أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمد عبد القادر الفار - لا تدخل هذا الحيّز (خارج البنيان، داخل المقام)















المزيد.....

لا تدخل هذا الحيّز (خارج البنيان، داخل المقام)


محمد عبد القادر الفار
كاتب

(Mohammad Abdel Qader Alfar)


الحوار المتمدن-العدد: 8350 - 2025 / 5 / 22 - 22:01
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


في غرفة بيضاء بلا نوافذ جلس أحد المعماريين وحيدا أمام طاولة من خشب الزان.

 لعله بيتر زومتور في شبابه، قبل أن يتقن تقطير الضوء داخل الخامة، وقبل أن يقتنع فعلا أن الصمت يمكن أن يكون مادّة بنائية.

على الجدار المقابل، شاشة بلا صوت تعرض مشهدا من فيلم 2001: A Space Odyssey وتحديدا المشهد الأخير، حين يتحول الزمن إلى غرفة، وتصبح الحياة جملة ضوئية تتكرر في زوايا لا يحدث فيها شيء، لكن كل شيء يتغير.

 لم يكن المعماري ينظر إلى الشخصية، بل إلى الإطار. إلى التقاء الظل بالحائط، إلى توزع الأثاث مثل علامات صامتة على سطر نوتة لم تُعزف بعد.

 في الخلفية، شيء يُشبه الموسيقى: طقسٌ سمعي هادئ، يكرر نفسه ببطء كأنه يحرس الصمت.  ربما كانت لفيليب غلاس، أو نسخة منه أبطأ قليلا وأكثر حيادا.

نغمة لا تسعى إلى التطور، بل تدور حول نفسها. كما يفعل الضوء في المكان، حين لا يجد شيئا ليسقط عليه.

 وحتى تلك اللحظة، لم يبدأ المعماري بالرسم بعد... ربما لأنه أدرك أنه لا يتحكم باللحظة،، بل ينتظر أن ينضج فيها شيء.

أو ربما ينتظر أن يقول له المكان ما يريده. والمكان لا يتحدث بسهولة، لكنه لا يكذب أيضا.

تماما كما ينتظر موسيقي أن تكتمل داخله نغمة واحدة، قبل أن يجرؤ على كتابتها.



وفي مكان آخر .. وربما في توقيت لا ينتمي تماما لنفس الزمن،

 كان معماريان آخران يعملان معا على تصميم متحف.

لم يتحدثا كثيرا.

لكنك لو أصغيت لخيال كل منهما، لسمعت لحنا مختلفا كليا!

 أحدهما كان يخط كمن يستمع إلى هانز زيمر:

كل خط يتجه إلى الأعلى، كل مساحة تطلب صدى. كل فراغ يجب أن يُحدث توترا قبل أن يفرج.
السقف عنده ليس سقفا فقط بل جملة لحنية تنتظر الانفجار.
أنت لا ترسم هنا.
أنت تؤلف تصعيدا!


 والآخر كان كمن ينصت إلى ستيف رايش:

 يكرر نفس التكوين بهدوء. لا يبحث عن المفاجأة، بل عن التحوّل عبر التراكم.
كل شباك يشبه الآخر، لكنك بعد العاشر تبدأ تلاحظ الفرق.


لم يكن أيٌّ منهما يقلد الموسيقى التي يسمعها.

بل كان كلٌّ منهما يرسم صوتا خفيا، بطريقة ما.

كانا يؤلفان مكانا كما يؤلف المرء مزاجا!

 لم تكن المسألة شكلا .. بل توقيعا إيقاعيا يصعب تقليده!

 الصوت لم يعد يُستخدم لتوليد لحظة، بل لبناء فراغ!


 ولذلك، كان لا بد أن تتحول بعض العمارة إلى أوركسترا كاملة، تُصعّد، وتكسر، وتنفجر. كما تفعل المقطوعات الكبرى.

وليس كل معماري يعرف متى يدخل الكمان!



والتوتر لا يولد من الضجيج فقط.

أحيانا، يولد من غرفة تنتظر أن يُطرَق بابها منذ سنوات.

وحين يُفتح باب المكتبة في ذلك البيت الريفي من فيلم Interstellar، لا يبدأ المشهد بموسيقى بل بصدى.

صدى لا يأتي من آلة، بل من فراغ انتظر طويلا أن يُلمَس.  فهو لا يريد من يسكنه، بل من يوقظه!

 كل ما في اللقطة معمار:

 الخشب الجاف الذي يئن تحت وطأة الزمن،
 الضوء الخافت المتسلل من نافذة بلا ستائر،
 والسكون. ذلك السكون الذي لا يُسكَت بل يُصغى إليه.
 صمت فيه نغمة غير معزوفة بعد.


 وعندما يدخل هانز زيمر بأورغنه العظيم، لا يبدأ الموسيقى،  بل يبدأ المكان:

النوتات كأنها مخططات لحزن كوني،

والسلم الموسيقي كدرج البيت ذاته.

درج يُصعد إليه لا ليبلغ طابقا علويا،

 بل ليُستعاد شعور ما.

شعور بأن الصوت لا يولد من فم، بل من فراغٍ انتُظِر بما يكفي.

كأن ذلك المشهد تذكير لنا بأن المكان، حين يُصمَّم بعناية، يمكنه أن يُبطّئ الزمن، لا أن يكتفي بمجاراته.


والمعماري الجيد يعرف متى يصمت، لا متى يتكلم فقط!

إن العمارة، في جوهرها الأعمق، ليست مجرد فن تشكيل الفراغ.

بل هي فن تأليف الصمت، وتحويله إلى مادة قابلة للغناء.

ومنذ اللحظة التي قرر فيها الإنسان أن يبني جدارا،

لا ليتقي به المطر،

بل ليحتفظ فيه بصدى صوته،

بدأت العلاقة الحميمة بين المعمار والموسيقى.


كان لويس كان يتأمل في أصل العمارة ويقول:

"ما الذي جعل الإنسان يقوم ببناء أول جدار؟ لقد أراد أن يحدد مكانا!"

ولعله كان يعني أن البداية الحقيقية لم تكن في الطوب، بل في الإنصات.

وكأن الجدار، في نظره، لم يكن حدّا فقط، بل بداية لنوع من الإصغاء.

مكان لا يُغلَق على الإنسان، بل يفتح له صدى داخليا،

يُعيد تشكيل العلاقة بين ما يُقال، وما يُبنى.

وهناك، في المسافة بين الحائط والصوت،

نشأ شيء يشبه الهارموني،

شعور خفي يحدث حين يتحول المبنى إلى آلة:

كل عمود فيها نغمة،

كل فتحة ضوء فاصلة موسيقية،

وكل بيت، في النهاية، مؤلفة سمعية يعيش فيها الناس

دون أن يدركوا أنهم يعزفونها كل يوم.

وليس كل من يسكن بيتا يعلم أنه يعزف لحنه أيضا !

لم يكن برنارد هيرمان حين يؤلف الموسيقى المصاحبة للأفلام يؤلف موسيقى فقط.

 بل كان، أحياناً، يرسم ممّرا.

 ممّرا ضيقا فيه ظل،

 وفي الظل توتر،

وفي التوتر شخص مختبئ خلف ستارة،

 ينتظر الطعنة.. أو النجاة.

لم يكن هيرمان يأبه إن كانت آلاته كثيرة أو قليلة، بل كان يهمّه أن تصرخ الوتريات

كما يصرخ قلب بطل هيتشكوك وهو يهبط سلّما لا ينتهي.

 الأصوات لم تكن ملحّنة، بل مدفوعة.

 كما تدفع الريح بابا قديما في بيت فارغ.

وفي مشهد الحمّام الشهير من Psycho ، لا ترى الطعنة.. بل تسمعها.

ولا تسمع فقط، بل ترى الجدار ينكمش من الذعر، كأن البلاط صار جلدا!

 الماء، الستارة، المربعات البيضاء على الجدار.

كلها تدخل في الجملة الموسيقية.

 الحمّام هنا لم يُبنَ ليُستخدم، بل ليصرخ!

غرفة أُغلقت لتستحضر الصدمة، لا لتُحاكي الراحة.

كأن هيرمان قرأ مخططات المشهد كما يقرأ موسيقي ورقة نوتة.

وهنا المفارقة: أن أكثر الغرف صمتا، هي التي تُلحن على أجمل نحو.

ولهذا كانت عمارة لويس باراغان، في أقصى هدوئها اللوني،

تحوي صدى داخليا يكفي لكتابة سوناتا كاملة.. من الضوء وحده.

هيرمان يصرخ بالموسيقى، وباراغان يهمس باللون.

لكن كليهما، في النهاية، لا يبني جدارا.

بل يبني فراغا يخلق التوتر من الصمت.

وليس الصوت وحده من يبني التوتر.

فحتى الصمت، حين يُصمَّم بعناية،

يمكنه أن يربكك، أو يعيد ترتيبك من الداخل.

هل رأيت يوما قاعة أوبرا فارغة؟

لا أحد فيها،

لكنك تشعر أن كل مقعد يتذكر من جلس عليه.

الخشب يحتفظ بحرارة الصوت،

والجدران تعكس ما لا يُقال.

وهذا ما تعنيه العمارة حين تُصمَّم كأنها آلة موسيقية،

لا لتُعزَف..

بل لتكون جاهزة كي تعزفك أنت، حين تدخلها.

في موسيقى فيليب غلاس، لا تبحث عن ذروة.

لا انتظار لانفجار،

ولا شهوة للّحن الكامل.

هناك فقط نغمة واحدة، تبدأ صغيرة،، ثم تعود.

تلتف من حولك كأنها تتحسس حدود حضورك،

وتعيد نفسها كأنها تسأل:

هل سمعتني حقا؟

أم مررت بي كما يمر الضوء بجدار غير لامع؟

وربما يُشبه هذا النوع من المعمار تلك الآلة العجيبة: الثيريمين،

التي كانت من الآلات المفضّلة لدى برنارد هيرمان أيضا.

لا تُلمَس، بل تُعزَف بالاقتراب منها فقط، كأن الصوت يراقبك.

ثم تعيد نفسها..

لكن بشيء خفي تغيّر:

خفّة أكبر،

أو ثقلٌ لا يُرى.

كأنها تبني حولك فراغا لا تراه.

وكل نغمة تصبح حجرا صوتيا،

وكل تكرار طبقة جديدة من المعنى.

حتى تجد نفسك داخل غرفة سمعية،

لم تكن تدري أنك دخلتها.

بعض المعماريين لا يصمّمون كي يثيروا دهشتك،

بل كي يعيدوك إلى نفسك،، مرة بعد مرة.

جون باوسون، تاداو أندو، وغيرهم.

 لا يبنون الجدران لتحتويك،

بل لتكرّرك.

ممر ضيق. ضوء واحد. فتحات متكررة.

وكل خطوة تُعيدك إلى نفسك،،

لكنك لست ذاتك في كل مرة.

 عندهم، لا يكون المبنى مأوى،

بل آلة تأمل.

غرفة تتنفس بالصمت،

وكل جدار فيها يقول لك ما تقوله موسيقى غلاس:

"ابقَ هنا. اسمع الصمت.

دع الفراغ يعيد تشكيلك".

المبنى هنا لا يستقبلك فقط بل يعيد تشغيلك!

وليس بالضرورة أن يكون المبنى كنيسة، أو ديرا، أو بيت تأمل.

 أحيانا، يكفي أن يُصمَّم الصمت جيدا.

كما في فيلم A Special Day (بالإيطالية Una giornata particolare) للمخرج الإيطالي إيتوري سكولا،

حيث لا شيء يحدث، ولكن كل شيء يتغيّر.

المبنى الضخم، بواجهاته الرمادية ونوافذه المتكررة،

لا يضمّ حياةً، بل يعزلها.

والشقة التي تدور فيها الأحداث،

ليست مجرد خلفية،،

بل جهاز استقبال صامت.

كل جدار فيها يشبه نغمة معلّقة.

كل فتحة ضوء تمرّ عبر الغسيل، لا تقول شيئا،

لكنها تُنصت لكل شيء.

وفي غياب اللحن،،

يظهر طقسٌ داخلي،

كما في موسيقى فيليب غلاس.

شيء يتكرّر بهدوء،

يلتفّ حول الشخصيات،

لا يدفعها،، بل يعيد تشكيلها.

وهذا هو جوهر الفراغ الحميمي:

أن يُتاح لك أن تُرى دون أن تُراقَب،

وأن تُسمَع دون أن تنطق.

وأن تمرّ في المكان، دون أن تُمسك بك الكاميرا!

وهذا ما تعرفه أيضا بعض المشاريع المعمارية المعاصرة.

كما في Church of the Light،

التي صمّمها تاداو أندو في أوساكا.

حيث الجدار لا يُخبرك شيئا،

لكنه يقسّم النور، كأنه يقطع نَفَسك.

أو كما في Novy Dvur Monastery،

الذي أعاد جون باوسون ترميمه في التشيك.

هناك، لا يُملّ التكرار،

بل يصير وسيلة لإعادة اكتشاف الوقت.

وكما أن موسيقى فيليب غلاس لا تنتمي إلى لحن،

بل إلى طقسٍ سمعي،،

كذلك العمارة هنا،

لا تنتمي إلى وظيفة،

بل إلى طقسٍ وجودي.

أن تعبر المكان كما تعبر تأمّلا.

أن تمشي، لا لتصل،

بل لتعود.

ولعلّ العودة، في هذا النوع من العمارة، هي الشكل الوحيد للتقدّم!

 ولكن ليست كل الأمكنة تدعوك إلى السكون.

بعض الفراغات لا تشبه التأمل…

بل تشبه التصعيد.

كأنك دخلت نفقا صوتيا،،

لا يُخرجك،

إلا بعد أن يعيد ترتيبك من الداخل.

حين تُصمَّم المساحة بهذا الشكل،

تصبح مثل موسيقى هانز زيمر:

متوترة، ضخمة، لا تطلب إذنك،

بل تفرض حضورها.

الأصوات فيها ليست نغمات، بل كتل.

والصدى لا يرتدّ من الجدار،

بل ينبثق منه، كأنه كان هناك منذ زمن.

 لا فرق كبير بين الأرغن في موسيقاه،

وبين سقف عالٍ يحتبس تحته الهواء.

ولا فرق بين نغمة مطوّلة،

وبين شعورك وأنت تمر في ممر خالٍ من النوافذ.

هذا النوع من العمارة لا يُصمَّم ليُسكن،

بل ليُجبرك على تغيير إيقاعك.

هنا، لا تُقاس المسافة بالمتر،

بل بالزمن الذي تحتاجه لتصير حاضرا بالكامل.

ضوء لا يدخل،، بل يتسلل.

كأنما الوقت نفسه هو الذي يكتب خطاه على الجدران.

وكل خطوة داخل المكان،

كل سكوت،

كل التفاتة،،

تصبح جزءا من مقطوعة لا تُعزَف،

بل تُعاش.

وهكذا، كما تتباين الآلات، تتباين العمارة.

لا فرق بين نغمة مكررة، وخط معاد.

كل آلة لها إيقاع، وكل مبنى له نَفَس.

من يصمّم على إيقاع ستيف رايش،

يرسم الخطوط بتكرار دقيق.

كل فتحة شباك تكرّر أختها،

وكل عمود يُبنى كما لو أنه دقّة ميتروون على ورقة نوتة.

هذا هو جون باوسون، مثلا، في Design Museum بلندن:

الجدران ناعمة،

الفتحات محددة،

ولا شيء زائد.

الزائر لا يندهش،

بل ينضبط.

الإيقاع البصري فيه يشبه اللحن الذي لا يتغيّر،

لكنه يغوص فيك، دون أن يطلب منك شيئا.

هذا النوع من العمارة لا يصرخ،

بل يراقب كيف تتغيّر نفسك، وأنت داخله.

أما من يعمل في فضاء زيمر،

فكل نغمة في رأسه تطلب مادة مختلفة:

انفتاحا دراميا،

سقفا ينكسر،

ضوءا يندفع،

ظلا يبتلع الجدار.

لا يبحث عن سكون،

بل عن لحظة انفجار محسوبة.

قد يرى المسكن كما رآه ستيفن هول في St. Ignatius Chapel في سياتل:

فراغات تتوالد من بعضها،

كل منها بلون،

كل منها بنغمة.

أو كما فعل لويس كان في مكتبة جامعة إكستر،

حين جعل النوافذ آلات لضبط الزمن العقلي،

لا مجرد فتحات للرؤية.

فكل شعاع ضوء هناك،، له توقيت، لا صدفة.

لكن بعض المعماريين والسينمائيين لا يبحثون عن انفتاح،

ولا عن تكرار.

بل يزرعون شكّا صامتا في قلب كل جدار،

ويجعلون من المسكن مكانا لا للفهم،

بل للتيه المدروس.

في سينما لويس بونويل،

البيت لا يُصمَّم لاحتضان المعنى،

بل لحجبه.

في فيلمه El ángel exterminador "الملاك المُبيد"،

لا يستطيع الضيوف مغادرة الصالة،

كما لو أن الجدران استيقظت على تواطؤ غير مُعلن.

الفراغ هنا لا يُحتل،،

بل يُقاوم.

وكأن بونويل يذكّرنا:

أن بعض العمارة لا تصنع الطقس،

بل تُجيد نصب الفخ.

وأن الجمال أحيانا،

لا يحرّر،،

بل يُربك.

هذا ما يمكن أن نشعر به أيضا في Casa Estudio ،

التي صمّمها المعماري المكسيكي لويس باراغان في مكسيكو سيتي.

حيث الممرات لا تقودك إلى وجهة،

بل تجرّك عبر حالة من الترقب البصري.

مساحات تتعاقب بلا منطق خطي،

وغرف تظهر كما لو أنها لم تكن هناك،،

ثم انكشفت.

هذا النوع من التجربة الحسيّة،

الذي يُربك أكثر مما يُرشد،

لا يحدث صدفة.

بل يُبنى باستخدام ما يمكننا أن نطلق عليه:

الإفصاح المكاني المؤجل delayed spatial revelation.

وهنا تصبح العمارة فنّا لتنظيم إدراك الإنسان، وتوقيت انكشاف الحيّز أمامه،

بحيث لا تُقدَّم له التجربة دفعة واحدة،

بل تُكشَف تدريجيا.

مثل رقصة داخلية،،

تُؤدّى بلا جمهور.

هنا، لا تُصمَّم الفراغات لتُرى،

بل لتُكتَشف.

تماما كما أن بعض الجمل الموسيقية،

لا تُعزف مباشرة،

بل تنتظر أولا أن يُنصَت إليها.

وقد تحدث عن هذا المعنى الفيلسوف المعماري الفلنلندي يوهاني بالاسما Juhani Pallasma،

الذي رأى أن العمارة ليست تجربة لحظية،
بل فعلٌ حسّي يُكتشف تدريجيا عبر الزمن.

وفي كتابه The Eyes of the Skin، يؤكد بالاسما أن المعمار الجيد لا يُرى دفعة واحدة،

بل يُشعَر به: بالصوت، والملمس، وتغيّر الضوء.

وكل خطوة تُعيد تنظيم إدراكك للمكان

وبين من يُؤجّل المعنى ليُربك،

ومن يُصعّد التوتّر ليفجّره،

تقف مدرسة ثالثة.

لا تُربك،

ولا تُفجّر،

بل تُبطّئ ظهور المعنى،

لتمنحك فرصة أن تُنصت إليه فعلا.

مدرسة لا ترى العمارة كمسكن،

ولا كوظيفة.

بل كآلة روحية،،

تُستخدم لا لتخدم الجسد،

بل لتُوقظ الداخل.

تماما كما سأل لويس كان،

ذات مرة:

"What does this space want to be"

سؤال لا يبحث عن وظيفة،

بل عن نغمة دفينة،

في شكل المكان..

وهناك من لا يصمّم كغلاس،

ولا يُصعّد كزيمر،،

بل يصغي.

كما يصغي ألبرتو كامبو بايزا في Casa del Infinito:

جدارٌ حجري واحد، أفق مفتوح،

وبلاطة مسطحة تقول لك:

"اجلس. تنفّس. أنت لست في بيت. أنت في لحظة."

أو يهمس..

كما يهمس بيتر زومتور في Therme Vals

حيث الحجارة لا تحيط بك،

بل تنصت إليك..

كل مادة فيه ليست للتشكيل،

بل للإصغاء.

حاضرة،، لا لتتكلم،

بل لتُصغي بصمتها.

في عمارة من هذا النوع لا يوجد لحن.

بل صدى،،

صدى متروك لك،

كي تكتشفه بنفسك.

 وفي النهاية،

ليست المسألة أي موسيقى يستمع إليها المعماري

بل: أي صمت يريد هذا المعماري أن يُحيطك بك.

فالمباني لا تقول الحقيقة دائماً، لكنها بالضرورة تُنصت إليها.

والمكان الجيد، كما اللحن العظيم…

لا يفرض عليك شعورا، بل يتيح لك أن تعثر عليه.

كمن يعثر على نغمة قديمة بداخله.

ولا فرق، فعليا، بين العيش داخل مبنىً، والعيش داخل مقطوعة طويلة.

فكل باب يُفتح،

وكل ضوء يتسلل،

وكل صدى يعلَق في الزاوية،،

ليس مجرد تفصيل،

بل نغمة تُضاف إلى حياتك دون أن تنتبه.

وربما لهذا السبب لم تكن العمارة يوما فنا للصوت فقط،

ولا للصمت فقط..

بل فنا للإنصات الطويل،، إلى الداخل.



#محمد_عبد_القادر_الفار (هاشتاغ)       Mohammad_Abdel_Qader_Alfar#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لستُ جاهزاً بعد (خارج الرقعة، داخل التاريخ)
- أين ذهبت بوهيميتي؟
- أكملي الدور (خارج النص، داخل الصورة)
- الجوكر في عين المخرج
- حين تعود الدببة: عن الانهيار الحضاري الوشيك
- لحم رقمي: وعي بلا دم
- في البدء كانت الموسيقى: رحلة في طقوس الغناء ومقدساته
- قبر اليراعات في غزة
- الإيمان عند كيركيغارد: بلا وسادة
- حين تهمس النجوم: من بيتكوين إلى مقياس كارداشيف
- الأناركية الفردية سوف تخفي الذهب تحت البلاطة، فوق الدولة
- ميم: رواية بضمير مستتر
- الإيقاع الحلال: ماذا لو جاز الجاز؟
- خطة الله في غزة
- سأم مع سبق الإصرار
- غزة: مشهد إضافي
- كاتب يطارد شبحه في أرشيف الإنترنت
- حين أخفى تاكاهيرو ذاكرة الرجل المسكين - 8
- حين أخفى تاكاهيرو ذاكرة الرجل المسكين - 7
- مذكرات تائب -٦


المزيد.....




- لحظة استهداف الجيش الإسرائيلي لمبنى في بلدة تول جنوب لبنان
- سلسلة غارات إسرائيلية على مناطق في الجنوب والبقاع في لبنان
- هل تُمهّد استعادة الخرطوم الطريق لنهاية الحرب في السودان؟
- قبل جولة التفاوض الخامسة عراقجي يؤكد: لن نتخلى عن حق تخصيب ا ...
- ترامب: الاتفاق المحتمل مع إيران يسير في الاتجاه الصحيح
- ألمانيا تعتقل شخصا يشتبه بأنه عضو في ميليشيا الحوثي اليمنية ...
- بالفيديو.. منظومة -بوك إم 2- الروسية تعترض بنجاح هدفا جويا خ ...
- استئناف عمل عدة مخابز بعد دخول كميات محدودة من الدقيق
- قائد القوات الأوكرانية السابق: لا ينبغي لأوكرانيا أن تنتظر ح ...
- رغم قرار المحكمة العليا وتحذير المستشارة القانونية: نتنياهو ...


المزيد.....

- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمد عبد القادر الفار - لا تدخل هذا الحيّز (خارج البنيان، داخل المقام)