراه كما نحب، بل كما يراه غريمه ساليري: غلاما مضحكا، غريب الأطوار، فاجرا أحيانا، لكن فيه صوتا، لا يمكن تفسيره. كأنه يسمع شيئا من السماء لا تملكه الأرض. ولعلّ ما كان يُفزع ساليري لم يكن صوت موزارت، بل إرادة السماء ومدى عدالتها في نظره: كيف تهب العبقرية لطفل لا يفهم حدودها، ولا يحسن الدفاع عنها؟

وكان هذا هو العقاب الحقيقي: أن يُبدع موزارت لغيره، لا لنفسه، وأن يموت وهو مدفون تحت تحفته غير المكتملة، ريكويم، قدّاس الموت، الذي لم يُكتب له أن يسمعه حيا.

وفي عالم التوقعات، حيث يُولد الإنسان بموهبة ما، ويُطلب منه أن "يُثبت نفسه"، ثم "يتواضع"، ثم "يصمت"، يكون مصير أماديوس نموذجا مريرا: أن تتحول هبتك إلى حكم مؤبد، فتبقى دائما مطالبا بأن تُدهش غيرك، حتى تنفجر.

وما كان موزارت ليكون أسطورة أصلا لولا وجود ساليري. وهو لم يكن عدوه في البداية، بل مُعجَبا تقيا، طحَنَه الإعجاب حتى صار حسدا. كان يستيقظ ليُصلّي، لا ليعزف. وكانت آذانه حساسة بما يكفي لتعرف: أن السماء تحدثت، لكنها لم تخاطبه.

وهكذا، يُولَد الإنسان أحيانًا لا بوراثة المجد فقط، بل بوراثة الغيرة، والعداء، والظلال الثقيلة التي لا يعرف من أين جاءت. فكما يُقال له "كن ما كانه أبوك" يُلاحقه من يقول: "لماذا لست أنا مكانك؟". وكأن بعض الأرواح لا تُحاسب فقط على ما فَعَلت، بل على ما أوحَت به للآخرين دون قصد.

وكما يُولد البعض ومعهم من يعاديهم دون مبرر، يُولد آخرون وإلى جوارهم من يُحبّهم دون أن يُمنَح الاعتراف. فعلى رقعة الشطرنج، هناك قطعة تقف إلى جوار الملك، أقرب إليه من الجميع. تتحرك معه، تحميه، تسبق خطواته.

في نسختها الأولى في الشرق، لم تكن تُدعى "ملكة"، بل "فرزان"، ثم "وزير"، كأن العلاقة بينهما لا تحتمل الحميمية، فيجب أن تكون "سياسية"، لا شخصية. لكن الزمن كان يتحرك، وبتحوّل بطيء يشبه ما يحدث في الروايات الطويلة، تغيّر اسمها في الغرب. لم تعد مجرد مستشار، بل صارت ملكة. ليس لأنهم آمنوا بأن الأنثى أقوى، بل لأن اللعبة نفسها تغيرت: زادت حرية القطعة، تضاعفت سرعتها، فأصبحت أقرب إلى صورة "السيدة التي تُرعب الجميع"، ملكة لا تكتفي بالزينة، بل تخوض المعركة.

أما نحن، فبقينا نُسميها "وزيرا". ربما لأن الملكة، بمداها الكامل، كانت أكبر من أن يُقال اسمها. وليس في ذلك مؤامرة، ولا براءة. بل هو انعكاس لثقافة لا تخشى الأنثى، لكنها تؤجّل الاعتراف بها. فالوزير لقب مريح: يُخفي الأصل، ويُبقي العلاقة غامضة، كأن القطعة لا أمّ ولا زوجة ولا ابنة، بل مجرد منصب. أو كأن الملكة حين تسمى وزيراً تظل صدى لسيمفونية لم تُعزف كامل نوتاتها، أقرب إلى صمت شوستاكوفيتش وهو يُخفي صرخاته بين نغمات فالس رقم 2، تلك القطعة التي تبدو مرحة على السطح، لكنها تخفي تحتها توترا عميقا، تمامًا كما كان يخفي شوستاكوفيتش معاناته تحت وطأة القمع السوفييتي.

وبعد أن يهدأ وقع الخطى حول العرش، وتعود القطع إلى صمتها المتوتّر، تبقى هي هناك. وهي ليست شريكة الملك في الحب، بل في النجاة. تتحرّك حيث لا يجرؤ، تقاتل ما يهرب منه، وتبقى دوما على استعداد لأن تُباد، ليبقى هو واقفا في النهاية. هي ليست تابعا، لكنها أيضا ليست غاية. تحمل في قلبها مفارقة وجودية: أقوى قطعة، لكنها ليست الأهم. إذا سقطت ينهار الهجوم، تختل الرقعة، لكن لا تُرفع الأعلام السوداء، ولا تُقام لها جنائز. ربما لأنها تمثل ذلك النوع من القوة الذي لا يُغفر له إذا خسر، ولا يُحتفى به إذا انتصر.

وكم من البشر يشبهونها: يُبدعون، يُضحّون، يُحاصرون خصومهم، ثم يُسحبون من الرقعة بهدوء، لأن الدور انتهى. ولأن الملك لا يزال حيا.

لكن في الجهة الأخرى من الرقعة هناك قطعة لا تحمي الملك ولا تنتظره، بل تمشي وحدها، ببطء، على أمل أن تصل: البيدق!

هو أضعف قطعة في الرقعة. خطوته بطيئة، سلاحه محدود، وصوته لا يُسمع. لكنّ له شيئا لا يملكه أحد غيره: الوعد.

فالبيدق وحده، دون كل القطع، إن بلغ نهاية الرقعة، يمكنه أن يتحوّل، لا إلى ملك، بل إلى ملكة!

كأن اللعبة نفسها تعترف بأن "النهاية" لا يجب أن تكون سلطة، بل قدرة. وبأن ما يستحق أن تُكافأ به ليس التاج، بل الحرية المطلقة في الحركة.

لكن كم من البيادق تصل؟ كم منهم يسلك الرقعة كاملة دون أن يُسحق، دون أن يُنسى، دون أن يُستخدم كدرع؟ قلة!

وقبل أن يصل، عليه أن يمرّ من بين خيول مسعورة، وقلاع مرصودة، وعيون لا ترحمه لأنه "صغير".

وهكذا، يصير البيدق رمزا للإنسان الذي يبدأ من القاع، ويُطلب منه أن يحارب الجميع، ثم، إذا وصل، يُسمح له أن يصير شيئا آخر. لكن لا أحد يضمن له أن يبقى هو نفسه. فالثمن الذي يدفعه ليصير "ملكة" هو أن ينسى أنه كان "بيدقا".

لكن ماذا لو وصل فعلاً… وفاز؟ هل يغدو النصر نهاية؟ أم لعنةً جديدة لا تُكافئ، بل تُفسِد؟

في عام 1972، جلس بوبي فيشر على رقعة العالم، ليواجه بوريس سباسكي، لاعب الاتحاد السوفييتي، في مباراة لم تكن عن الشطرنج فقط، بل عن الحرب الباردة، عن القوة، عن الهيمنة، وفاز! فاز كأنّه لا يملك خيارا. فاز كما يُطلب من الأمير أن يُثبت أنه ابن ملك لا يُهزم.

لكنه بعد الفوز، لم يحتفل، بل بدأ يتراجع، ينسحب، يختفي. قال أن اللعبة فاسدة. اتهم الجميع بالتآمر. رفض الدفاع عن لقبه، واختار المنفى! ربما لأنه فهم ما لا يجب فهمه: أن الانتصار قد لا يكون خلاصا، بل سجنا أكبر من الهزيمة.

وهكذا، صار بوبي فيشر رمزا للبطل الذي كره لعبته، وللأمير الذي بصق على عرشه، لا لأنه لم يستحقه، بل لأنه كره كونه مجرد دور في سردية أوسع مما يحب. وكأن اللعبة، حين تفقد معناها لا تتوقف، بل تصير إلزاما. ففي مسرحية "نهاية اللعبة" Endgame لصموئيل بيكيت، يكون كل شيء قد انتهى، لكن الشخصيات تظل تتحرك، لا لتفعل شيئا بل لتقول أنها لم تمت بعد.

هام، الأعمى، لا يستطيع الوقوف.

كلوف، خادمه، لا يستطيع الجلوس.

الاثنان محكومان بالبقاء، في لعبة لا يفوز فيها أحد، ولا أحد يملك ترف الانسحاب منها.


كل حركة في المسرحية تُشبه حركة في نهاية شطرنج خاسرة، حين تعرف أن النتيجة محسومة، لكنك تُواصل اللعب فقط لأنك لم تُصفَّر بعد. وكأن بيكيت يقدّم الشطرنج كوجود، والوجود كلعبة، واللعبة كلعنة.

وهكذا تصبح Endgame التعبير الأكثر صدقا عن حال من وُلد في ظلّ التوقعات: أن تُجبر على الحركة بعد فوات الدافع، أن تُطالب باللعب حين تكون كل القطع قد تحجّرت داخلك. ف"النهاية" هنا لا تعني الموت، بل تعني أن كل شيء قد قيل، ومع ذلك يُطلب منك أن تُعيد قوله من جديد، فقط لأن الجمهور لم يغادر القاعة بعد.

وفي مكانٍ آخر، بعيد عن المسرح، كتب كاميرون كرو نسخة حديثة من عبث مشابه، لكنها لا تحدث على خشبة مسرح، بل في حلم رقمي يُعيد نفسه، حيث يقف شابٌّ في آخر المدينة، لا يعرف إن كان يحكم حياته، أم أنه مجرد صورة فيها. فديفيد إيمز، بطل فانيلا سكاي لم يكن فقيرًا ولا مظلوما، بل كان وريثا لمؤسسة نشر عملاقة. ورث النفوذ، والجاذبية، والسلطة الناعمة. لكن في الغياب الحقيقي لأبيه، صار هو"الملك الشاب" على رقعة تمتلئ بمجلس إدارة متآمر. لم يكن ديفيد يدير فعلياً، بل كان يُدار. ولم يكن يملك، بل كان يُستملك باسمه.


وعلى تلك الرقعة الموحشة، كان هناك وزير واحد وفيّ: توم، صديق والده، المخلص الذي لم يُبع يوماً في المزاد. وحين يغيب ديفيد عن رقعته، ويغرق في كابوس تشوّه وجهه، وتصدّع علاقاته، يُقال له في مشهد المصعد في نهايات الفيلم: "توم ساعدك على إصلاح كل شيء قبل أن تبدأ حلمك الجلي ."

وكأن الفيلم يقول: أن الملك لا يحتاج دائما أن ينتصر، بل فقط أن يعرف من لا يزال يحرس عرشه في ضعفه.


لكن الحكاية لا تتوقف عند الإصلاح. لأن ديفيد، بعد الحادث، لم يعد كما كان. تشوّه وجهه، وكُسرت مرآته، واختلطت عليه صوفيا بجوليانا، والحقيقة بالحلم، حتى أصبح كل شيء vanilla ناعما، بلا طعم، بلا حدود.

وهنا يأتي قراره العظيم: أن يقفز من فوق البرج، أن يُسقط الحلم المصنوع، أن يعيد لنفسه حقيقته، حتى لو كانت قبيحة، مؤلمة، مكسورة.

وفي لحظة القفز، لا يكون ديفيد بطلا هوليوديا، بل ملكا على رقعة شطرنج قرر أخيرا أن يتحرك بنفسه، لا أن يُحمى، لأن ما يريده ليس النجاة، بل النظر في عيون العالم، ولو بوجه لا يُحتمل.

لكن ليس كل من وُلد في ظلّ العرش قفز منه. بعضهم تنازل عنه صراحة، كما فعل الحسن بن علي، حفيد النبي، الذي لم يكن مجرد وريث لسلطة، بل لسلالة نبوية، ورمزية دموية ثقيلة. حين اختار أن يُسلّم الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان لم يفعلها استسلاما، بل إدراكا أن العدل لا يُصنع في رقعة ملوّثة، وأن بعض الانتصارات تبدأ بالانسحاب. فعام الجماعة لم يكن اتفاقا على أمير، بل هدنة وجودية بين أجيال منهكة. والحسن لم يكن في قلب المعركة، بل في عمق النصّ الذي تكتبه الهزائم وتحرّفه السيوف. ولهذا، لم يقاتل، لأنه لم يشأ أن يتحوّل إلى مجرد سطر بطوليّ آخر في مسرحية قتل طويلة. ولو كان الحسن جالسا مع الوالد وابنه، الذين تحدثنا عنهما في البداية ربما كان سينصح الشاب الحائر أن لا يكون هاملت المتردّد، ولا علي الزيبق المراوغ، بل أن يفهم أن ترك الرقعة نفسه لا يعني الخسارة بالضرورة، بل ربما يكون أكثر احتراما للعبة نفسها، ربما!

وبعضهم، بعد الحسن، لم يترك الرقعة فحسب بل رفض أن يدخلها أصلا. كما فعل معاوية بن يزيد، الخليفة الأموي الذي لم يُكمِل سوى ثلاثة أشهر في الحكم، على الأكثر، ثم انسحب، لأنه لم يرَ في الخلافة امتدادا لروحه، بل مرآة مقلوبة لزهد لا يحتمل أضواء السلطة.

وبعضهم الآخر تأخر عن العرش، لا هربا منه، بل احتراما له، كأراغورن، سليل إيسيلدور في The Lord of the Rings، الذي لم يتقدّم ليحكم غوندور من فوره، رغم أن دمه يُعطيه الحق. لأنه كان يعرف أن الحكم لا يُنتزع بالورق، بل يُستحق في المسير. سنوات طويلة أمضاها تحت اسم "سترايدر"، متنكرا كحام للطُرق، كمتشرد نبيل، يمشي على أطراف الأسطورة ويراقب العالم من الظلال، حتى تنضج اللحظة، وتدعوه المملكة من تلقاء نفسها.

وفي طريقه، لم يكن وحده، بل رافق الهوبيتس، أبناء الأرض الصغيرة، الذين لا يعرفون السيوف، لكن يعرفون الثبات. كانوا مثل نغمة رقيقة ل"شوبان"، لا تُحسم بها المعركة، لكنها تجعل النصر يبدو إنسانيا لا إمبراطوريا. كانوا مرآته، وذكّروا الملك الذي لم يملك بعد، أن التاج لا يقوم على المجد، بل على القدرة على الإصغاء، لمن لا تملكهم، لكنك مسؤول عنهم.

لم يكن أراغورن قد نسي عرشه، لكنه رفض أن يعتليه وهو ما يزال هشا. ولهذا، حين دخل ميناس تيريث، لم يكن رجلا عاديا صار ملكا، بل ملكا صار مرئيا أخيرا.

لكن هل كل ملك صار مرئيا نجا من أن يُبتلع؟

في العراب The Godfather، لا نرى انتقال التاج بين فيتو ومايكل كورليوني كقصة عصابة، بل كمأساة ملكية كاملة، كابوس وراثي، حيث يُعطى الابن إرثا لم يُرِده، ويُمنَح سلطة لا تُشبهه. فيتو، الأب، لم يصعد لأنه أراد، بل لأنه اضطر، وكان يعرف أن التاج يُثبّت بيتك، لكنه يثقل صدرك. أما مايكل، فدخل اللعبة لأنه أحبّ أهله، وخرج منها ملكا وحيدا، غريبا، باردا، قاتلا. لم يكن يُشبه العرش، لكنّ العرش استخدمه لأنه كان الأذكى في اللحظة الأضعف. فصار الملك، لكنه لم يعد نفسه. وهذا ما يفعله الإرث أحيانا: لا يطلب منك أن تكون مستعدا، بل فقط أن تكون الوحيد المتاح.

وربما كان داود، كما في السردية التوراتية، المثال الأشد تواضعا بين ورثة العروش: لم ينتزعها، بل انتظرها حتى أتته، مفضّلا أن يفرّ من الملك على أن يقتله. وقف فوق رأس شاول في مغارته، والخصم نائم. وكان بوسعه أن يصعد، لكنه اختار أن يقطع طرف الرداء فقط، لا الرقبة. لأنه فهم أن بعض التتويجات لا تُنجز بالدم، بل بالانتظار.

ولأن أقدار الشطرنج لا تُكتَب كلها للملوك، وإن بدا الأمر كذلك، إلا أن البعض الآخر يبقى هناك في الزاوية، يحرّك الدفاعات دون أن يطلب الضوء، تشعر انه شيء نبيل لا ينتظر أن يُرى. لا يتقدّمو إلى العرش، ولا يُغني في الملاحم. يصمت في اللحظة التي يعلو فيها الضجيج، فقط ليمنع كل شيء من الانهيار. فهناك افتتاحية شطرنج تُدعى "دفاع بيتروف" هي واحدة من أكثر الخطوط صلابة: دقيقة ومُحكمة، لكنّها أيضًا تُوصف بالبرود، لا تُهزم، لكن لا تُلهِب.

بيتروف لا يُباغتك، بل ينتظرك لتتعب. يحصّن نفسه خطوة بخطوة، لا يطلب المجد، بل اللاحركة. الذين يلعبونه لا يبحثون عن الإبهار، بل عن البقاء، عن الاستنزاف الهادئ، عن الاستمرار دون مجازفة. هو دفاع الملتزمين، الذين يعرفون أن العالم لا يصفّق لمن لا يُخاطر، لكنهم أيضا يعرفون أن المجازفة قد تكلّفك رقبتك.

وهكذا، يصبح “بيتروف” رمزا لمن عاشوا في قلب الرقعة، لا بصفتهم أبطالا، بل حرّاسا للّعبة. هم الآباء الذين لم يُذكروا. الموظفون الذين لم يُكرموا. الجنود الذين لم يُقاتلوا لكنهم ظلوا على الجبهة. بيتروف ليس ملحمة، لكنه ضرورة: صخرة لا تتكلّم، لكنها تمنع الانهيار.

لكن في لعبة الممالك، الوراثة ليست ضمانا، بل أحيانا تكون أكثر الأقدار هشاشة. نيكولو مكيافيللي، في كتابه الأمير، لم يكن مفتونًا بالورثة، بل بمن ينتزعون السلطة رغم التاريخ، لا بفضله. وبالنسبة له، الأمير الذي يرث العرش لا يُمنح الشرعية، بل يُطوّق بالشك. فهو مطالب أن يُثبت مرتين: مرة أنه لم يُفسد الهبة، ومرة أنه كان ليستحقها حتى لو لم يولد فيها.

ولهذا، كان ميكافيللي يفضّل من بدؤوا من الصفر، لأنهم يعرفون ثمن الخطأ، ولا يثقون في الحماية الزائفة التي ينسجها التاج. فالميراث -عند مكيافيللي- ليس شرفًا، بل اختبارا أخلاقيا شرسا: هل تستطيع أن تبقى واقفا في قلب العرش دون أن تنكسر، ودون أن تخدع نفسك؟ الميكيافيلية التي أحبّت القوة الواضحة، كانت تفضّل الملوك الفاغنريين، لا أولئك الذين يشكّون، ولا أولئك الذين يشبهون الحالمين في ليالي ديبوسي! وربما، لو عاش مكيافيللي ليقرأ مسرحية مكبث لقال: هكذا يبدو الأمير حين يفتقر إلى التأنّي. لأن مكبث قفز إلى التاج وانتزعه، نعم! لكنه نسي أن العرش لا يُؤخذ بالسيف فقط، بل بالحساب.

وأساساً، ليس كل من وُلد في البلاط كان يوما في حسابات الوراثة. فثمّة أبناء لا يسبق اسمهم "ولي العهد"، ولا يتطلّع إليهم الجمهور حين يُفتح الستار. هم هناك، في الهامش، يُربّون ظهورهم كي لا ينحنوا، لا لأن التاج ينتظرهم، بل لأنهم لا يريدون أن يكونوا انعكاسًا لعرش لا يشبههم. في هذه الزاوية وُلدت حيوات كثيرة. كالأمير الثاني، الذي لم يكن أول من رأى النور، ولهذا لم ينتظره أحد. فلا كتب التاريخ عرّفته كخليفة، ولا الصحافة منحته صورة "الوريث"، ولهذا بالضبط صار حرا. هو لا يُحمى كملك، ولا يُدرّب كوارث، لكنه أيضًا لا يُختبر كغريب. هو مجرد ابن. كأن العالم يقول له: "كن ما شئت، فقط لا تقترب من التاج". وهذه الحرية الظاهرة غالبا ما تتحوّل إلى إهمال باطني ثم تمرّد صامت ثم عيش خارج الرقعة، لا داخلها.

وفي الثقافات الملكية الحديثة، نرى ذلك بوضوح في أبناء الملوك الذين لا يُنتظر منهم شيء، فصاروا هم الأكثر تمردا، أو أكثر غيابا، أو أكثر صدقا، لأنهم لم يُصاغوا كأبطال. لكنّهم، في بعض اللحظات ينظرون إلى الرقعة من بعيد ويبتسمون. لا لأنهم لا يحلمون، بل لأنهم يعرفون أن بعض الأقدار أقسى من أن تُرث، وأغبى من أن تُطارد.

هذا النوع من الأبناء ليس مطالبا بأن يُكمِل، بل بأن يختار: أن ينسحب، أن يحتجّ، أن يغيّر دينه، أن يهجر عائلته، أو حتى أن ينسج حياة موازية، لا تُشبه البلاط بشيء. هو لم يُحرَم، بل أُعفي من العبء. ولهذا نراه تارة كأنبل الفلاسفة، وتارة كمهرّج يُحيط به الدخان، وفي الحالتين هو في موقع الغريب، الذي يرى اللعبة من خارجها، دون أن يلمسها. أحيانًا يتظاهر باللامبالاة، لا لأنه تافه، بل لأنه لا يعرف لماذا يجب عليه أن يهتم. فهو لم يُربّ ليحكم، ولا نُحتت ملامحه ليُطبع وجهه على العملة. وقد تكون هذه النعمة أو المأساة.

ومن يراقب الحياة والتاريخ جيدا لن يفوته أن الرقع ليست كلها تعطيك ترف الثبات. في الشطرنج، هناك لحظة تُسمى Zugzwang: حين يكون اللاعب واقفا في موقع لا يُهدد فيه، لكنه مُجبر على اللعب وأي حركة سيقوم بها ستكون خطأ. لا لأنه غبي، بل لأن الدور عليه، والرقعة لا ترحم من يُطالَب بالحركة في وقت الموت.

هذه ليست خسارة بالمعنى المعروف، بل مأساة نادرة: أن تُمنح حرية مزيّفة، وأن يكون سقوطك مشروطا بأن تحاول النجاة. وهذا بالضبط ما يحدث أحيانا. ففي فيلم Mr. Nobody، نيمو الطفل لا يملك اختيارا، بل يملك كل الاختيارات دفعة واحدة، فلا يتحرك.

نيمو ليس ملكا، لكنه أشبه ب"ولي عهد للأكوان المحتملة"، مسجون في لحظة Zugzwang كونية: إن اختار أمه، خسر أباه. وإن تحرّك خطوة، انكسرت باقي الروايات. وفي هذا الوضع يكون الأبكم هو الأذكى، والصمت هو أعنف نقد للرقعة نفسها. وفي خلفية هذا التمزق، لا تعزف السماء فاغنر ولا ماهلر، بل نسمع شيئاً أقرب إلى هدوء ديبوسي: موسيقى لا تفرض مصيرا، بل تتركه يتساقط كقطرات ماء على مرآة.

وفي أحيان كثيرة، تُفتح كل الأبواب ولا يُغادر أحد. تُكشف كل الأوراق ولا تُحسم اللعبة. ففي الشطرنج، ليست كل نهايات اللعبة "كش ملك". فأحيانا يقف الملك في مرمى السلاح، لكن لا أحد يطلقه. ربما ينتهي الوقت، أو تتكرر الحركات ذاتها ثلاث مرات، أو لا يملك الخصم ما يكفي ليُجهز الضربة. وتبقى الرقعة كما هي، والملك تحت “الكش”، لكن لا أحد يموت.

هذه ليست رحمة، بل نوع من المصير المُعلّق. كأن اللعبة تقول: "أردتك أن ترى أنك عارٍ، لكنني لن أقتلك. سأجعلك تبقى مكشوفا".

في الحياة، يشبه هذا لحظة التجلّي بعد الانهيار، عندما تُكشف الحقيقة، لكن لا تترتب عليها نهاية فورية، بل تبدأ حياة جديدة: واعية، خالية من الوهم، ثقيلة. لكنك حي، كمن نجا لا لأن العالم رحمه، بل لأن اللعبة لم تُنهِ دورَه بعد. الكشّ الذي بلا موت هو أن تكون في قلب التهديد دون أن تنهار، لأنك أصبحت أنت التهديد ذاته. لا لأنك أردت ذلك، بل لأنك بقيت في وسط اللعبة طويلا بما يكفي، حتى تغيّر موقعك من المستهدَف إلى الخطر نفسه. وكل هذا بدأ أصلاً قبل أن يعرف من هو. فحين وُلد، لم يُسأل عن اسمه، بل سُمّي بما أرادوه له أن يكون.


قيل له: "أنتَ الأمير".

فقبل.

قيل له: "أنت البطل".

فتظاهر أنه مستعد.

لكن في داخله، لم يكن يعرف ما إذا كان حقا يريد الرقعة، أم يريد أن يغادرها دون أن يخذل أحدا.

تنقّل بين مربعات كثيرة: رأى الملكة يُضحى بها، والبيدق يُكافَأ فقط إذا نسي نفسه، والوزير الحقيقي يعمل في الظل، والعبقري يُنكر موهبته حتى لا يُكمل اللعبة. رأى بيادق تمشي دون رغبة، ولا تزال تُملى عليها خطواتها، ورأى الملوك يُكشَفون لكن لا يموتون. وفي كل ذلك لم يكن يبحث عن مجد بل عن لحظة واحدة يقول فيها لنفسه: "أنا من اختار هذه الخطوة، لا من فُرضت عليه."

ولهذا لم يعد كما كان. لا عاد بيدقا، ولا أراد أن يكون ملكا. صار شيئا آخر: قطعة خارج الرقعة، لكن داخل التاريخ!

وفي مساءٍ أخير، حين انتهى كل شيء، ولم يبقَ في الذاكرة سوى طقطقة القطع، عاد الابن وحده إلى الرقعة. لم يكن أحد في المكان. لا موسيقى، لا أبيض ولا أسود، فقط خشبٌ داكنٌ أملس، ومرآة صغيرة مائلة في طرف الطاولة. اقترب منها. ، ظنّ أنه سيرى اللاعب الذي كان، أو الملك الذي حاول أن يكونه، لكنه رأى شيئًا آخر: شخصا يراقبه من بعيد. كأن اللعبة لم تكن بينه وبين والده، بل بينه وبين نفسه.

عندها فقط فهم: كل تلك الجولات، لم تكن اختبارا، بل مرآة. وأنه لم يكن عليه أن ينتصر، بل أن يرى.

ولهذا، لم يُحرّك قطعة واحدة. ولأول مرة، لم يشعر بأنه مطالب بشيء. ولأول مرة، حين فكّر في تلك الجملة التي ظلّت تلاحقه طيلة حياته: "لست جاهزا بعد"، قالها هذه المرة وهو يبتسم: "لكنني هنا."



#محمد_عبد_القادر_الفار (هاشتاغ)       Mohammad_Abdel_Qader_Alfar#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أين ذهبت بوهيميتي؟
- أكملي الدور (خارج النص، داخل الصورة)
- الجوكر في عين المخرج
- حين تعود الدببة: عن الانهيار الحضاري الوشيك
- لحم رقمي: وعي بلا دم
- في البدء كانت الموسيقى: رحلة في طقوس الغناء ومقدساته
- قبر اليراعات في غزة
- الإيمان عند كيركيغارد: بلا وسادة
- حين تهمس النجوم: من بيتكوين إلى مقياس كارداشيف
- الأناركية الفردية سوف تخفي الذهب تحت البلاطة، فوق الدولة
- ميم: رواية بضمير مستتر
- الإيقاع الحلال: ماذا لو جاز الجاز؟
- خطة الله في غزة
- سأم مع سبق الإصرار
- غزة: مشهد إضافي
- كاتب يطارد شبحه في أرشيف الإنترنت
- حين أخفى تاكاهيرو ذاكرة الرجل المسكين - 8
- حين أخفى تاكاهيرو ذاكرة الرجل المسكين - 7
- مذكرات تائب -٦
- مذكرات تائب - 5


المزيد.....




- بعد حجز كميات من المخدرات وحبوب الهلوسة، موريتانيا تُكثف الع ...
- خسائر قناة السويس بلغت 6 مليارات دولار ومصر تخفض رسوم العبور ...
- -نيويورك تايمز-: الديمقراطيون يعرقلون صفقة أسلحة بقيمة 3 ملي ...
- ترامب: زيلينسكي لا يمتلك أوراقا رابحة للتفاوض وقد أفرض عقوبا ...
- ترامب: منطقة الشرق الأوسط -عاصمة الطاقة- وكانت تتجه نحو الصي ...
- ترامب: أعتقد أنني سأعقد صفقة مع بوتين
- تهديد بالرقم -8647-.. ترامب يتهم مدير مكتب التحقيقات الفيدرا ...
- -تائه، صامت ويتلعثم-.. تسجيل صوتي لبايدن يكشف حقيقة أخفاها ا ...
- أوكرانيا تدعو لقمة مع روسيا بعد مفاوضات إسطنبول
- ترامب: غزة يجب أن تصبح منطقة حرية ونتنياهو في موقف صعب


المزيد.....

- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمد عبد القادر الفار - لستُ جاهزاً بعد (خارج الرقعة، داخل التاريخ)