أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمد عبد القادر الفار - أين ذهبت بوهيميتي؟















المزيد.....


أين ذهبت بوهيميتي؟


محمد عبد القادر الفار
كاتب

(Mohammad Abdel Qader Alfar)


الحوار المتمدن-العدد: 8340 - 2025 / 5 / 12 - 16:14
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


في أحد مشاهد فيلم Boyhood، يُطلّ وجه الطفل من نافذة السيارة.

المشهد عادي ظاهريا: طريق يتراجع، موسيقى خفيفة، وزمن يبدو وكأنه لا يعني شيئا، بل لوهلة يبدو وكأن العالم ينزلق خارجا بينما الطفل نفسه يظل في مكانه.

لكن شيئا في العين التي تراقب الخارج يشي بأن الخارج ليس وحده ما يتغير، أو فعليا ليس هو ما يتغير.

الطفل نفسه، الذي نراه الآن، لن يكون هو ذاته بعد قليل.

ليس لأن الأحداث ستقوده إلى مواقف تُنضجه، بل لأن الفيلم، ببساطة، قد صُوّر على مدار اثني عشر عاما، ولم يعد من حاجة لتمثيل التغيّر حين يكون الزمن نفسه هو من يتكفّل به.

ولذلك، فبين لقطةٍ وأخرى، تتبدل ملامحه كما يتبدل شعورك حين تستمع لأول مرة إلى اغنية خوليو إغليسياس: أين ولّت أيامي البوهيمية! Où est passée ma bohème.

ثمة شيءٌ لا يمكنك أن تحدد لحظة بدايته أو نهايته يتركك مختلفا. ولا تعرف هل تحنّ أم تفقد. هل تستعيد، أم تُسحب إلى الأمام دون مقاومة وأنت ترى كيف تنسحب من العين نسخٌ لا نعرف متى وُجدت ولا متى غابت !

هذا التبدّل الصامت، لا بوصفه تطورا، بل بوصفه تآكلا هادئا للنسخ القديمة، هو ما يجعلنا حين نصل إلى نهاية الفيلم لا نُشاهد ميسون وقد نضج بل نشاهد غريبا يشبهه بالاسم فقط، وكأنّ الطفل الذي عرفناه قد غادر منذ وقت طويل، دون أن يُلوّح لنا.

إنّ ما يبدو هنا كحيلة سينمائية، يتحوّل إلى تجربة وجودية مرّة: فأنت ترى الإنسان يتغير فعليا، لا كرمز، بل كلحم يتبدل وذاكرة تبهت ببطء.

في فيلم آخر، لكن من لحم الذات لا من نثر الحكاية، يجلس يوسف شاهين على سرير العملية في حدوتة مصرية. القلب مهدد، الجسد مفتوح، لكن الحوار ليس مع الأطباء، بل مع الطفل الذي كانه. كأن الهوية لا تُكتشف في مرآة، بل تُستخرج من تحت عظم الصدر.

وهكذا، سواء حدث التبدل عبر اثني عشر عامًا من التصوير كما في Boyhood، أو عبر لحظة تخدير في غرفة عمليات كما في حدوتة مصرية، النتيجة واحدة: الزمن لا يُظهر الحقيقة، بل يُعرّي التبدّل. نكتشف أننا لا ننمو، بل نتخلى بصمت عن نسخ كانت نحن.

وفي الخلفية، كما لو أن خوليو يغني وحده في غرفة بعيدة، نسمع:

Folle jeunesse

Toi qui nous laisse

Tant de tendresse

Et de regrets

يا شباب الجنون، يا من تترك فينا هذا القدر من العذوبة والندم.

لا يتعلق الأمر فقط بكون الشخصية تنمو، بل بأن الطفولة نفسها تفلت منك كما تفلت من الولد الذي في الفيلم، لا لأنها مضت، بل لأنك لا تعود قادرا على تذكّر وجهها.

في فيلم 8 ½  لفيديريكو فليني، لا نعرف إن كان "غيدو أنسيلمي"، بطل الفيلم، يبحث عن فكرة لفيلمه، أم عن نفسه.

فكل مشهد، كل امرأة، كل ظلٍّ في ذاكرته، يُعيد طرح السؤال ذاته:

من هو هذا الذي يحمل اسمي، لكنه لا يُشبهني؟

ومن أنا الآن، بعد أن اجتزت كل هذه الحيوات الصغيرة، دون أن أعرف في أي لحظةٍ خرجتُ من الأولى؟

وفي إحدى لحظات التوهان، يتكرر صدى طفولي غامض:

"Asa Nisi Masa"

ففي ألعاب الطفولة الإيطالية، ثمة طريقة لإخفاء الكلمات عبر دسّ مقاطع مثل "سا" أو "سي" بين الحروف…

وحين نجرّد "Asa Nisi Masa" من زخرفتها، يتكشّف تحتها شيءٌ يكاد لا يُقال:

"Anima" الكلمة الإيطالية التي تعني الروح.

روحٌ لا تُنطَق كما هي، بل تُلَفّ، وتُخبأ في اللعب، كما تُختبأ في السينما، كما تُختبأ فينا.

وكأن الذات، حين لا تقوى على قول نفسها صراحة، تلجأ إلى الحيلة، إلى الشعر، إلى اللغة الطفولية التي تُخفي أكثر مما تُظهر.

وكأن الروح نفسها قد اختبأت في كلمةٍ منسية، لا تعني شيئا، ولا تنتمي إلى أي لغة.

وهنا مرة أخرى تتسلل إلينا نبرة خوليو ناعمة كضوء المساء حين يقول في انكسار:

"Où est passée ma bohême"

أين ذهبت بوهيميتي؟

تلك "البوهيمية" لا تُفهم بوصفها نمط حياة، بل كـ"لحظة أصلية" في الذات : زمنٌ كانت فيه الهوية طازجة أكثر، صادقةً أكثر،  شاعريةً أكثر.

ولكن كما في 8½، وكما في الأغنية، ما من عودة ممكنة. فالبوهيمية لا تُستعاد، بل تُغنّى. والهوية لا تُسترجع، بل تُروى.

 كذكرى لشخص لا نعرف إن كنا نحن هو، أم أنه شخص أحبّنا يوما ونسينا أن نردّ له الشعور.

أما في فيلم The Curious Case of Benjamin Button فيبدو أن كل شيء يسير في الاتجاه المعاكس، لكننا لا نحتاج سوى إلى بضع دقائق كي نكتشف أن الزمن لم يتغيّر، بل خسر تبرير وجوده فقط! وأنّ بنجامين، بدل أن يعيش الغرابة، يعيش العزلة.

يعيش بنجامين العزلة ليس لأنه مختلف فقط، بل لأنه وحيد في تسلسله، فلا أحد يسير معه، ولا أحد سيعود معه. لا أحد يشبهه وهو ينسلخ عن الطفولة من الخلف، وينزلق نحوها من الأمام.

في طفولة بينجامين وهو في جسد شيخ يمكنك أن ترى وجهه تجعّد بالكامل لكنه مجرد طفل ينمو في جسد  شيخ متهالك يمضي به الزمن حتى يصبح شيخاً يحتضر في جسد طفل.

وفي أحد مشاهد الفيلم، لا نرى بنجامين، بل نرى الزمن. قطعة موسيقية، أبواب تُغلق، نظرة صغيرة تتأخر، ثم تتتابع اللحظات كأن العالم يختبر ما كان سيحدث لو تعثرت خطوة واحدة فقط.  مشهد "تأثير الفراشة"، تُصاب ديزي بحادثة صغيرة، لكن الفيلم يكشف كيف أن تأخر السائق، أو تردد الفتاة على الرصيف، أعاد ترتيب الحياة كلها.

كأن ما نصير إليه، ليس نتيجة قرار كبير، بل مجموعة انزلاقات زمنية لا ندري بوجودها أصلا. وهنا لا يعود الزمن هو الخطّ الذي نسير عليه، بل النسيج الذي يحيكنا دون أن نستأذنه. والهوية، في هذا السياق، ليست ما نبنيه، بل ما انجرفنا نحوه، لأن بابا فُتح في لحظة ما، أو ظلّ مغلقا.

إن كل ما فعله ذلك الفيلم هو أنه فكّ العلاقة بين الهوية والزمن، ليثبت أننا نفقد أنفسنا إذا لم نكبر في نفس الاتجاه الذي تمضي فيه قلوبنا.

هنا بالضبط، يصل خوليو بصوته المُنهك، وفي توقيت لا يرحم:

Les souvenirs me reviennent

Aussi brûlants qu autrefois

إن ذكرياتي تعود إليّ بنفس الحرارة التي كانت لها في السابق....

لكن الفرق هو أنّ الذكريات حين تعود لا يقوى الجسد على البقاء بما يكفي ليحملها.

بنجامين لا يستطيع أن يحتفظ بشيء، بما في ذلك اسمه نفسه، حين يبدأ في نسيان اللغة. وهكذا، كما في الأغنية، وكما في الفيلم، يبقى القلب كما هو، لكن "الهوية"، تلك التي كنا نظنها دائما صديقة الزمن، تبدو في النهاية كضيف عابر، لا نكتشف حضوره إلا حين يغادر.

لكن المشكلة ليست في الزمن وحده. ففي أحيان كثيرة يكون ما يجعلنا نُدرك هشاشة الهوية هو التمثيل نفسه، حين نشاهد شخصية تتكرّر في أعمار مختلفة بممثلين مختلفين، فيبدأ سؤال خفي بالتسلل إلينا:

من هو "الأصلي"؟ الطفل؟ الشاب؟ الشيخ؟ أم أن الهوية لا تسكن أيا منهم، بل تمرّ عبرهم جميعا، كما تمرّ الريح من نافذة إلى أخرى؟

في المسلسلات والأفلام التي تتطلب تمثيل شخصية واحدة على مدى أعمار متعددة، يُصبح التحدي ليس فقط في اختيار ممثل "يشبه"، بل في إيجاد نغمة داخلية مشتركة، كأنما يبحث المخرج عن نوع من الروح البصرية التي يمكن أن تعبر الزمن، وتبقى مقنعة.

مسلسل Dark، مثلا، لم ينجح فقط في اختيار ممثلين يشبهون بعضهم عبر الزمن، بل خلق إحساسا عميقا بأن الشخصيات فعليا تُعيد مقابلة نفسها بنَفَس، بعين، بنبرة مترددة، وبحيث لا يمكن أن تكون محض تقليد. ولذلك شعرنا وكأن الزمن في المسلسل ليس آلة تقليب أعمار، بل وسيلة لكشف النسخة الأعمق من الذات.

ونفس الأمر يحدث في الجزء الثالث من العراب The Godfather، لكن بالعكس: فهنا لا نشاهد شخصية تتغير على الشاشة، بل نشاهد الشاشة نفسها تتغير. فالزمن لم يمر فقط على مايكل كورليوني، بل مرّ على السينما ذاتها، على عدسة التصوير، على لغة الأداء.

الجزء الثالث لم يُصوّر بعد أشهر من الجزء الثاني، بل بعد ستة عشر عاما. وهذا ليس تأخيرا، بل هو كشف. لأننا حين نراه، لا نشاهد "استمرارا للحكاية"، بل نرى حكاية وقد لحقت بها الشيخوخة: شيخوخة الأداء، شيخـوخة النَفَس، شيخوخة السلطة، بل شيخوخة القناع ذاته الذي لم يعد يقنع حتى حامله.

لكن التحدي الأكبر يظهر حين لا نكتفي بتمثيل شخصية عبر أعمارها، بل نحاول أن نجسّد شخصًا حقيقيا، عاش فعلا، وترك أثرا، وصار معروفا للعالم. وهنا لا يصبح الممثل ناقلًا فقط، بل بديلًا، والهوية تصبح اختبارًا لا للصدق، بل للإقناع.

في أفلام السيرة الذاتية، الجمهور لا ينتظر فقط أن "يتقن الممثل الدور"، بل ينتظر أن يُعيد إليه مَن فقده. أن يرى على الشاشة رجلا، أو امرأة، ليسوا مجرد أداء، بل صدى حقيقي لصوت ما زال يرنّ في الذاكرة.

فحين قدّم راسل كرو شخصية جون ناش في فيلم A Beautiful Mind، لم يكن مطلوبا منه أن يشبهه شكليا، بل أن يُعيد بناء هشاشة العقل، وكرامة الانكسار، وحيرة النبوغ، وهي كلها عناصر غير مرئية، لكنها تَصنع الفرق بين تمثيل بارع، وتجسيد يُربكك.

وفي فيلم Oppenheimer، لا ينتظر المشاهد أن يعرف ماذا حدث، ولا ينتظر من كيليان مورفي ان يشبه اوبنهايمر، بل ينتظر أن يشعر ب"كيف كان أن تكون هو"، أن تحمل وزرًا لا يُحتمل، وأن ترى العالم ينفلت من يدك باسم عقلِك.

ولهذا، لا غرابة أن يعود الجمهور بعد مشاهدة الفيلم إلى صور الشخصية الأصلية، إلى صوتها، إلى مقاطع أرشيفية.

ليتحقق:

هل التمثيل "كان هو"؟

هل الممثل، ولو للحظة، صار امتدادا لما كان؟

وفي هذا الانزياح الخفي، تظهر فكرة مذهلة: أننا حين نرى التمثيل ناجحا، لا نفرح لأن الممثل "أتقن الدور"، بل لأننا شعرنا أن الهوية يمكن أن تُنقل،  أن تُستأنف، أن تُبعث.

وهنا، يعود صوت خوليو مجددًا، بهدوئه الرزين، ليقول:

Mon cœur est toujours le même

Car ma bohême, c est toi

إن قلبي لا يزال كما هو، لأن بوهيميتي هي أنت.

في هذه اللحظة، تتقاطع السينما مع الرغبة الأبدية في استعادة من غاب، وتُصبح الهوية شيئا نحاول الحفاظ عليه لا من أجل الحقيقة، بل من أجل الحب.

في السينما العربية، يبقى أحمد زكي حالة استثنائية من حيث التقمّص، فهو رجل امتلك قدرة لا على أداء الأدوار، بل على التحوّل إلى الدور ذاته. وحين جسّد جمال عبد الناصر، وحين قدّم أنور السادات، وحين اقترب من عبد الحليم حافظ، لم يكن التحدي في إعادة رسم الملامح، بل في إعادة إنتاج الهالة.

الغريب أن الجمهور تقبّله، بل صدّقه، وهو يؤدي شخصيتين شديدتي التناقض: عبد الناصر والسادات. لكن حين اقترب من عبد الحليم، توقّف شيء ما. لم تشتغل الشعلة، لم "يحضر" عبد الحليم، رغم الجهد الهائل والأداء المُرهف.

كأن الجمهور، دون أن يعي، كان يبحث لا عن الوجه، ولا عن الصوت، بل عن ذاك الشيء الذي يجعل شخصا ما هو نفسه، حتى لو فُقِد صوته وصورته. وهو الشيء الذي لم يُصِبْه التمثيل.

ربما لأن عبد الحليم، بخلاف عبد الناصر أو السادات، لم يكن شخصية "تُقرأ"، بل شخصًا يُحسّ. كأنه لم يكن "دورًا"، بل اهتزازًا عاطفيا فريدا، لا يتكرر مرتين بنفس التردد.

وهنا، تظهر حدود الفن: المكياج، الإلقاء، الحركات، كلها تقدر أن تُعيد بناء الشخصية، لكنها لا تضمن أن تدخلها الروح.

وكأن السينما تستطيع أن تكتب "أنا هو".... لكن لا يمكنها أن تُقنع القلب بذلك، إلا إذا أمكن لشيء آخر، لا يُرى، أن يتسلل عبر الصورة.

ومع أن الأفلام ليست كلها عن الماضي، لكن كل الأفلام، في جوهرها، تصدر عنه. فكل قصة تُروى على الشاشة، وإن بدت خيالية، فهي في الحقيقة محاولة لإعادة لحظة ضاعت، لحظة لم تُفهم حين كانت تحدث، أو لم تُعش كما ينبغي، أو لم تُحتمل.وكأن السينما ليست اختراعا للحكاية، بل تفاوضاً مع الفقد!

في فيلم The Tree of Life، لا يعود الأب، ولا يُشفى الحنين. لكن كل صورة وكل ضوء يمر من بين أوراق الشجر يقول شيئا ما: "لقد كُنت هناك، لكنّي لم أكن أعرف أنني كنت هناك." ولهذا، فالسينما، مثل الذكرى، لا تُعيد الحدث بل تُعيد الشعور به كما كان يجب أن يُشعر.

لكننا لا نقدر أن نُمسك اللحظة!

كل فيلم إذا هو محاولة لاستعادتها، وكل لقطة قريبة هي كفٌّ تُمدّ، لكنها لا تمسك سوى الهواء، قبض الريح، أو كما يقول عبد الحليم: "زي الهوا".

إن الزمن في السينما ليس ساعة، بل قرار! قرار يقطعه المخرج في أول مشهد: هل سيمنحك العالم كما يجري، أم كما يُروى؟

فهناك أفلام تحدث في يوم واحد فقط، لكنها تُشعرك أنك عشت عمراً كاملاً، مثل فيلم Before Sunrise، حيث يلتقي اثنان في ليلة لا تعِد بشيء، لكنها تحتوي كل شيء: الانجذاب، الخوف، الحوار، الانتظار، وتلك النظرة الأخيرة التي تقول أكثر من نهاية حب.

وهناك أفلام تُغطّي عقودا كاملة، أو قرونا، لكنها لا تُشعرك بمرور الزمن، بل بشيء يشبه النَفَس الطويل الذي لا ينقطع، مثل The Godfather، حيث لا يحكمك الزمن الخطي، بل الانتقال الخفي من سلطة إلى عزلة، ومن وجهٍ شاب إلى ظلٍّ لا يتكلم.

وهناك أفلام، مثل Boyhood، لا تقول شيئا عن الزمن، بل تتركه يقول نفسه.

الزمن في السينما، إذا، ليس كمّا تقيسه، بل نبر تنصت إليها، وقد يمتدّ على خمسين سنة، أو يُختزل في خمس دقائق، لكن ما يعلق في القلب، ليس "متى حدث"، بل "لماذا لم يعد ممكنا أن يحدث من جديد؟"

وهنا يعود خوليو ليقول باسم من لم يعودوا:

C était le temps des romances

C était le temps des discours

Des choses sans importance

Pourtant j y pense toujours

كان ذاك زمن العشّاق،

زمن الأحاديث العابرة،

أمور لم تكن تعني شيئا

لكنني، حتى الآن، لا أنساها.

لكن الأعمار لا تُقاس بالسنوات، بل بما اشتعل فينا ولم ينطفئ. ففيلم مثل Forrest Gump  يمتد على عقود: حرب، وطفولة، وحب، وصداقات. لكنك لا تخرج منه بشعور أنك عشت زمناً طويلاً، بل بشعور أنك دهشت، وما زلت تندهش. وكأن كل ما فعله الفيلم هو أنه أبطأ الزمن، لا ليشرحه، بل ليتركه يعبر فيك.

أما فيلم Cloud Atlas، فمقام آخر .ست حكايات، في ست أزمنة، لكن لا حكاية تسير وحدها. بل واحدة تُكمّل الأخرى، كما تُكمّل الجملةُ الموسيقيةُ نغمتها الضائعة: نفس العين تعود، ونفس الروح، وإن تغير الجسد والقرن والمصير.

هنا، الهوية لا تُختصر، بل تتكرّر وتُنسخ بتغيّر، وكأن العالم لا يتقدم، بل يُعاد بلغة مختلفة.

والموسيقى، لا كخلفية بل كجسر سري، تربط بين الزمن والذات، وكأن كل النهايات كانت مجرد ارتجاع لحظة أصلية لم نعرف كيف نعيشها أول مرة.

وفي ظلّ هذا التكرار الواسع، يعود خوليو ليقول بهمس الغائب:

"Des choses sans importance… Pourtant j’y pense toujours"

أشياء لم تكن تعني شيئًا… ومع ذلك، لا أكفّ عن التفكير بها.

ولكن إذا كان كل فيلم محاولة لاستعادة لحظة ما! فما الذي يُعاد حقا؟ وما الذي يُحذف؟ وإذا كانت كل لقطة تُنتقى، فما الذي يُنتقى،،، ومن؟ وما الذي يُقصّ من الحكاية، ومن؟؟ ودون أن يدري أنه لم يُروَ؟

في السينما، كما في الذاكرة، ليست الحقيقة هي ما نعرضه، بل ما نحتمله. والهوية، على ما يبدو، ليست كينونة متماسكة، بل مونتاج هادئ للصورة التي نقدر على النظر إليها.

نحن لسنا ما عشناه فعلا، بل ما صرنا قادرين على تذكّره، على تقطيعه، على إعادة ترتيبه بحيث يبدو معقولا، محتملا، مقبولا.

في فيلم Synecdoche, New York، يبدأ المخرج بمحاولة بناء نسخة طبق الأصل عن مدينته داخل مسرح مغلق. لكن مع الوقت، يزداد عدد الممثلين، يزداد عدد النسخ. ويصبح من المستحيل معرفة من الذي يمثل من، أو من الذي يعيش الآن ومن الذي لم يعش أبدا.

هناك لحظة في الفيلم، تنظر فيها شخصية إلى نفسها وهي تُمثَّل، وتُسأل: "هل هذا هو أنت؟". فتتردد بالإجابة. ليس لأن التمثيل ناقص، بل لأن الزمن جعل الأصل يتباعد عن نفسه.

الهوية لا تُحذف مرة واحدة، بل تُعاد كتابتها آلاف المرات، وفي كل نسخة، يتم قصّ شيء، وتدوير آخر، حتى تُصبح الذات هي ما تمكّنَ مونتاجها من النجاة.

لكن أحياناً، لا حاجة لكلمات، ولا حتى لحبكة. يكفي وجهٌ واحد، في لقطة قريبة، كي تنكشف هشاشة كل البناء.

والوجه في السينما ليس فقط وسيلة تعبير، بل هو ساحة الحرب بين ما نُظهر، وما لم نعد نعرف كيف نخفيه. فحين تنغلق العدسة على العينين، كما في المشهد الأخير من فيلم The Father، لا نرى فقط وجه رجل فقد ذاكرته، بل تُصبح الكاميرا نفسها أداة تشريح للهوية: فاللقطة ثابتة، قريبة حدّ الاختناق، والضوء ناعم، كأنما يغلف الوجع لا ليخفيه، بل ليُظهره وهو يتنفس. لا موسيقى، لا قطع، لا حيلة مونتاج، فقط وجه أنتوني هوبكنز يُحتَجز في كادر ضيق، وكأن السينما تقول: "انظر... لا مهرب!"

في لحظة كهذه، لا يعود الوجه حاملا للهوية، بل شاهداً على انهيارها. وكأن كل ما تبقّى من الإنسان هو ما لم يَعُد يعرف اسمه.

وفي فيلم Black Swan، لا نحتاج إلى معرفة القصة كاملة، يكفي أن نرى انعكاس وجه نينا في المرآة وهو يحدّق بها بعين مختلفة لنفهم أن الهويّة انقسمت، وأن ما يُعرض لم يعد ما يُعاش.

أما في في فيلم Face/Off فالوجه يتحول إلى قناع يُستبدل حرفيا. وما يثير القلق هنا ليس قدرة العلم على تغيير الملامح، بل عجز الإنسان عن استعادة نفسه حتى لو عاد له وجهه.

وفي كل هذه الأفلام، يظهر الوجه لا كمصدر يقين، بل كجهاز عرض: يعرض الحيرة، والرغبة في العودة، والتصالح المستحيل مع ما فات. فالهوية على الوجه لا تُقال، بل لعلها تُرتجف !

لكن الهوية لا تظهر في الصورة فقط، أو بتعبير آخر فإن الصورة ليست الحامل الظاهر الوحيد للهوية. فأحيانًا، تختبئ في الصوت، أو في محاولته أن يلحق بالصورة. ففي الدبلجة dubbing  أي إعادة تسجيل الحوار (أو أجزاء منه كما في الADR) يعيد الممثل تسجيل الجمل التي قالها أثناءه التصوير، لكن هذه المرة، داخل استوديو صامت. يحاول أن يُطابق صوته مع لحظة قديمة، مع مشهد لم يعُد واقفا أمامه، بل يتحرّك في شاشة أمامه.

وهكذا، لا يعود الصوت تعبيرا عن اللحظة، بل تفسيرا متأخرا لها. وكأن الهوية تتحدث من الخلف، تحاول أن تبدو وكأنها كانت هناك، لكنها في الحقيقة تلحق بشيء فات، وتحاول إقناعه أنها كانت تعرف ما تفعل.

السينما، بهذا، تكشف شيئا مرعبا وصادقا معا:

أننا لا نتكلم دائمًا ونحن نعيش اللحظة، بل أحيانا نُعيد قولها لاحقا بصوت أقل صدقا، لكنه أكثر وضوحا.

لكن حتى بعد أن تنتهي الحكاية، يظل فينا شيء لا يريد أن يُصدّق النهاية. فنحن نُغلق الفيلم، نُطفئ الشاشة، لكننا نظل نبحث عن أثر، عن صورة، عن صوت، عن طريقة نُعيد بها الذي كان.

الهولوغرام وعدنا بذلك. فأصبح بوسعنا أن نُعيد أم كلثوم إلى المسرح، أن نقيم حفلة جديدة لعبد الحليم، أن نمنح الموتى فرصة أخيرة ليغنّوا للغائبين.

والذكاء الصناعي والتزييف العميق  Deepfake يخطو خطوة أبعد، فهو يحاول أن يُعيد الابتسامة، ونبرة الصوت، والوجه كما كان يوما. حتى أنني حين شاهدت بدايات الديب فيك قبل 7 سنوات على الأقل قلت في مقال ما أن البشرية بهذا الاكتشاف قد قتلت البرهان المرئي والمسموع وأصبح راوي الفعل بذلك أقوى من فاعله.

ولكن، وبرغم ذلك، فإن شيئاً ما يظل ناقصا. لا لأن التقنية ضعيفة، بل لأن الهوية لا تُستنسخ، بل تُشعر.

في حلقة Be Right Back  من Black Mirror، تموت الشخصية الرئيسية في حادث، وتبدأ حبيبته باستعادته، أولًا عبر رسائل مكتوبة تحاكي أسلوبه، ثم مكالمات بصوت يشبهه، ثم أخيرا، جسد اصطناعي يحاكيه كليا.

لكن كل ما ازداد الشبه ازداد الفراغ، فالآلة تعيد كل ما يُرى ويُسمع، لكنها لا تعرف مثلا متى يسكت، ولا لماذا صمتُه أحيانا أهم من كلماته.

وحين تصرخ عليه في أحد المشاهد:

"لو كنت هو… لعرفت الآن أن لا شيء يجب أن يُقال."

نعرف حينها أن كل الاستعادة كانت مجرد تأجيل للفقد. لأنك حين تفقد شخصا ما، فأنت لا تفقد معلوماته، بل تفقد موقعه الذي احتله في داخلك، لا ما كان يرتديه ولا كيف كان يبتسم.

ولهذا، تعود كل هذه التقنيات خالية الوفاض إذا ما كان هدفها استنساخ الهوية، لأنها لا تقدر أن تُعيد إلا ما يمكن تسجيله، أما الذي جعلنا نحبّ هذا الشخص أصلاً فهو لم يُسجّل قط.

وهنا، يهمس خوليو مجددا كمن ينادي من خلف الغياب:

Les souvenirs me reviennent

Aussi brûlants qu autrefois

 الذكريات تعود إليّ… بنفس الحرارة التي كانت لها في السابق...

لكننا، الآن، لا نملك ما نحمله بها، ولا أحد يُعيدها كما هي.

وربما كنا لا نعرف على وجه الدقة ما تعنيه الهوية: فهل هي الوجه الذي نتعرف به؟ أم الصوت الذي لا نعرف لماذا نشتاق إليه؟ هل هي ما يتراكم علينا؟ أم ما يتقشّر منا؟

السينما حاولت أن تُمسكها، عبر الزمن، وعبر التمثيل، وعبر التلاعب بالواقع، لكن كل ما فعلته في النهاية أنها سلّطت ضوءا على الفراغ، لا على الكيان.

فما نراه في الفيلم ليس الشخص، بل أثره، ظلاله في الآخرين، أشباحه في الزمن، ندبته في اللغة.

وحين نحاول إعادة ما كان، سواء عبر مشهد، أو أداء، أو خوارزمية ، نكتشف أن الذي كان، لم يكن قابلا للنسخ، لأنه لم يُقل.

كان مجرد رعشة، أو لحظة صمت بين كلمتين، أو كسرا خفيفا في طبقة الصوت حين نطق "أنا".

ولهذا، لا تبقى الهويّة، بل تبقى الفتحة الصغيرة التي تركتها حين مضت!

وهنا، لا يبقى ما يُقال أكثر من سؤال خوليو. فهو سؤال لا يُجاب بل يتردَّد، كما تُردَّد الذكرى في غرفة فارغة:

"Où est passée ma bohême"



#محمد_عبد_القادر_الفار (هاشتاغ)       Mohammad_Abdel_Qader_Alfar#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أكملي الدور (خارج النص، داخل الصورة)
- الجوكر في عين المخرج
- حين تعود الدببة: عن الانهيار الحضاري الوشيك
- لحم رقمي: وعي بلا دم
- في البدء كانت الموسيقى: رحلة في طقوس الغناء ومقدساته
- قبر اليراعات في غزة
- الإيمان عند كيركيغارد: بلا وسادة
- حين تهمس النجوم: من بيتكوين إلى مقياس كارداشيف
- الأناركية الفردية سوف تخفي الذهب تحت البلاطة، فوق الدولة
- ميم: رواية بضمير مستتر
- الإيقاع الحلال: ماذا لو جاز الجاز؟
- خطة الله في غزة
- سأم مع سبق الإصرار
- غزة: مشهد إضافي
- كاتب يطارد شبحه في أرشيف الإنترنت
- حين أخفى تاكاهيرو ذاكرة الرجل المسكين - 8
- حين أخفى تاكاهيرو ذاكرة الرجل المسكين - 7
- مذكرات تائب -٦
- مذكرات تائب - 5
- مذكرات تائب - ٤


المزيد.....




- نوايا.. مبادرة مصرية تحيي تراث الطهي من خلال جولات ريفية
- بسبب العمليات العسكرية الإسرائيلية في الضفة الغربية.. المحاك ...
- بيان للحكومة السعودية عن زيارة ترامب للمملكة الثلاثاء
- الصليب الأحمر: الأسير عيدان ألكسندر في طريقه إلى نقطة التسلي ...
- مكتب نتنياهو: رئيس الوزراء اجتمع مع ويتكوف ووجه بإرسال وفد إ ...
- بن غفير: تلقينا دعما أمريكيا لفتح أبواب الجحيم على غزة
- الفصل الثامن والثمانون - غودفريد
- ترامب: نفكر بشكل جدي في تخفيف العقوبات عن سوريا
- ترامب يقول انه يفكر بالتوجه إلى إسطنبول حيث يعقد الاجتماع بي ...
- بعد مفاوضات مباشرة مع واشنطن.. حماس تقرر الإفراج عن الرهينة ...


المزيد.....

- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمد عبد القادر الفار - أين ذهبت بوهيميتي؟